جذور العنف الوهابي

حركة جهيمان وولادة القاعدة

هاشم عبد الستار

في محاولة للعثور على جذور العنف في السعودي في شكّله المنظّم، مازالت المساعي البحثية تتجه لاختبار طبيعة التحدّرات الإجتماعية والأيديولوجية التي أنتجت شبكة القاعدة ومقاتلين ينتمون الى الفكر السلفي المتشدد. فموجة العنف الديني الذي وصل ذروته التدميرية في الحادي عشر من سبتمبر يرجعها البعض الى صباح مشمس في نوفمبر 1979، حين احتل مئات من الاسلاميين الراديكاليين غالبيتهم من السعوديين فيما قدّم الباقون من بلدان أخرى الحرم المكي، في مطلع العام الهجري وكان بداخله مائة ألف حاج.

في كتابه الصادر هذا العام بعنوان (حصار مكّة) يصف ياروسلاف تروفيموف، تلك العملية بأنها الأولى للجهاد العالمي، التي ألهمت الجهاديين المستقبليين للقاعدة الذين سعوا إلى إشعال حرب حضارات على مستوى العالم وإعادة الوهج للإسلام وفق التفسير السلفي. وفيما أحال الثوّار منارة الحرم الى عش للقنّاصين، فإن العائلة المالكة المهزوزة فرضت حظراً إعلامياً مطبقاً على الاخبار وقامت بإرسال قوات لمواجهة المنتفضين في مكة.

استغرق الحصار إسبوعين، وقد تطلّب سحق الثوّار الذي قادهم الداعية السعودي جهيمان العتيبي استعمال الدبابات، والأسلحة الثقيلة والغازات السامة، وكذلك مساعدة وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية والكوماندوس الفرنسي، وقد دفع المئات إن لم يكن الآلاف حياتهم في هذه الحوادث.

أسامة بن لادن، الذي قامت عائلته بالمشاركة في عملية التوسعة للحرمين الشريفين، قد نقل عنه قوله بأن طريق الدم يعتبر السبب الرئيسي لتحوّله ضد البيت السعودي الحاكم. ففي كتاب جديد للمراسل الخارجي لصحيفة وول ستريت جورنال ياروسلاف تروفيموف رواية لهذا التحوّل، والإحياء العالمي الذي أحدثته.

يورد تروفيموف نصوصاً جديدة تؤسس لتحليل حول الرابطة الحميمية والموضوعية لتحوّل حركة جهيمان الى مصدر إلهام لشبكة القاعدة. يقول: حين بدأ إطلاق النار في صبيحة الثاني والعشرين من نوفمبر 1979، التقط الدبلوماسيون الأميركيون المقيمون في جدة الإشارات الأولى للمشكلة من مسؤولين دنماركيين وبريطانيين في السعودية. فقد وجد الدبلوماسيون الأوروبيون أنفسهم عاجزين عن التواصل مع عواصمهم: الملك خالد، المتحمس لإبقاء أخبار العنف غير المفكّر فيه في المسجد الحرام سراً، قرر قطع كل الاتصالات الهاتفية مع العالم الخارجي.

وقد بدأ المستشار السياسي مارك هامبلي، المتحدّث باللغة العربية من بين الدبلوماسيين الأميركيين في السعودية، بالقيام بتحقيقات من جانبه. الشخصيات السعودية ذوو العلاقة كانوا في موقع يستحيل الوصول إليه أو تعقّبه أو الحصول منهم على إجابات مقبولة. قال أحدهم (ليس هناك أي شيء يجري في مكة) وطمأن آخر (إنه مجرد تدريب). (هناك عدوى التيفوئيد) كما ذهبت الى ذلك أكثر الإجابات خيالاً.

