(نهر البارد).. الغرق السعودي

خالد شبكشي

مع اندلاع الاشتباكات في مخيم نهر البارد في الشمال اللبناني بين تنظيم (فتح الإسلام) والجيش اللبناني في 20 مايو الماضي لم يكن فريق الفتن سواء داخل لبنان أم خارجه أن بنكاً من الأسرار سينفجر دفعة واحدة، وفيما كان صمت المعتدلين العرب ينبىء عن تواطؤ ما بانتظار نتائج حرب (البارد)، كان الفريق اللبناني السلطوي يخطط على نحو عاجل لاستدراج الجيش الى حتفه من أجل تحريك الخلايا الفتنوية في المناطق الأخرى لجعل الفوضى الخلاّقة واقعاً لبنانياً.

في المقابل، جاءت المواقف المضادة لتشكّل طوقاً ممتمداً على المشهد السياسي الداخلي والإقليمي، ونجحت في تفكيك (كمين) الفتنة. وخشي رئيس الوزراء اللبناني فؤاد السنيورة الارتدادات العنيفة ضد حكومته من جراء دعوته باقتحام الجيش للمخيمات واستعمال القوة المفرطة، حتى لو أدّى ذلك الى سقوط ضحايا من المدنيين، وتشريد أعداد كبيرة من العوائل الفلسطينية من خارج المخيم، ما قاد الى تراجع فريق السلطة في لبنان عن لهجته الحادة، كما هو حال الحكومة السعودية التي صمتت عدة أيام بحسب العادة القديمة، رغبة في إعطاء الجيش فرصة الوقوع في الفخ المنصوب له باقتحام المخيم تحت حجة حماية السيادة والشرعية، ولكن بعد أن تبين حجم السخط المتعاظم داخل المخيم وكذلك في الشارع الفلسطيني سواء داخل لبنان أو الأراضي الفلسطينية المحتلة، بدأت اللهجة الإنسانية المفتعلة تتسرب الى التصريحات السياسية اللبنانية والسعودية، بل أن سعد الحريري الذي كان يدفع الجيش لمزيد من التورط بدأ ينقل مساعدات إنسانية الى سكّان مخيم نهر البارد، في وقت كانت الشعارات تنطلق من داخل المخيم نفسه ضد فؤاد السنيورة وسعد الحريري، ودفعت السعودية أيضاً مساعداتها العاجلة بقيمة نصف مليون دولار بعد أن بدأت تتكشف أسماء المقاتلين السعوديين بين عناصر فتح الاسلام.

إعلان السفير السعودي في لبنان عبد العزيز خوجه عن مقتل سعوديين أربعة في صفوف (فتح الاسلام) وأنهم من عناصر (القاعدة) وصف بعملية (إفساد طبخة) فريق 14 آذار الذي يديره الأمير بندر. وقال خوجة في تصريحات نشرتها صحيفة الحياة في السابع والعشرين من مايو (علمنا أن هناك سعوديين وسوريين ولبنانيين وجزائريين واخرين من جنسيات عدة ينتسبون الى تنظيم فتح الاسلام وهم يحملون فكر تنظيم القاعدة). كان مستغرباً رد الأمير نايف على تصريح خوجة بنفي ضلوع سعوديين في معركة (نهر البارد)

خوجة الذي يمثّل خطاً متعارضاً مع خط آخر في الدولة السعودية الممثل في وزير الداخلية الأمير نايف والأمين العام لمجلس الأمن الوطني الامير بندر سلطان الحليف والمهندس الرئيسي لكثير من مخططات فريق 14 آذار قد يلفت الى توجّه وزارة الخارجية السعودية التي تميل الى عدم التورط في تفاصيل اللعبة اللبنانية أو غيرها من اللعب السياسية الدائرة في المنطقة. سعى خوجة الى أن يميّز بين خطين داخل الدولة السعودية، وربما أراد تأكيد ذلك خصوصاً بعد أن بدت تتكشف خيوط لعبة (فتح الاسلام) حيث وجد نفسه ملزماً بما يمكن وصفه فضحاً لورطة (فتح الاسلام) وأن ينقذ الخط الآخر في الدولة السعودية، من أجل الإبقاء على طهارة النصف الآخر من الكأس.

