مصر والسعودية

تنافس على زعامة وصلت الى الحضيض

يحي مفتي

مصر تكوينيّاً هي المؤهلة لزعامة العالم العربي، المشرقي منه على الأقل. ونقول تكوينيّاً لأسباب ديمغرافية واستراتيجية أخرى لا علاقة لها بطبيعة نظام الحكم السياسي فحسب. فقد كانت مصر (زعيمة!) في العهد الملكي وهي لمّا تتخلص من الإحتلال، وكانت زعيمة في عهد الثورة الناصرية، ولكنها تراجعت بعد وفاة عبدالناصر حتى وصلت زعامتها اليوم الى الحضيض.

متنافسان في الإستبداد والإنبطاح!

والسعوديون من جانبهم قبلوا بادئ الأمر بالخضوع الى زعامة مصر، وقد توّج ذلك زيارة الملك عبدالعزيز للقاهرة في الأربعينيات الميلادية، في إشارة الى مكانة مصر. ولكن سوريا والعراق كانتا دوماً تطرحان نفسيهما بديلاً لمصر في زعامة المشرق العربي، حتى في عهد عبد الناصر. لا ننسى هنا مماحكات عبدالكريم قاسم في العراق، ومماحكات البعثيين السوريين أثناء الوحدة المصرية ـ السورية. وقد ترك السوريون بالذات بصماتهم على خطّ عبدالناصر القومي، فقد كان يميل بادئ الأمر الى (الوطنية المصرية) قبل أن يتوسع الى (القومية العربية) وينظر لها.

أما السعوديون، فقد وجدوا مصر مركز العالم بالنسبة لهم، فقد كانت سبقتهم في كل شيء، علماً وفناً وسياسة وعسكراً. بيد أن المال الذي بدأ يتدفق على السعوديين خاصة في الستينيات الميلادية وما تلاها، أعطى السعوديين دوراً إقليمياً أكبر، خاصة وأن نزعة الزعامة لديهم كانت عالية مشوبة بالتعالي العنصري/ المذهبي، كان قد عبّر عنها الملك عبدالعزيز منذ العقد الثاني للقرن العشرين لأمين الريحاني، وقال قولته المشهورة: (حنّا العرب) ولم يقبل بأن تكون رئاسة العرب إلا فيه وذريته!

وحين وقفت السعودية قبالة مصر الناصرية وحاربتها على المستوى الأيديولوجي والسياسي وحتى العسكري الذي كانت ساحته اليمن، لم يكسب الأمراء السعوديون أرضاً ذات أهمية، فالعراق لم يقبل بالخضوع لزعامة سعودية، كان هذا شأنه منذ أن وجدت دولة العراق عام 1921م وحتى اليوم، وسوريا لم تكن ولاتزال لا تقبل بخضوع تام للسعوديين، رغم ضعف جناحها في عهد الأسد الأب بسبب وقوف مصر بل كل العرب ضد رؤيتها للصراع مع إسرائيل، ولكن بشار الأسد بمجرد أن وجد له أرضاً صلبة بعد انتصارات حرب صيف 2006، شبّه الحكام السعوديين والمصريين والأردنيين بأشباه الرجال! والحال نفسه كانت مع مصر الناصرية حتى مع هزيمة 1967م، لم تكن لتقبل الخضوع لآل سعود.

برحيل عبدالناصر لم تتغير معادلات الزعامة، ولكن تحويل السادات الى خندق واشنطن بشكل يشبه (العمالة) وذلك على يد رئيس الإستخبارات السعودية كمال أدهم، وعلى النحو الذي فصّل فيه بالمعلومات والوثائق هيكل في كتابه (خريف الغضب)... وجد هنالك تحدّ لأن تكون مصر في عين الغرب بديلاً عن آل سعود، لكن السادات بقي تحت رحمة الرشاوى والمعونات السعودية زمناً الى أن جاءت زيارته لإسرائيل، فرأت السعودية تأكيد زعامتها وقبلت بطرد مصر من الجامعة العربية.

اما في عهد مبارك، فلم يستطع أن يكون بديلاً عن آل سعود، بسبب ما لدى الأخيرين من وفرة مالية، ومن توظيف حاد للدين في مشاريع أميركية مختلفة، وبدا ان التمايز بين البلدين، مصر والسعودية، قليلاً، وأن النفوذ السعودي في دول الخليج ولدى دول عربية عديدة أوسع من نفوذ مصر نفسها.

وبانهيار النظام العربي، خاصة منذ بداية الثمانينيات الميلادية، واحتلال بيروت، بقي كرسي الزعامة شاغراً، يتطلع اليه كل من هبّ أو دبّ من الصغار، فيما كانت الدول الكبيرة مشغولة بمشاكلها الداخلية وبحروبها كما هي الحال مع العراق وسوريا وحتى الجزائر. ومع تهلهل النظام العربي، كانت هناك عدة إطارات نفوذ للدول الكبيرة، ولكن لكل منها سياسته ومصالحه، دون أن يستطيع أحد أن يفرض نفسه قطباً أوحداً، لا السعودية، ولا مصر، ولا سوريا، ولا العراق ولا غيرها.