في ظروف مختلفة، كان يتمنى أي دبلوماسي أميركي أو عميل لوكالة الاستخبارات المركزية سي آي أيه أن يصل بسيارته الى موقع الإضطراب، الواقع على مسافة تستغرق ساعة واحدة. ولكن بالرغم من القرب، فإن مكة أرض محرّمة على غير المسلمين. وفي العام 1979، لم تكن السي آي أيه أو السفارة الأميركية في السعودية قد جنّدت أي مسلم يحظى بالبراءة الأمنية المطلوبة بحيث يمكن الوثوق به في مثل هذه المهمة. فما عرف حينذاك مهما كانت درجة أهمية كان بالغ الحساسية بما يجعل صعوبة الافصاح عنه في إتصال هاتفي مفتوح قد يكون مسجّلاً من قبل الاستخبارات السعودية. ولكن المتصّل كان على استعداد لمقابلته لفترة قصيرة لاحقاً، في فندق الرمال بجدة، وقد أسرع هامبلي لمقابلته.

وحين دخل الدبلوماسي الى بهو الفندق، فإن المتصّل الغامض بدأ بالحديث عن دور لطيارين سعوديين وأميركيين شاركوا في قصف الثوّار. ولكن الطيّارين الأميركيين الذين حلّقوا فوق سماء مكة لم يعلموا في ذلك الوقت، بأن المسلّحين الذين أطلقوا النار عليهم من الأسفل من بينهم مواطنون أميركيون تحوّلوا الى الخط العنفي للإسلام غير المتسامح.

فقد تمكّنت السعودية من الوصول الى المجتمع الأميركي من أصل أفريقي منذ أن قدم مالكوم إكس الى الحج في سنة 1964، ملغياً أمة الاسلام لحساب دين عامة المسلمين. وفي أواخر السبعينيات، إنضم مئات من المتطرّفين السود، بمن فيهم بعض من النمور السود السابقين، الى المدارس الدينية المموّلة سعودياً داخل الولايات المتحدة، وفي المملكة ذاتها. وقد التحق عدد منهم بجهيمان العتيبي في دخوله الى المسجد الحرام في نوفمبر 1979، متسلّحين بمهارات حرب عصابات المدن التي تعلّموا عليها في الداخل.

وخلال إسبوع من المعارك في المسجد الحرام، اندفعت ملاّلات سعودية أميركية الصنع من نوع إم ـ113 الى عمق الحرم. وذلك حين تذّكر أحد المتحوّلين الى الاسلام من الأميركيين من أصل أفريقي وصفة من (كتب الطبخ الثورية) كما يصفها الرفاق الثوار.

الأصل والصورة

فقد أفرغ الحجّاج مئات من القوارير الزجاجية التي كانت تملأ من بئر زمزم داخل المسجد الحرام، وتعلّم المتحوّل الأميركي كيف يحيل تلك القوارير الى قنابل مولوتوف.

وحين حاول أحد الجنود بقيادة مركبته عبر الأبواب، علقت الهوائية في إطار أحد الأبواب، وكان الثوار على مقربة منه فاستغلوا الفرصة فاندفعوا وقاموا بطي السجاد حول المركبة المسلّحة، وحصروها في مكان مغلق. ومن ثم، وكما يقول أحد الثوار، فإن أحد الأميركيين قفز فوق السطح، وأشعل القادح، وفتح الغطاء ورمى بقنبلة موتولوف ملتهبة في الداخل. وبعد ثوان، فإن ما كان بداخل المركبة تحوّل الى فرن ملتهب، فتفحّم الطاقم البائس في شعلة نار، وابتهج المسلّحون عبر نداء قوي (الله أكبر).

وقد أصبحت السفارة الأميركية مدركة لمثل تلك المشاركة في انتفاضة مكة من قبل على الأقل إثنين من المتحوّلين الأميركيين الى الإسلام وذلك في الثامن من ديسمبر 1979، أي بعد أربعة أيام من اقتحام قوات الأمن السعودية الحرم المقدّس. وبقيت المعلومات المحرجة هذه مكتومة من قبل الحكومتين الأميركية والسعودية على السواء.

