قيادة بلا منجز وطني ولا قومي

الكـاريـزما المستـوردة

حسن الدباغ

صنّفته صحيفة (واشنطن بوست) في أكتوبر الماضي بأنه من أبرز شخصيات العالم، دون أن تقدّم ما يصلح دليلاً، ووصفته مجلة (نيوزويك) الأميركية في أبريل الماضي بأنه (ثعلب الصحراء) يحمل في داخله أحلاماً كبيرة منذ الصبا، ووصفه متملّقون من عرب ومستعربين بـ (ملك الإنسانية) و(ملك القلوب) و(صقر الجزيرة)..الخ.

كاريزما بالمراسلة!

نعوت جمّة أسبغها كثر على الملك عبد الله، وقد ينبىء بعضها عن تمنيّات يودّون لو أنها طابقت مع واقع يأملون تلبيسه له، ويخبر بعضها الآخر عن مبالغة مقصودة وتقترب الى الذم في صيغة المدح، لاستحالة تطابق الوصف والموصوف، ويشير بعض ثالث الى أن ثمة جزءً من الحقيقة في شخصية الملك عبد الله دون باقي أخوته يؤهّله لنيل مثل تلك الأوصاف.

إستناداً الى مزاعم البعض الأخير، فإن ثمة إحساساً كبيراً لدى كثر، وهو إحساس غير مدعوم بأدلة صلبّة، على أن الملك عبد الله يتميّز عن غيره من أخوته في الأسرة المالكة بأنه يميل الى تحقيق منجز يكسبه سمعة طيبة على المستوى الشعبي، وقد يتطلب منه أحياناً الإقدام على قرارات جزئية في قضايا متعلّقة بالناس، مثل تخفيف معاناة المواطنين على المستوى المعيشي بدرجة أساسية، بالرغم من أن انعكاسات التخفيف تأتي في الغالب على عكس ما يريده الملك والناس على السواء. فزيادة الرواتب، على سبيل المثال، بنسبة 15 بالمئة أعقبها إرتفاع قياسي في الأسعار بلغت نحو 50 بالمئة في بعض السلع والمواد الإستهلاكية، وكذا الحال بالنسبة لتحسين الأوضاع الإجتماعية بالنسبة للفقراء، إلا أن زيارة الملك عبد الله لأحد الأحياء الفقيرة في العاصمة الرياض في العام 2005 كشفت الغطاء عن واقع مأساوي، وبات الحديث عن شريحة كبيرة من السكان تعيش (تحت خط الفقر) مألوفاً، وبات موضوع (مستوى دخل الفرد) يجلب مزيداً من الدراسات البحثية والميدانية، وكل ذلك يجري في زمن الطفرة النفطية الثانية التي يعانق فيها سعر البرميل المائة دولاراً. لم يغيّر نبأ تأسيس صندوق إستثماري للمواطنين الذي أعلن عنه الملك عبد الله قبل شهور في واقع يبدو شديد المأساوية، فقد أطاحت أوضاع السكان المعيشية أحلام الملك وكذا حملة الدعاية المصاحبة لها.

كان غالبية السكان تأمل في أن تنتهي سياسة (شد الأحزمة) بفعل الأزمة المالية التي أصابت البلاد بسبب السياسات الاقتصادية الخاطئة، وعاش الناس أوضاعاً كابوسية، نتيجة انهيار الخدمات العامة، والاختناقات المعيشية، وشهد قطاعا الصحة والتعليم إنهياراً مريعاً. كان الإعتقاد بأن الطفرة الإقتصادية التي شهدتها البلاد منذ سنتين أن تصحيحاً راديكالياً سيتم من أجل إعادة التوازن للوضع الداخلي، وتعويض المواطنين عمّا أصابهم في سنوات (شد الحزام)، وإذا بفجوة تتسع بدرجة قياسية بين الأثرياء والفقراء، فقد بتنا أمام صورة جديدة متناقضة بين حكومة متخمة بالثراء الفاحش ومجتمع يكابد الفقر، فبين مليارات الدولارات التي تدخل يومياً الى بيت المال يعيش المواطنون ضغوطات معيشية بفعل الغلاء الفاحش، وانهيار سوق الأسهم التي أكلت الأخضر واليابس.

