دولـة الـبـيـانـات

ظاهرة البيانات السياسية بنبرتها الاحتجاجية في بلادنا ليست جديدة، بل تكاد ترتبط بشكل وثيق مع بداية نشأة الدولة السعودية، في أدوارها الثلاثة، وليست مقتصرة على فئة دون غيرها بل تشمل تقريباً جميع الفئات. وتدور البيانات في الغالب إما حول مطالب ذات صبغة دينية أو حقوقية مدنية. وتمثّل كتابة البيانات أحد أبرز أشكال التعبير المطلبي في غياب قنوات تعبير جماعي، التي عادة ما تتكفل بها مؤسسات المجتمع المدني والاحزاب السياسية.

وتعكس البيانات هوية جماعة معينة أيديولوجية أو سياسية، كما تستهدف التأثير في سياسة الدولة في موضوع محدد أو جملة موضوعات تتعارض مع مصلحة هذه الجماعة أو تلك. ولذلك، يجتهد أصحاب البيانات في رصف المحاجّات العقلية والمنطقية التي تدعم دعواهم، ويكون المجتمع عادة ساحة الاختبار الحقيقية لقياس تموّجات البيانات وتداعياتها وصولاً الى التأثير في القرار السياسي. ولهذا السبب، فإن البيانات تلوذ برفع منسوب العاطفة الجماهيرية لتمرير في بعض الحالات وجهة نظر ذات مستوى منطقي أو عقلي منخفض.

مهما يكن، فإن البيانات باتت وسيلة دارجة ومؤثرة في العلاقة بين فئات المجتمع وتياراته وبين السلطة، وهي تنمّ عن انحصار آليات التعاطي والتفاهم بين الطرفين ضمن حدود ضيقة للغاية، وهذا ما يفسّر أحياناً كثافة البيانات والاسلوب المباشر في التعبير عن الرأي أو المطلب.

حتى بداية التسعينيات من القرن الماضي، كانت البينات أو العرائض تكتسي صبغة حقوقية مدنية، وتنأى عن الدخول في المجال السياسي المباشر، كما أنها تعبّر في الغالب عن هوية طائفة أو جماعة محددة وربما قرية، وهذا ما يجعل العرائض السابقة غير معلومة لبقية الطوائف والجماعات، ليس فحسب بسبب ضعف الوسائل الاتصالية التي تسمح بانتشار ووصول أنباء ما يجري في منطقة ما الى المناطق الاخرى، بل وأيضاً لأن البيانات في السابق كانت إما محدودة التداول أو كونها تتسم بالسرّية التامة. وكان الشائع حينذاك، أن رواج خبر أية عريضة ترفع الى السلطة يكون مفسدة لها ويحبط العمل والغرض اللذين من أجلهما جرى اعدادها، وهذا ما كانت تروّج لها الحكومة ذاتها، التي تمقت كل مايمت بصلة الى الاعلام خصوصاً حين يتعلق الأمر بمظالم واقعة على فئة أو فئات من الناس، ولذلك كانت تحرص أيما حرص من أجل إبقاء وسائل التعبير عن المظالم والمطالب مكتومة ومقتصرة على من بيده القرار ومن وقع عليه الظلم.

يستثنى في الفترة ماقبل التسعينيات المطالب السياسية التي تعود الى بداية الستينيات حين بدأت التشكيلات السياسية بالتبرعم تحت تأثير الموجة الناصرية، حيث لم يكن للعرائض بالطريقة التقليدية السائدة آنذاك ضرورة طالما أن الاحتجاج السياسي العلني قد بلغ درجة متقدمة، بل تجاوزت تلك التشكيلات السلطة القائمة وطالبت بتغييرات جوهرية داخل النظام الحاكم إن لم يكن استبداله، وبالتالي فهي رفضت ضمنياً مشروعية الدولة السعودية.