جدير بالذكر أن السفير خوجة كان على قائمة الاغتيالات لدى جند الشام وفتح الاسلام، وقد أوصل جهاز الاستخبارات السوري تقريراً الى الحكومة السعودية بهذا الخصوص في مارس الماضي، بحسب إيلاف في 2 مارس الماضي. وقد ذكرت الصحافة اللبنانية في الثلاثين من مايو الماضي معلومات أمنية عن (عمل إرهابي كبير)، ومن بين أهدافه محاولة لاغتيال سفير دولة خليجية في بيروت. وفي اليوم التالي مباشرة كشفت صحيفة (الوطن) السعودية عن إيقاف السلطات الأمنية اللبنانية لعنصرين قرب منزل السفير السعودي عبد العزيز خوجة.

في سياق مماثل، إعتبر الرئيس اللبناني إميل لحود في مقابلة مع قناة (الجزيرة) في السابع والعشرين من مايو بأن (مواجهات نهر البارد جزء من مؤامرة التوطين..). ونشير هنا الى الدور الذي لعبه الأمير بندر في تسويق مبادرة الملك عبد الله التي كان أعلنها في بيروت العام 2002، والتي رفضها الجانب الإسرائيلي ما لم يتم إلغاء مبدأ حق العودة، حيث تعهد الأمير بندر بإقناع عدد من الحكومات العربية بالتخلي عن هذا المبدأ على أن تقوم حكومات خليجية مثل السعودية والإمارات والكويت بتقديم تعويضات للاجئين الفلسطينيين في الخارج من أجل توطينهم. وقد أوردنا في (الحجاز) تقارير عدة سابقة عن الدور الذي لعبه الأمير بندر على مدار الشهور التي سبقت انعقاد القمة العربية في الرياض في مارس الماضي من أجل إقناع عدد من القادة العرب من أجل التخلي عن مبدأ حق العودة.

ووفق التحقيقات الأمنية اللبنانية في قضية عين علق، فإن ثلاثة سعوديين كانوا من بين تم إيقافهم في مطار بيروت، بينهم عبد الله بيشي، من أبرز عناصر تنظيم فتح الإسلام، وهو مطلوب في السعودية،. ونقلت سي إن ان في السابع والعشرين من مايو عن مصادر أمنية لبنانية عزت وجود سعوديين في مجموعة فتح الإسلام الى وقوعهم في شرك الخداع، حيث كانوا يرغبون بالذهاب الى العراق، غير أنهم اكتشفوا بأن المجموعة ترغب بتنفيذ عمليات في لبنان، ما دفعهم الى محاولة المغادرة لتوقفهم القوى الأمنية اللبنانية في مطار بيروت. غير أن هذا القول يتعارض مع معلومات أخرى تحدّثت عن التغييرات الهيكلية التي أجرتها شبكة القاعدة حيث تم تعيين قيادات جديدة لتنظيمات الشبكة في أفغانستان، والعراق، وبلاد الشام، والتي جرى توظيفها لصالح أجندات دول إقليمية عبر تغيير صبغة الصراعات الدائرة في المنطقة وإضفاء الطابع المذهبي المطلوب إقليمياً وأميركياً.

نايف: عنزة ولو طارت!

وقد صدرت فتوى داخلية من الشيخ أيمن الظواهري في السابع عشر من مارس الماضي يقول فيها أن (تنظيم فتح الإسلام هو جزء من القاعدة) وصدرت تعليمات بإسناد ولاية لبنان الى شاكر العبسي الى جانب تأمين الدعم المالي والبشري، وإلحاق جميع العناصر المرتبطة بتنظيمات القاعدة في لبنان بقيادة العبسي.

