الوهابية وإحياء (سنـّة الإغتيالات)!

فريد أيهم

بالقياس الى ما يقوم به التكفيريون الوهابيون في العراق وأفغانستان وغيرها، فإن ما جرى في السعودية من عنف كان دون ذلك، لا من حيث الشمولية والحجم فحسب، بل من حيث نوعية العمليات العنفية التي قام بها الوهابيون داخل المملكة. حتى الآن، فإن كل ما قام به العنفيون لا يتعدّى تفجير أنفسهم في عمليات انتحارية تستهدف ـ حسب زعمهم ـ الأجانب بدرجة أساس، إضافة الى التعرض الى بعض رجال الأمن، واختطاف بعض الأجانب وقطع رؤوس بعضهم كما حدث لأحدهم.

الإغتيالات لم تمارس على نحو واسع أو ضمن استراتيجية واضحة، ورغم أن بضعة أفراد من قوى الأمن تعرضوا لاعتداءات اغتيال، إلا أن دوافعها كان على الأرجح انتقامياً بسبب ممارسات تعذيب وإهانة تعرض لها بعض المتشددين في السجون والمعتقلات، فتم الإنتقام منهم.

الآن الحكومة ممثلة في وزارة داخليتها تتحدث عن قوائم اغتيالات، وعن اعتقالات لخلايا وضعت نصب عينها اغتيال مسؤولين (امراء ووزراء ومشايخ كبار) وربما صحافيين وكتاب.. الإعلانين الأخيرين لوزارة الداخلية والذين تحدثا عن اعتقال مجموعات كثيرة، ذكرا أن الإغتيال جزء من مخطط بعضهم على الأقل. فما هي الحقيقة؟

يبدو أن التيار السلفي العنفي/ الوهابي، لم يكن يسعى في البداية الى مهاجمة أهداف محليّة، إما تكتيكاً، أو لعدم وجود إجماع حول أعمال العنف جميعاً، وتصور أن ما تحقق الإجماع بشأنه أو ما يمكن تحصيل الإجماع بشأنه في المحيط السلفي هو مهاجمة الأجانب تحت شعار (أخرجوا المشركين من جزيرة العرب). هذا الشعار يمنح بن لادن وجماعته من المشايخ والشباب السلفي الشرعية في عملهم، ويضعف حجة المعارضين لنشاطاتهم. لم يكن هناك في البيت السلفي الوهابي إجماع حول (عدم شرعية حكم آل سعود) ولم يكن بالإمكان حينها (اغتيال المسؤولين والأمراء) باعتبارهم قيادات شرعية للجزء الأكبر من الوهابيين، وبالتالي خشي البن لادنيون أن يخسروا المحيط الذي يعملون ضمن إطاره، حتى وإن كان موقفهم من آل سعود و (تكفيرهم) مسألة معروفة، لكن التعرض للمنشآت المحلية ولآل سعود بالضرر فضلاً عن المخالف في الرؤية من بين المشايخ الوهابيين كانت مسألة غير مقبولة من التيار الوهابي العام.

هذا ما يفسر أن أتباع القاعدة ومحازبيها لم يتعرضوا لعشرات الألوف من الشخصيات والأهداف، وفي مقدمتهم عشرين ألفاً من الأمراء والأميرات السعوديات، كما لم يتعرضوا للوزراء والمسؤولين في درجات أدنى. في حين أنهم في العراق يقتلون عامل البلدية وعامل الكهرباء وشرطي المرور ويفجرون الأسواق بمن فيها، معتبرين كل العراقيين هدفاً مفتوحاً كما هو الحال اليوم، حتى السنّة العرب الذين وفرتهم ـ في بداية الأمر ـ أداة العنف القاعدية ذات المنشأ والتمويل البشري والمالي السعودي، عادت اليهم بصولجان العنف تقرعهم قرعاً.

هذا لم يحدث في السعودية.

ففي السعودية هناك سلطة (سلفية وهابية) لم ترَ من صالحها القيام بهكذا أعمال، لأنها تخل بسلطان الوهابية النجدية في المحصلة النهائية، سواء كان اغتيال او تفجير مصالح أو حتى قتل مخالفين في المذهب، وهم أكثرية السكان.

التطورات التي حدثت بعدئذ أوضحت أن هذه المسألة لم تكن سوى تكتيكاً، فعاجلاً أم آجلاً سيتحول العنفيون نحو إحياء ما عرف في التسعينيات بـ (إحياء سنّة الإغتيالات)! وتقصد بعض المسؤولين بالقتل، ومهاجمة منشآت حيوية للدولة/ المنشآت النفطية مثلاً. وقد أعلنت الحكومة ـ وإن كانت طرفاً غير محايد ـ بأن العنفيين يستهدفون المنشآت والقيام باغتيالات. لكن لحد الآن لم نرَ شيئاً من تلك السياسة قد أخذ مجراه في التطبيق العملي.

فهل جاء التحول العنفي متأخراً وفي مرحلة يأس بسبب ضعفهم، ذلك الضعف الذي قد يكون سبباً في عدم قدرتهم على تنفيذ مخططهم وإن كان مستحثاً للإسراع فيه؟!

