السعودية التائهة

الإختناق في (رحم) الطائفية

عمر المالكي

مالذي يجعل دولة ذات إمكانيات هائلة معنوية ومادية مثل المملكة السعودية غير قادرة على مواجهة التحديات التي تواجهها داخلياً وخارجياً؟ مالذي يجعلها تتدحرج من أعلى الجبل في تسارع مذهل الى بطن الوادي مكسّرة مهشّمة معطوبة كثيرة الجراح؟ مالذي يجعل منها دولة تعيش رد الأفعال دون مبادرة. دولة شبه ميّتة، تثير شفقة منافسيها وأعدائها؟!

الأسباب كثيرة بلا شك. فالإمكانات لا تصنع المعاجز في هذا الزمن، وفي غيره. عدم القدرة على الإستجابة للتحديات يعود الى مشاكل هيكلية في بنية الدولة السعودية نفسها، وبعضها يعود الى حالة الغرور والصلف والتمتع بأحلام اليقظة. وبعضها يعود الى الجهل والعقلية الجامدة التي تدير الدولة.

هناك سببٌ أساس في كل هذا، وقد يكون أهم الأسباب: وهو الإنحصار الذهني والعملي في المربع الطائفي وعدم القدرة على رؤية الأشياء على حقيقتها، فضلا عن عدم القدرة على الفعل نفسه.

حين تكون الدولة السعودية مهووسة طائفياً، لا ترى الأحداث إلا بعين الطائفية، يصبح دين أميركا أقرب اليها من دين مواطنيها.

ويصبح العدو الإسرائيلي صديقاً مقابل المنافس المذهبي. ألم يقل ويكرر آل سعود في إعلامهم بأن إسرائيل أقلّ خطراً عليهم من إيران. وتصبح إمكانية الإلتقاء بأولمرت وبيريز وغيرهما أقلّ كلفة ـ من وجهة نظرهم ـ من لقاء (المغامر) حسن نصر الله، والمغامر الآخر خالد مشعل.

الطائفية الوهابية تعمي السياسي فيستبدل الأعداء، ويقدّر الأخطار حسب الرؤية الطائفية لا الرؤية السياسية أو المصلحة السياسية، ويقسّم الحلفاء والأعداء حسب القرب من مذهبه، ويكون تقسيمه حادّاً لا يمكنه من فتح خطوط التواصل مع المختلف المذهبي الآخر. ولنأخذ مثالاً واضحاً، فالسعودية تتهم إيران بأن لها طموحات امبراطورية وربما طائفية، ولكن إيران لم تغلق ذهنيتها طائفياً، فهي تستخدم الكردي والعربي والسني والشيعي وحتى الوهابي، ألم تدأب أجهزة الإعلام السعودية على اتهام ايران بأنها تدعم القاعدة؟! لا أحد يستطيع أن يقول بأن إيران لا تتواصل مع السنّة في العالم العربي، وهذا يعني أن عقليتها مفتوحة (على مصالحها الخاصة). وفي المقابل انظر ماذا تفعل السعودية، لقد وضعت كل الشيعة في العالم، وبينها جزء من شعبها في قائمة الأعداء الخطرين، ولم تستطع أن تفتح لها كوّة صغيرة معهم، بحيث أن القطيعة الكاملة هي السياسة المعتمدة.

ومن يرى السياسة بعين طائفية، ويصبح مسكوناً بها، يصبح ضحيّة للطائفية نفسها. والسبب أنه لا يستطيع قراءة الأوضاع السياسية في المنطقة إلا بالعين الطائفية، ولا يعجبه من الأخبار والمعلومات إلا ما يتعلق بذلك الشأن الطائفي المتضخم لديه. وقد رأينا العديد من السياسيين العرب: لبنانيين وعراقيين وحتى باكستانيين ويمنيين، ممن عرفوا (كيف تؤكل الكتف) يعزفون في زياراتهم للرياض وتصريحاتهم حول قضاياهم ومصالحهم السياسية، على الوتر الطائفي، الذي يستثير آل سعود ومشايخهم، من أجل تحصيل الدعم السياسي والمالي ومواجهة أزماتهم الخاصة. رأينا هذا عند علي عبدالله صالح في أزمة الحوثيين مثلاً، ورأينا المسألة ذاتها عند القوى السنيّة في العراق، وبعضها لا علاقة له بأي مشروع إسلامي، بل هم بعثيون قدامى، ورأينا ذلك في تيار المستقبل في لبنان.