وكان سعوديون من بين مجموعة دخلت الى لبنان عبر المطار وضمّت 200 عنصراً توزعوا على مركز صامد في مخيم البداوي في الشمال ومركز صامد في مخيم برج البراجنة في ضاحية بيروت الجنوبية. ويتحفظ الجيش اللبناني على عدد من المعتقلين السعوديين المتورّطين في عمليات أمنية متعددة، كما تتحفظ قوى الأمن الداخلي على عدد من السعوديين الذين دخلوا بطريقة غير شرعية وحاول بعضهم الهرب عبر المطار الا أنه جرى إيقافهم. وقيل بأن عبد الله بيشي، أحد قادة التنظيم، نصح بعض السعوديين بالعودة الى ديارهم وأن لا علاقة لـ (فتح الاسلام) بالجهاد، فيما ذكرت مصادر أخرى بأن ذوي بعض السعوديين قدموا الى بيروت وأبلغوا السفارة السعودية التي أبلغت بدورها السلطات اللبنانية، فباشرت البحث عنهم، وقد يكون للسفير السعودي جهد خاص في هذا الشأن بعد أن كشف عن وجود سعوديين بين عناصر فتح الاسلام مما أدى الى استنفار العوائل في السعودية للبحث عن أبنائها، وعدم تحويلهم الى أوراق لعبة بيد من خطّط لعمليات فتح الاسلام. ويتولى السعودي أبو صهيب، المعروف بإسم عبد الفتاح فيصل المأمون، منصب النائب الأول والمسؤول المالي للتنظيم.

في مقالته بعنوان (من يقف خلف القتال في شمال لبنان؟) المنشورة في الثامن والعشرين من مايو ذكر فرانكلين لامب من مخيم البداوي والتقى مع النازحين من مخيم نهرالبارد الذين أخبروه بأن عناصر فتح الاسلام وصلوا في سبتمبر ـ أكتوبر 2006 وهم من المملكة السعودية وباكستان والجزائر والعراق وتونس ودول أخرى، وليس بينهم فلسطينيون باستثناء بعض (الجلادين). ثم يقول (يقول معظمهم إنهم مدفوعون من قبل مجموعة الحريري)، حيث تم تكليف الحريري زعيم تيار المستقبل بإستيعاب بقايا المتطرفين السابقين في المخيمات الفلسطينية، حيث يتلقى كل مقاتل 700 دولار شهرياً. وبخصوص قصة سرقة المصرف المزعومة، يقول لامب بأن تيار المستقبل أوقف حساب (فتح الاسلام) في المصرف، وحاولت الأخيرة التفاوض للحصول على تعويض على الاقل دون نجاح وشعرت أنها تعرضت للخيانة.

ونقلت وكالة روتيرز في مايو الماضي عن مسؤولي استخبارات أميركيين سابقين بأن آخر تدفق للأموال بدأ في ديسمبر الماضي في محاولة لخلق ثقل في مقابل حزب الله. ونقلت الوكالة عن المصدر نفسه أن (بين الجهات التي تلقّت الأموال (عصبة الأنصار). وقالوا إن أموالاً أيضاً ذهبت إلى جماعة (فتح الإسلام). واعتبروا (أن الولاء لجدول أعمال السعودية وأسرة الحريري هو المتوقّع في المقابل).

نشير الى أن بروز هوية السعوديين المشاركين ضمن مقاتلي (فتح الإسلام) في إشتباكات نهر البارد مع الجيش اللبناني قد أثار سخطاً عارماً في الوسطين اللبناني والفلسطيني، الأمر الذي فتح الباب على طائفة كبيرة من الأسئلة حول الرعاة الحقيقيين والمحرّضين والمموّلين، وهذا ما يفسّر الاستنفار العاجل لدى أجهزة أمنية عربية منها السعودية والاردن التي وصلت الى بيروت في الثاني من يونيو من أجل تطويق مصادر المعلومات، عبر تسلّم رعاياهم من القوى الأمنية والعسكرية اللبنانية، حيث حصلت إستخبارات الجيش اللبناني على معلومات بالغة الأهمية من بينها عدد المشاركين وهوياتهم، وكميات الأسلحة وأنواعها المستعملة في الاشتباكات وخطط المجموعة في الداخل اللبناني حيث تم العثور على كميات كبيرة من الذخائر والمواد المتفجّرة في مناطق مختلفة من لبنان، من بينها سيارات مفخّخة بعضها يستهدف مناطق محددة مسيحية وشيعية.

من جهتها كشفت صحيفة (الأخبار) البيروتية في الرابع من يونيو عن (أن عناصر سعودية تتولّى مواقع مهمة ونافذة داخل فتح الإسلام والقوى المتواصلة معها)، وأكدت أن لهؤلاء (صلات قوية بالمجموعات التي تتولى إدارة جانب من عمليات تنظيم القاعدة اللوجستية في المنطقة والمتعلقة بنقل إمدادات بشرية ومالية وعسكرية إلى العراق، أو تدريب مجموعات استعداداً لأعمال في مناطق أخرى غير العراق).