أم أن الحكومة السعودية تبالغ في مزاعمها واتهاماتها بغية تحقيق اصطفاف سلفي داخلي معها بالدرجة الأولى في مواجهة (بقايا القاعدة) السعوديين؟

ومع أن الوهابية لا يمكن إلا أن تنتج بفكرها المتشدد نماذج القاعدة على مرّ السنين، كما كان الحال بالإخوان الأوائل وحركة جهيمان في السبعينيات الماضية، والجماعات التي تفرّخت بعد حرب الكويت، فإن أحداً لا يستطيع القطع بالضرورة أن (سنّة الإغتيالات) التي يتحدث عنها بعض كتاب الصحف السعودية المقربين من النظام دقيقة وصحيحة.

فقد كتب عبدالله بن بجاد العتيبي مقالاً تعقيبياً على ما أعلنته وزارة الداخلية في بيان لها من اعتقال 208 أشخاص وأن أهداف بعضهم على الأقل كانت تنحصر في القيام باغتيالات التي لم نرَ منها حتى الآن شيئاً. عنون العتيبي مقاله في جريدة الرياض (3/12/2007) بـ (القاعدة وسنّة الإغتيالات) قال فيه ما يفهم منه أن القاعدة لاتزال تربض على ترسانة من وسائل القتل بينها الإغتيالات: (بقي تحت رماد الإرهاب جمرٌ لم يتقد بعد، ونارٌ لم تلتهب بعد، وظلّ في جعبة الإرهابيين من خطط التخريب الجهنميّة ما لا يخطر ببال عاقلٍ ولا يجول في خلد جاهل!)، واشار في المقال الى بيان وزارة الداخلية وأن هناك بين المعتقلين فريق للإغتيالات يتكون من 22 عنصراً، واعتبر أن الإعتقالات تثبت بأن القاعدة في السعودية: (ورغم الضربات الموجعة التي تعرضت لها، ورغم التضعضع والضعف والارتباك الذي حصل لها، تعيد إثبات أنها قادرة على التجدّد والتلوّن والتأقلم مع أسوأ الأوضاع لتمرير رسالتها التخريبية وتنفيذ مخطّطاتها السوداء). وقال: (لازلنا لم نضع أيدينا على موضع الداء الحقيقي المنتج لمثل هذه الظاهرة، لا زلنا نلامس سطح الظاهرة لا عمقها، نجمّل الجراح بدل أن نفتحها ونعالجها).

وأخيراً أوضح بأن بيان الداخلية يطرح (مسألة إحياء ما يسمّيه منظّرو حركات العنف الديني سنّة الاغتيالات، وأنّ هذه السنّة المشؤومة أصبحت غاية وهدفاً لدى القاعدة اليوم). وأن المستهدف من تلك الإغتيالات حسب بيان الداخلية (الشخصيات العامة) وهو ما يعني المسؤولين الكبار من أمراء ووزراء، سبق للشرق الأوسط في 30/11/2007، أن نشرت على لسان مصدر أمني سعودي بأن من بين المستهدفين رجال دين من الصف الأول، اضافة الى دعاة ومشايخ لا يظهرون في وسائل الإعلام، وإن كان الجميع يتفق على محاربة القاعدة. وكان ابن لادن في خطاب بثته الجزيرة في مايو 2006 قد حرض على قتل بعض المثقفين السعوديين.

الشيء المهم الذي لم يذكره كتاب الصف الحكومي، هو أن (سنّة الإغتيالات) قائمة على تنظير محلي يستند الى رؤى وفتاوى وأفكار المدرسة الوهابية، وإن بقاء تلك الأفكار هي التي تجعل تلك (السنّة) تستل في الزمان والمكان المناسب لها. يدلنا على ذلك ان القاعدة لم تخترع تلك السنّة، بل ظهرت في وقت (الصحوة) حين كان مشايخها (الذين يقفون اليوم الى جانب الحكومة) معارضين للسلطة، ما يعني أن الأزمة هي فكرية قبل ان تكون سياسية، وأن من لم يؤمن بها اليوم كان قد آمن بها من قبل ودعا إليها، والعكس صحيح.

الإغتيالات سنـّة نبوية ماضية!

فحسب علمنا، فإن منشوراً أوّلياً صدر في مايو 1992م، يحمل عنوان: (الإغتيالات سنّة نبويّة ماضية)! ووزّع في تلك الفترة بين السلفيين في المنطقة الوسطى بكثافة كبيرة، ووصل الى مناطق أخرى لا تعتنق المذهب الوهابي، الأمر الذي أفزع المسؤولين الأمنيين والسياسيين السعوديين. لقد لقي المنشور اهتماماً مبالغاً فيه رغم بساطة تعبيراته وصغر حجمه، وذلك لأنه يحمل رسالة إنذار للعائلة المالكة. ورغم أن المنشور خرج من رحم الفكر السلفي ويعكس تفكير الجماعات السلفية في المملكة، إلا أنه حينها لم يكن مؤشراً قريباً على القيام بأعمال اغتيال، لأنه وبعد أكثر من عقد ونصف من اصدار المنشور لم تقع حادثة اغتيال واحدة. لربما كان قادة الصحوة الوهابية في التسعينيات وفي مقدمهم الشيخ سلمان العودة والحوالي وناصر العمر، أرادوا فتح بوابة التهديد بالعنف دون استخدامه، وقد دأب العودة وغيره على القول بأنهم يتوقعون ظهور فرق وجماعات سلفية تتبنى العنف ليس ضد السلطة فحسب بل وضد المجتمع نفسه، على غرار تنظيم التكفير والهجرة الذي ظهر في مصر في السبعينيات الميلادية.