انتشار الجريمة، وثقافة الإنتحار، وأمراض نفسية معقّدة ناشئة عن أوضاع إقتصادية وإجتماعية ضاغطة، يصعب فصلها عن الموضوع السياسي الوطني. فقد كان مؤمّلاً من الملك عبد الله أن يحمل مبادرة تيار الاصلاح الوطني الممثل للأطياف السياسية والاجتماعية والأيديولوجية كافة، وأن يخوض معركة الشعب تأسيساً لدولة وطنية حقيقية، وقد منحه وعده المجهض لاحقاً بقيادة مشروع الإصلاح سمعة إستثنائية، وقدّمه المتفائلون على أنه لوثر الجزيرة، إلا أن إختباراً سهلاً خاضه الملك وخرج منه بسقوط مريع، وخصوصاً بعد اعتقال رموز التيار الإصلاحي في الخامس عشر من مارس 2004، حيث تخلى الملك عن معركته، ورفع الراية البيضاء أمام وزير داخليته الذي وعده بنهاية سريعة لنشاط الإصلاحيين بعد أن أقنع (سيده) بمنجز أمني كبير، بعد القضاء على الجماعات المسلّحة. كان اعتقال الإصلاحيين أول إختبار حقيقي لقيادة الملك عبد الله قبل وصوله العرش، ومالقيه الإصلاحيون في المعتقل، والإجراءات القمعية التي لحقت بهم، ومازالت، حتى بعد أن أصبح عبد الله ملكاً، أكلت من رصيد الأخير، وفي نهاية المطاف خرج من دائرة التنافس في حلبة المصلحين.

على المستوى الوطني أيضاً، تمنّى كثيرون أن يضطلع الملك عبد الله بسياسات وطنية ومستقلة عن المسار الأميركي والغربي عموماً، وحتى أولئك الذين يراقبون الماراثون السياسي بين إيران والغرب، يتطلّعون الى أن يلعب الملك عبد الله دور أحمدي نجاد، الذي تمسّك بحق بلاده في تخصيب اليوارنيوم لأغراض سلميّة. فخصوم إيران على قاعدة مذهبية حتى في الدوائرة السلفية المتطرّفة لا يخفون إعجابهم بإصرار القيادة الإيرانية على موقفها، ويتمنون لو أن الملك عبد الله التزم موقفاً مشابهاً، في ظل اصطفاف غربي شديد الشراسة يستعين بالانقسام العربي والإسلامي والهرولة السعودية على قضاء حوائجه.

هي، إذن، من المرات النادرة التي تُصنَّع فيها كاريزما دون منجزات على المستوى الوطني أو حتى في الدائرتين العربية والإسلامية. قائمة نعوت محشوّة بتمنيات وأحلام يعجز الواقع عن تصديقها. نتذكّر هنا برنامجاً دعائياً عن سيرة الملك عبد الله بثّته قناة (العربية) السعودية تمويلاً وإدارة في نهاية أكتوبر الماضي. سبق البث بازار دعائي شاركت فيه وسائل الإعلام السعودية بما في ذلك مواقع على شبكة الانترنت بتمويل سعودي، وزعم موقع (إيلاف) في الثالث والعشرين من أكتوبر الماضي (أن حياة الملك ستكون مثار ترقّب من الأوساط الشعبية السعودية التي تنتظر معرفة المزيد عن حياة هذا الملك الذي يتمتع بشعبية جارفة لدى مواطني بلاده..). ثمة قصد وتوجيه من أجل صناعة كاريزما تعاندها الظروف، وتقصر الوقائع عن حجز مكان لها خاص بين القيادات التاريخية. تنبّه معدّو البرنامج أن ثمة نقصاً في المادة الدعائية، فأجّلوا بثّه ريثما تكتمل النكهات الدعائية.

حاول معدّو البرنامج أن يقدّموا الملك عبد الله على خلاف الصورة التي يصنعها الواقع، وخصوصاً فيما يرتبط بالعلاقات الاستراتيجية الحميمية بين الرياض وواشنطن، فقد تعرّض البرنامج لجانب من الخلاف المفتعل بين الملك عبد الله والرئيس الأميركي جورج بوش، وطالما أن بندر بن سلطان هو (الشاهد الملك) على ذلك الخلاف، فلا بد للمرء أن يتصوّر طبيعة الخلاف!، فهذا الرجل الأميركي بامتياز تحدّث عن خلاف بين الرياض وواشنطن بسبب انحياز الأخيرة إلى إسرائيل، ما أثار غضب الملك عبد الله وأرسل رسالة قاسية الى بوش.