وفي 30 ديسمبر 1979، إلتقى السفير الأميركي جون سي. وست وزير الداخلية الأمير نايف لمناقشة مساعدة الأمن الأميركي في شؤون مكة والسؤال حول مصير المواطنين الأميركيين. أحدهم، كما رد الأمير نايف بناء على مذكرة السيد وست، (كان إرهابياً بكل تأكيد)، ولم يعد على قيد الحياة، والآخر مازال تحت التحقيق. وبحسب تعليق السفير ويست (أعتقد بأن ذلك يعني لاحقاً أنه سيعدم، ولكن ذلك أقصى ما يمكننا فعله).

وفي لقاء متابعة مع السفير الأميركي في التاسع عشر من يناير 1980، ذكر الأمير نايف، الذي لا يزال يتولى منصب وزير الداخلية في السعودية، ذكر مرة أخرى بأن الأميركي الآخر المشتبه به مازال في الحجز. وقد كان السفير ويست مندهشاً (كنت أعتقد بأنه قد تم شنقه الأسبوع الماضي)، كما كتب المبعوث في ذلك الوقت، في مذكرته حول قدومه الأخير للسعودية من أجل متابعة القضية.

وفي الواقع، فإن الثوار الشباب الذكور الذين تم القبض عليهم داخل المسجد قد تم إعدامهم، سواء في الساحات العامة في يناير 1980، أو بصورة سرية في الشهور اللاحقة. ولكن، بناء على مسؤولين أميركيين تم إيفادهم الى السعودية في ذلك الوقت، فإن السجين الثاني قد نجا من سيف السيّاف. وبعد مناشدات ومداولات من قبل المسؤولين الأميركيين، فقد تم السماح للسجين الأميركي بالعودة الى بلاده، كمواطن حر مرة أخرى.

في حقيقة الأمر، أن حركة جهيمان بالرغم من الأسرار التي أحاطت بها بقرار من العائلة المالكة، قد انتهت بصورة غامضة. وتذكر بعض المصادر بأن اجتماعاً جرى بين أقطاب العائلة المالكة من أجل تداول مصير عوائل قيادات انتفاضة الحرم، وكان هناك هاجس تسريبات عن أي خطة يتم اعتمادها من أجل إغلاق ملف الحركة بصورة نهائية وحاسمة. وفيما تحفّظ الملك خالد إزاء خيار تصفية عوائل الثوّار، وإخفاء أثرهم على أساس أن هؤلاء لا ذنب لهم، قال أمير آخر بأن هذه العملية ستثير الرأي العام العالمي على العائلة المالكة، حيث أن مقتلة عظيمة بهذا الحجم تتضمن نساءً وأطفالاً لابد أنها ستحرّك المنظمات الحقوقية الدولية، وستخضع الحكومات الغربية الى ضغوطات من مؤسساتها المدنية التي ستطالب بقطع روابطها مع السعودية. ولكن برز رأي حمل صاحبه على عاتقه مهمة إنهاء القضية بصورة سريعة وسريّة، فكان الأمير سلطان الذي تعهّد بالقيام بهذه المهمة، وتم تنفيذ الإعدام بالمعتقلين الثوّار ودفنوا بصورة جماعية. ولم يعرف عن مدفنهم الا قلة صغيرة جداً.

ما غفل عنه الأمراء أن عملية التصفية الجماعية لقادة إنتفاضة الحرم، لم تدفن معها أيديولوجية دينية ناشطة كانت ومازالت تجد في الجامعات والمدارس والمساجد خلايا دهنية كفلت لتلك الأيديولوجية الحياة والانتشار والانتقال مكانياً داخلياً وخارجياً، وزمانياً عبر مستقبل الحركات السلفية الناشطة التي بزغت بصورة لافتة في حرب الخليج الثانية بعد احتلال الكويت في أغسطس 1990، حيث تبنى الخلف السلفي الناشط سياسياً أفكار جهيمان في التغيير الثوري، وفي قراءة النظام السعودي، وهو ما أبرزته بجلاء (مذكرة النصيحة)، فكانت بمثابة مينافستو سلفي، تشتمل على مخطط إعادة تشكيل الدولة السعودية على أسس دينية سلفية، وتبطن تجريداً لمشروعية العائلة المالكة، وجاء من يكتب لاحقاً عن (الكواشف الجلية في كفر الدولة السعودية)، المستندة على أدبيات حركة جهيمان التي خطّها بيده، وهو يقدّم قراءة شاملة لمنهج الدولة السعودية غير الملتزم بالثوابت السلفية.