المنشور آنف الذكر يؤشر الى اتجاه البلاد نحو العنف بعد انغلاق مسالك التغيير، وإن كان ظهوره ـ إن بدأ ـ فلن يأخذ زخماً كبيراً في فترة وجيزة. لم يكن هدوء الأوضاع الأمنية في التسعينيات الميلادية والذي توج باعتقال السلطة لرموز سلفية كبيرة لبضع سنوات مؤشر نهاية للصراع، إذ بدأت التفجيرات في عام 1995 فصاعداً، وتفاقمت بعد أحداث 2001 في نيويورك وواشنطن.

منشور مايو 1992، أراد حينها، كما يريد الوهابيون الجدد الآن، إحياء سنّة الإغتيالات التي اعتبرها المنشور: (سنّة مفقودة ومندثرة من سنن النبي صلى الله عليه وسلم، ألا وهي سنّة الإغتيالات، وهي سنّة ماضية الى قيام الساعة)! وقد وجّه المنشور تهديداً ووعيداً للعائلة المالكة ووزراء الدولة فقال: (نداء وتحذير وإشفاق الى جميع أمراء مدن المملكة، وبالأخص من يمارسون إيذاء الصالحين والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، بإصدار التعاميم السرية التي تحارب الدعاة.. والى بعض الوزراء الذين يتبنّون هذه التعاميم، والى كل من يحارب هذا الدين في جهاز المباحث.. وكل من يشارك في هذا العدوان ضد الدين وأهله).

ويحدّد المنشور الجهات التي يمكن أن تشملها (سنّة الإغتيالات) وهي حسب ما ورد فيه: (من يصدرون التعاميم السرية ويأمرون بالإعتقالات ومداهمة منازل الصالحين، وإيقاف العلماء والدعاة من منابرهم عن قول كلمة الحق، وفي المقابل يناصرون الباطل وأهله من خلف الكواليس، والمظاهرة النسائية شاهد على ذلك)!

كما يحدد المنشور من جانب آخر تاريخ البدء بتنفيذ تلك (السنّة) بالقول: (إن تأخر إخواننا داخل المعتقلات وإيذائهم هي بداية لإحياء هذه السنّة المفقودة.. سنّة الإغتيالات، وستشاهدونها قريباً، ونسأل الله ألا يكون ذلك).

كان ينظر الى هكذا منشورات، غير المذيّلة بأسماء، بأنها مجرد تهديد يستهدف تخفيف الضغط عن قيادات الجماعات السلفية وإنذار (الأعداء) ووضع فرامل توقفهم.. هو هنا يبدو وكأنه وسيلة دفاعية، وكأن ما يجري اليوم من ترويج الحديث عن تلك السنّة يستهدف أيضاً الضغط على الحكومة بأن لا تنساق في ممارساتها الأمنية القمعية ضد الجماعات القاعدية. لكن من المرجح ـ بعد أن خرجت القاعدة عن الطوق ـ أن تكون تلك التهديدات أصلية وليس مجرد تكتيك. فالنظرة للنظام السعودي والمشايخ ومن يدعم آل سعود عامة، تغيرت من التسعينيات الماضية الى الآن. هناك وضوح أكثر في الرؤية تجاه شرعية النظام ومن يعمل معه، وهناك انشقاق كبير بين رموز المؤسسة الدينية وقاعدتها الجماهيرية السابقة لصالح قيادات أخرى لا تدين بالولاء للحكم السعودي ولا ترى فيه أية شرعية.

ومجمل القول إن التهديد بالإغتيالات صار تحصيل حاصل. فمن قام بالتفجيرات عبر المفخخات لم يترك شيئاً من المحرمات الآن، وهو يكشف عن استعداد واسع لاستخدام الإغتيالات كوسيلة من وسائل الصراع السياسي بين التيار الوهابي المتشدد وآل سعود. وكيف لا يكون ذلك، والوهابيون المحليون ينظرون الى ما يفعله إخوانهم في الوطن والمعتقد في بلدان مجاورة؟ الآن هناك فرص كبيرة للإستنساخ، ومبررات شرعية قائمة على تفسيرات وهابية، وهناك مكبوتات نفسية سببتها الآلة الأمنية السعودية، وسببها انفضاح آل سعود سياسياً ومسلكياً. كما أن ضغط الأوضاع الداخلية في غياب الإصلاح الفكري والسياسي، قد يجبر القاعديين على تغيير سلوكهم والبدء بسنّة الإغتيالات ـ كما يقولون ـ باعتبارها الوسيلة الأرخص والأسهل في المواجهة.

الصفحة السابقة