بعد حرب الخليج الثانية في أغسطس 1991، بدأت العرائض تأخذ صبغة سياسية واضحة، وتعكس توجّهات أيديولوجية وسياسية تتجاوز أحياناً الأطر التقليدية. في حقيقة الأمر، أن البيانات أصبحت منذ التسعينيات تفصح عن تشكيلات سياسية ذات صفة أيديولوجية محددة، نميل اليوم الى تسميتها بالليبرالية والدينية، على الرغم من أن هذه القسمة ظلت ومازالت محفوفة بشبهات جسيمة، لما تحمله الدمغتان من دلالات معينة لدى المجتمع، ولأن المدرجين في القائمتين قد لا تنطبق عليهم مواصفات أي مسمى منهما.

بيانات التسعينيات اشتملت على أجندات إصلاحية وفق رؤية أيديولوجية متباينة، وفيما اكتفى التيار الاصلاحي الوطني، بعد أن وضعت حرب تحرير الكويت أوزارها، بإيصال رسالته الاصلاحية الى الملك مؤثراً الانسحاب كما هي عادته غير الكريمة الى معاقله السابقة، واصل التيار السلفي السياسي نشاطه البياناتي، فأصدر مانيفستو إصلاحي فور الإعلان عن الأنظمة الثلاثة في مارس 1992 فكانت (مذكرة النصيحة) أول تعبير فصيح عن لا مشروعية الدولة السعودية القائمة، حيث طالب الموقّعون البالغ عددهم مائة وواحد وعشرون شخصاً من مختلف أجهزة المؤسسة الدينية والتي أفضت لاحقاً الى الاصطدام بالسلطة واعتقال عدد من الرموز السلفية الناشطة، وتوقفت حركة صدور البيانات الى مابعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001، حيث بدأت تنتعش في مرحلة لاحقة تارة بإسم الدفاع عن المملكة في الحرب على الارهاب كما فعل بعض المثقفين في رسالة الى الرئيس الاميركي بوش وأخرى بعد إعلان الحرب على العراق، حيث بدأ التيار السلفي يصدر بيانات متواترة يوجّه فيها الجماعات الجهادية داخل العراق، ويشدّ من أزر المقاتلين، فيما كانت الجماعات المسلّحة تعدّ لموجة عنف دامية في الداخل. أما التيار الاصلاحي الوطني فقد بدأ في يناير 2003 برفع أول عريضة بعنوان (رؤية لحاضر الوطن ومستقبله) اشتملت على برنامج اصلاحي متكامل لسياسات وأجهزة الدولة، وتواصلت بيانات التيار الاصلاحي بطابعها السياسي والوطني فصدرت سلسلة عرائض بعناوين مختلفة (دفاعاً عن الوطن)، واخرى عن الملكية الدستورية، ثم توقفّت حركة البيانات عند التيار الاصلاحي منذ اعتقال رموزه الفاعلة في السادس عشر من مارس 2004، فيما كان التيار السلفي مشغولاً بقضية المقاتلين في العراق، فيما آثر قسم فاعل منه في الاصطفاف خلف السلطة في مواجهة خصمها التقليدي: الليبرالي. وحين فرغت الدولة من تصفية حسابها الامني مع الجماعات المسلّحة وحسابها السياسي مع التيار الاصلاحي الوطني، كان قسم من التيار السلفي بدأ يستشعر الخسارة من وراء التدابير المفروضة على الحكومة لتقليص دور المؤسسة الدينية وتنقيح المناهج التعليمية كشروط دوليّة للدخول الى مرحلة العولمة بأبعادها المتنوعة، وكان الصراع داخل أجنحة السلطة والاصطفافات الناجمة عنها سبباً رئيسياً وراء تفعيل الجزء الخامل من التيار السلفي كيما ينبري للاضطلاع بمهمة إصدار البيانات ذات النبرة الاعتراضية والتعبوية التي تعبّر عن رؤية دينية وسياسية محددة.

بيانات العلماء ليست موجّهة لأحد محدد وليست للمناصحة في السر كما جرت العادة، بل هي بيانات للأمة، وإن كانت تشتمل على توجيهات ومطالب محددة لـ (ولاة الأمر)، فصدرت سلسلة بيانات كانت أواخرها: بيان الـ 108، وبيان الـ 14، وبيان الـ 130، وبيان الـ 61 وقد كسرت البيانات الاخيرة محرمات سياسية، بما يشير الى تطور خطير في دولة البيانات.

الصفحة السابقة