كانت أكبر من حركة سياسية مغلقة، ولذلك صعب النيل منها على طريقة تصفية حركة جهيمان، فقد صنع الناشطون السلفيون تياراً إجتماعياً في المجتمع السلفي وبدرجة أساسية النجدي، الأمر الذي جعل القضاء عليه مستحيلاً. لجأت العائلة المالكة الى أقطاب المؤسسة الدينية من أجل الحصول على مشروعية الاصطدام بالتيار، وقطع مصادر نفوذه وإمداداته الإجتماعية، ودخل أقطاب التيار السلفي الناشط في مواجهة مع رموز المؤسسة الدينية، مهّدت لحملة إعتقالات واسعة في صفوف التيار، وحرم الرموز من ممارسة نشاطاتهم الدينية بطابعها الإجتماعي، وكان من الصعب السيطرة على كل أطراف التيار، فقد نشأت فروع لها واشتقاقات جديدة لم تكن السيطرة عليها سهلة، بل جاء من يحمل الراية بعدهم، نذكر منها نشوء (لجنة الحقوق الشرعية) التي قادها محمد المسعري وسعد الفقيه وعبد الله الحامد والشيخ عبد الله المسعري وسليمان الرشودي وآخرين. وفيما تم إنهاء نشاط اللجنة في الداخل نقل القطبان البارزان في اللجنة نشاطهما الى الخارج لبدء مرحلة جديدة من العمل السياسي من خارج الحدود، في وقت كان القادمون من الجهاد الأفغاني يستعدون لنسج خيوط الخلايا التنظيمية في الداخل، بعيداً عن أجهزة الرصد الأمنية.

كانت الأفكار السلفية الراديكالية بلغت انتشارها الواسع، ولم يكن أفراد القاعدة بحاجة الى مزيد عناء للعثور على ما يعين على تجنيد أفراد جدد للتنظيم، الذي كان يتهيأ لاعادة انتشاره في مناطق حيوية ضمن المجال الخليجي والعربي عموماً. لم يكن مفاجئاً أن تنشق الألفية الجديد عن حقائق مفزعة حول نشاط سياسي سلفي غير معهود، بل وأن يصل به الأمر للقيام بعمل مدوّي كوني ينقل السلفية الجهادية الى المسرح العالمي، ويضعها في مواجهة الولايات المتحدة، الحليف الإستراتيجي لحاضنها، أي السعودية.

أدبيات انتفاضة مكة في 1979 كانت دون ريب مصادر إلهام لشبكة القاعدة، وكذا استعارة النموذج التنظيمي الذي اعتمدته حركة جهيمان سواء على مستوى نوع الأفراد، وتحدّراتهم الأيديولوجية والإجتماعية، وجنسياتهم، فهو تنظيم أممي الطابع، مع فارق أن عملية إجهاض انتفاضة الحرم أفقدته بعده الأممي، فكتابات قائد الانتفاضة جهيمان العتيبي تلفت الى أن مشروع حركته تخترق الحدود، تحقيقاً لمفهوم الجهاد الذي عطّله الملك عبد العزيز منذ قضائه على قادة الأخوان بعد احتلال الحجاز 1926.

ويمكن القول بقدر كبير من الثقة، أن القاعدة تمثّل نموذجاً مطوّراً لحركة جهيمان العتيبي، إن لم تكن الولادة الثانية لها، ما يجعل قرار تصفية الحركة مستحيلاً، فقد مرّت الأفكار الراديكالية الى حيث يجب أن تكون، وأن تحرّض على إنجاب حركة جديدة قادها الخلف القاعدي بوحي من أفكار مازالت صالحة لإنجاب حركات راديكالية أخرى وستبقى كذلك.

الصفحة السابقة