حسناً، الواقع يخبر بنقيض ذلك تماماً، فلم تتحدّث وسائل الإعلام عن لقاءات سعودية إسرائيلية إلا في عهد الملك عبد الله، ولم تصدر مبادرة سلام تنطوي على تنازلات مبدئية (مثل مبدأ حق العودة للشعب الفلسطيني) الا في عهده الملك عبد الله، وذلك كله بفضل جهود الأمير بندر بن بوش، ولم يحدث إنحياز علني وفاضح للدولة العبرية في عدوانها الوقح والساخر على لبنان في تموز 2006 إلا في عهد الملك عبد الله وذلك كله أيضاً بفعل الذكاء الأميركي لدى الأمير بندر، ولم يتبلور (معسكر الإعتدال) الأميركي الذي يضم اسرائيل والسعودية الا في عهد الملك عبد الله، بل ولم يقع إنقسام عربي وإسلامي على خلفية التعاون الاسرائيلي ـ الأميركي ـ السعودي في قضايا فلسطين، والعراق، ولبنان، والمنطقة بصورة عامة إلا في عهد الملك عبد الله، يمثّله العرّاب الأميركوسعودي بندر بن سلطان.

للأخير لهجته الخاصة الأميركية في تصوير (الانحياز)، و(الغضب) و(المبادرة)، فقد صمّم مفاهيم السلام على مقاسات أميركية وإسرائيلية، وليس مستغرباً أن تكون (قسوة) الرسالة التي بعث بها الملك عبد الله الى بوش في ظل سقوط المحرمات في العلاقة بين الرياض وتل أبيب، غير ذات صلة بموضوع الحقوق العربية والفلسطينية، هذا إن صح أصل خبر الرسالة. نكتة عابرة مرّرها بندر بن بوش على عادة الأمراء، أن ثمة مبادرة أميركية تاريخية ستنطلق على وقع ضغوط سعودية، إلا أن هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 أجهضت صدورها. تذكّرنا هذه النكتة بعادة متّبعة من الأمراء حين يلقون باللوم على الحظ أو الظروف القاهرة بل وعلى المجتمع أحياناً، الذي منع ولادة مبادرة إستثنائية وفريدة ستغيّر حال البلاد والعباد. أحد أرباب هذه النكتة هو ولي العهد الأمير سلطان، الذي لطالما أفرط في استعمالها مع المطالبين بالحقوق، حيث يواجههم دائماً بأن الدولة كانت على وشك إطلاق مبادرة لتحسين ظروف الناس ولكنهم أجهضوها حين قاموا بالاحتجاج أو البوح بمطالبهم لوسائل الإعلام، فأفسدوا ما عقد أولو الأمر العزم على القيام به.

تاريخ مليء بالصدف الفريدة يصوغها هؤلاء الناكصون على أعقابهم للهروب من الاستحقاقات التاريخية، والتنصّل من مسؤولياتهم الوطنية.. ومن الصدف الفريدة أيضاً أن يكتب الفقر سيرته في دولة تزداد مدّاخيلها بصورة فلكية وغير مسبوقة.

خلاصة الأمر، أن كاريزما الملك عبد الله ليست صناعة وطنية ولا عربية ولا حتى إسلامية، فالسعودية بنك ضخم ولكن بمدير سيء في أحسن الأحوال، وتتصرف على أنها زعيمة العالم العربي والإسلامي ولكن دونما رصيد شعبي أو حتى مصداقية سياسية، فهي كاريزما مصنّعة خارجياً ويراد تسويقها لتكون بديلاً عن كاريزمات شعبية أخرى في المنطقة، ولكنها كاريزما تخلو من منجزات لافتة، فالغمامة الإعلامية التي أحاطت بالملك عبد الله لم تهطل أكثر من مشاريع حالمة لا أثر لها على الأرض، فصدى الجعجعة يتصاعد في الأرجاء ولكن لا يرى الحالمون طحناً، وقد يسمعون عن طحن ولا يأكلون رغيفاً.

الصفحة السابقة