اكتشف النظام العربي الذي يعيش أزمة قيادة وأزمة تغيير وأزمة إصلاح وأزمة تنمية، وأزمات أخرى، أنه أقلّ من أن يواجه نفوذ إيران المتسارع، فضلاً عن نفوذ إسرائيل. وأضحى العالم العربي تبعاً لذلك مجرد محطة اختبار لمشاريع دولية أميركية وأوروبية، يخيطونها يوماً، ويحلّونها يوماً آخر، وآخر التقليعات كانت مشروع المعتدلين العرب، الذي تنضوي تحت لوائه مصر والأردن والسعودية اضافة لإسرائيل.. لمواجهة ايران وسوريا وحزب الله وحماس.

الأزهر هل يستطيع تحجيم الوهابية؟!

وحتى الآن فإن هذا المشروع بلا رأس واضح: إذ لا توجد زعامة حقيقية جديرة بالطاعة عدا الولايات المتحدة!

ومن هنا يأتي الحديث عن تنافس مصري ـ سعودي على النفوذ والزعامة، مجرداً من معانيه. فالزعامة تحتاج الى رجال وطنيين مخلصين، وليس الى أتباع أقرب الى العملاء منهم الى رؤساء الدول. وتحتاج الى سياسات وتخطيط، وتحتاج الى قرارات جريئة وإصلاحية شاملة، كيما يتم تصنيع نموذج للزعامة في مجاليها السياسي والتنموي. وكل هذه الدول التي تعتبر نفسها (زعيمة) لا تمتلك مؤهلات الزعامة، لا من حيث قيادتها ولا سياستها. وبالتالي على ماذا يتصارعون ويتنافسون؟ هل على المزيد من التنازلات لإسرائيل، أم على المزيد من الخضوع لأميركا وسياستها (في مكافحة الإرهاب) أو (مكافحة الأنظمة المارقة) أو على (بيع ما تبقى من فلسطين) وما تبقى من (خيرات الأمة)؟!

الخبير البريطاني، جون برادلي، الذي كتب كتاباً عن السعودية، تحدث عن السعودية ومصر، وما يتعلق بمكانتهما ومستقبل نظاميهما، وصراعهما على النفوذ، فقال في مقابلة مع (المصري اليوم) بأن لا اختلافات بين عهدي فهد وعبدالله (فالاستبداد قائم ومستمر، وعندما كان عبدالله ولياً للعهد قبل عشر سنوات، قال كثيرون إنه سيكون إصلاحياً عندما يتولي الحكم، إن مؤيديه وأنصاره هم الذين روجوا لذلك). وأضاف بأن التسعينيات شهدت حديثاً عن الحاجة الى الإصلاح، خاصة وأن الوضع الديمغرافي والإقتصادي بدأ بالتغير، وزادت نسبة الفقر والبطالة. وقال أنه ليس الفقراء وحدهم من يكره العائلة المالكة، بل حتى الأغنياء، الذين يرونها فاسدة ومتعنجهة (وفي مناطق مثل الحجاز وعسير والشرقية لا يزال الأهالي يعتبرون آل سعود قوة احتلال استعمرتهم بالقوة وفرضت عليهم الوهابية).

ومن وجهة نظر برادلي فإن آل سعود فاسدين، ولكن الملك هو الأقل فساداً وتطرفاً من سابقيه. وأن الثروة النفطية المتزايدة تعطيه فرصة لتحسين الوضع الداخلي، واعتبر استخدام المال طريقة سعودية في مواجهة الأزمات، ولكنها (استراتيجية سطحية ولا تحل المشاكل فعلياً، ويمكنها أن تساعد فقط على كسب الوقت، وتأجيل حسم الأمور من جذورها).

أيضاً رأى برادلي أن شعار الحرب على الإرهاب أفاد العائلة المالكة التي تقوم (بقمع المعارضين لها بدعوى حماية الأمن القومي للبلاد، وتعرض الليبراليون السعوديون لنفس القمع الذي تعرض له الإرهابيون، وفي هذا الاتجاه يمكن القول إن الحرب الأمريكية ضد الإرهاب، أفادت الأسرة الحاكمة وساعدتها علي الإطاحة بالمعارضة، وقد انتهجت كل الأنظمة العربية نفس الاستراتيجية بل إن أمريكا نفسها فعلت ذلك، لكن تأثيرها السلبي ظهر بوضوح في المنطقة العربية لعدم وجود ديمقراطية من الأساس فيها).

واشنطن والقاهرة والرياض

مصر والسعودية خاضعتان لواشنطن. لا يشك أحدٌ في ذلك، لكن البعض يرى أن مصر تتأثر بأميركا في حين أن السعودية تتأثر ولكنها تؤثر أحياناً. برادلي يرى أن النظام المصري كشف كل أوراقه لواشنطن ونفذ كل ما تطلبه أميركا منه منذ السبعينيات مقابل المعونة، وبالتالي لم يعد للنظام المصري (كارداً رابحاً) في حين أن الأميركيين يدركون أن ذلك النظام (مثل كل الأنظمة المستبدة لا يهتم سوى ببقائه في الحكم). السعوديين أبقوا بعض أوراقهم بالرغم أنهم مستبدون مثل النظام المصري، ولكن لازال بيدهم ورقة النفط، وورقة الإسلام التي تستخدم في قضايا العراق وفلسطين.