ولفتت الصحيفة إلى (أن الشبكة التي كُشِفَ عنها في السعودية أخيراً كانت تعمل على مشروع أكبر بكثير مما أُعلن عنه قبلاً، وأن لديها ترابطاً مع مجموعات منها ما هو موجود في العراق وفي لبنان أيضاً). وأضافت (أن السعودية تُمارس ضغطاً جدياً لأجل الوصول الى هؤلاء، ويفضل أن يُساقوا أحياءً الى السلطات السعودية التي لا تهتم بما يفعلونه في لبنان بل بحجم صلتهم بالمجموعات الأخرى وخصوصاً الناشطة في السعودية) وأشارت الصحيفة إلى وجود (إلتزام جدِيّ من جانب فريق 14 آذار للرياض كما للأردن بالوصول الى نتائج في هذا المجال، وثمة ضغط أميركي في هذا السياق أيضاً).

وفي السياق ذاته، ذكرت صحيفة (الديار) اللبنانية في 4 يونيو أن زيارة السفير السعودي عبد العزيز خوجة لرئيس الحكومة فؤاد السنيورة وطلبه تسليم السعودييِّن من موقوفي فتح الإسلام، (أدت الى تغيير جو المعركة بسبب خشية عناصر فتح الإسلام من تسليمهم إلى بلدانهم). وانتقدت الصحيفة (التدخل السعودي) في مسار قضية معالجة ملف فتح الإسلام لاسيما لجهة محاكمة مقاتليه العرب من قبل السلطات اللبنانية، وقالت: (في كل بلد يحترم سيادته يتم التمسك بمحاكمة من يرتكب الجرائم على أرضه على يد القضاء المختص لذلك لا يحق لرئيس الحكومة فؤاد السنيورة أن يسمح بتسليم عناصر فتح الإسلام الذين إعتدوا على الجيش اللبناني إلى السعودية حيث يمكن أن تحاكمهم أو تعفو عنهم). وتساءلت الصحيفة (إذا ما تم تسليمهم للسعودية فماذا نقول لأهالي الجنود الذين استشهدوا ومن يحاكم قَتَلتهم؟)، مؤكدة (أن تسليم عناصر فتح الإسلام للسعودية هو انتقاص من السيادة الوطنية وإساءة لأهالي الشهداء).

نشير أيضاً الى أن استخبارات الجيش اللبناني رفضت فكرة تسليم عناصر فتح الاسلام سواء من تم القبض عليهم خلال الاشتباكات أو تم تسليم أنفسهم، قبل نيل العقاب اللازم. وقد سعى مسؤولون في مخابرات عربية وخليجية للإطّلاع على مضمون التحقيقات وعلى أسماء الموقوفين، وجهات الاتصال التي قاموا بها وأخيراً تسلّم الموقوفين.

وقد كشفت التحقيقات الأمنية التي قام بها الجيش عن أن السعوديين والمغاربة والجزائريين المشاركين في تنظيم فتح الاسلام هم عناصر قيادية في تنظيم القاعدة.

وفيما عبّر السفير السعودي عبد العزيز خوجة عن إستعداد بلاده إرسال طائرة عسكرية سعودية الى بيروت لنقل الموقوفين السعوديين الى ديارهم بعد تقديم طلب رسمي بذلك، وتعاون أمني مع الجهات اللبنانية، عبّرت عوائل ضحايا الجيش اللبناني عن رفضها فكرة تسليم مقاتلي (فتح الاسلام) الى بلدانهم، إذ اعتبروا ذلك غدراً آخر بالجيش، فيما وصفت مصادر لبنانية بأن ذلك محاولة لملمة لخيوط اللعبة الخفية التي أدارها فريق في لبنان بتعاون مع جهات خارجية عربية ودولية، فيما أشارت هذه المصادر الى دور مركزي للأمير بندر الذي أعتبره أحد القادة السياسيين اللبنانيين بأنه المؤسس الحقيقي لـ (فتح الأسلام) في لبنان إن لم يكن في مناطق أخرى أيضاً.

الصفحة السابقة