ومع هذا يرى برادلي أن كلمات أو ضغوط الملك السعودي على واشنطن (غير قوية أو ذكية، ولم تأت بنتائج، ولكن النقطة المهمة أنه لا أحد يعلم بالفعل إلي أين تسير الأمور داخل البيت الحاكم. وعلى عكس النظام المصري، فإن الحكام السعوديين جيدون للغاية في إبقاء الأمر غامضاً، وجعل الجميع يفكرون فيما سيحدث، وبكلمات واضحة أقول إن النظام السعودي أستاذ في فن الدبلوماسية الدولية). وزيادة على ذلك قال برادلي أن السعوديين أقاموا علاقات شخصية مع الرؤساء الأميركيين، ساعدت على تخفيف الضغط عن السعوديين، بعكس علاقة مبارك. ويضرب مثالاً على ذلك بما جرى بعد 11/9 (فعلى الرغم من أن من منفذي الهجوم الـسعوديون، وقيام السعودي أسامة بن لادن زعيم تنظيم القاعدة بتنظيمه وتبني القاعدة نفسها للفكر الوهابي المتطرف الذي يعتنقه فقط أقلية من المسلمين، لكن يرعاه آل سعود المتحكمون في وسائل الإعلام بالشرق الأوسط.. فإنه تم احتواء موجة الغضب ضد الأسرة الحاكمة في المملكة، ولم توجه إدارة بوش انتقاداً إليها، بل قامت بغزو العراق، الدولة التي لا تربطها أي علاقة بالقاعدة وأدانت - مثل إيران تماماً - تفجيرات سبتمبر).

التنافس المصري السعودي

ومن وجهة نظر برادلي، فإن هناك صراع زعامة بين مصر والسعودية وله جذور عميقة في مستويات سياسية واستراتيجية، كما ويعتقد بشيء من المبالغة بأن نتائج المنافسة (يمكن أن تحدد مستقبل العالم الإسلامي بالكامل وليس العالم العربي فقط، لأن مصر تاريخياً تتبني الليبرالية في السياسة، والعولمة في الثقافة، والاعتدال في الدين، والاختلاف في الرأي، وفي المقابل تتبني السعودية السياسة المحافظة، والثقافة المنغلقة، وعدم الاعتدال في الدين وأحادية الرأي).

يعيد برادلي التنافس أو الصراع المصري السعودي الى عهد محمد علي باشا الذي احتل الجزيرة العربية في القرن التاسع عشر ودمر دولة الوهابيين الأولى، وهي المهمة التي أداها (بنجاح ساحق) وبالتالي (قدم خدمة جليلة للإسلام لأنه حرر مكة من فئة متطرفة للغاية) حسب قوله. ولكن (لسوء الحظ) عادت قوة السعوديين من جديد، وتدعمت بعد اكتشاف النفط الذي (أدّى الى استخدام الأموال الوفيرة لنشر الوهابية في العالم الإسلامي كالنار في الهشيم، وقد نجحت بالفعل في اختراق بعض شرائح من المجتمع المصري عن طريق المصريين العائدين من هناك، وأعتقد أن الصدام الطائفي بين المسيحيين والمسلمين في السبعينيات يتزامن مع تدفق المصريين إلى السعودية للعمل. كان المصريون مسلمين ومسيحيين يعيشون في سلام لقرون عديدة، لكن الوهابية نشرت فكرة أن المسيحيين كفار، ويجب قتلهم إذا لم يتحولوا إلي الإسلام، ولا أعتقد أن مثل هذه لها أصل في الثقافة المصرية أو الإسلام المعتدل الذي يعتنقه المصريون).

وتطرق برادلي الى الصراع السعودي المصري في عهد عبدالناصر، ثم تقارب الطرفين في عهد السادات، ولكن الوضع اليوم هو التالي: (لا أعتقد أن هذا التنافس موجود بقوة بين مبارك وعبدالله، لأن كليهما مشغول بأشياء أخرى، وكلاهما ليس مهماً على الإطلاق، وأرى أن التاريخ لن يذكرهما كقائدين عظيمين. لكن تبقى المنافسة جوهرية وأيديولوجية بين مصر ومؤسسة الأزهر السنيّة المعتدلة والسعودية ومنهجها الوهابي المتشدد، وتاريخياً، مصر في هذه الناحية هي الأقوي لكن صعود السعودية في الفترة الحديثة تزامن مع تراجع مصر، خصوصاً بعد ارتماء الأزهر في أحضان النظام العسكري. على المدى الطويل ستنتصر مصر مجدداً، وعلينا فقط أن ننتظر حتى ينتهي النفط من السعودية).

الصفحة السابقة