خسارة السعودية نزيف حاد!

ولأن السعوديين مهووسون بالطائفية ومعاركها، انفتحت أذهانهم على أخبار لا يصدّقها عاقل، ولكن الطائفي يصدّقها وبسهولة جداً، فالخطر الطائفي يتضخّم كثيراً، والمعلومات التي حوله والتي هي في أكثرها إشاعات تجد لها آذناً عند الطائفيين يصدقونها، مثل: حزب الله عميل لإسرائيل! وأن ما تدعيه إيران من منجزات كله كذب، وأن النظام هناك على شفا الإنهيار، وأن كل القيادات العراقية الشيعية إما إيرانية أو تجنّست بالجنسية الإيرانية، أو مثل أن البصرة صارت مدينة فارسية، أو أن إيران دفعت بثلاثة ملايين من شعبها الى العراق ليشاركوا في الإنتخابات، أو غير ذلك من الأقاويل.

ليست المشكلة في الكذبة نفسها، وإنما في تصديق السياسي السعودي لها، وبالتالي يبني عليها حساباته ومواقفه، ويجادل بشأنها ضيوفه، مثلما جادل الملك السعودي وولي عهده زلماي خليل زاد يوم كان سفيراً لأميركا في العراق بشأن بعض الإشاعات التي ذكرناها آنفاً.

وإذا كانت المعلومات مغلوطة، والرؤية مشوشة لا ترى إلا عدواً واحداً، ولا تلتفت الى مصلحة الدولة ولا الى احتمالات اخرى أو رؤى أخرى تحصّن بها الدولة مصالحها، فإنك تجد قادة الدولة يتخبطون لا يعلمون ماذا يصنعون، وعلى ماذا يراهنون من سياسات وأشخاص، ويصابون بالدوار إزاء التطورات المتسارعة من حولهم وهم غير قادرين على فعل شيء. فال سعود المشغولون بالآخر الطائفي لا يستطيعون النظر الى أبعد من أرنبة أنفهم، ولا يمكنهم فعل شيء سوى ردود الفعل والتخريب وإثارة العواطف الطائفية، فهي سلاح الفاشلين الذين يريدون الركوب على موجه ليصبحوا زعماء العالم العربي وأسياد الوضع الإقليمي.

(الصندوق الطائفي الوهابي) خنق الدولة السعودية في الداخل، وشوّش رؤيتها الى الخارج، ورسم حدوداً قاطعة بين الأصدقاء والأعداء المتوهمين، حتى أن المرء ليعجب وهو يقرأ الآراء الوهابية وهي تنادي بالتعاون مع اسرائيل لضرب إيران وحزب الله وسوريا. وليت هذا الأمر بقي عند حد هؤلاء الجهلة، ولكنه تسرّب الى آل سعود أنفسهم، إن لم يكن هؤلاء الأخيرين هم من روّج الى ذلك، وبالتالي رأينا أولويات السعودية في إسقاط نظام الأسد، وليس فكّ الحصار الخانق عن غزّة. ولذا رأينا كيف أن السعودية تنفق ـ وتعلن عن ذلك ـ مليارات الدولارات لتمويل الحروب الطائفية في لبنان في حين يشكو صديقهم محمود عباس الضائقة الإقتصادية فلا يجد سوى الإتحاد الأوروبي!

دول الخليج الصغيرة، وكذلك الأردن ومصر، ممن يراعون الموقف السعودي وعدم الإبتعاد عنه، وجدوا أنفسهم أخيراً في مستنقع لا يستطيعون إلا أن يهربوا منه. فالطائفية السعودية لا حدود لجنونها وغبائها. ولذا بادروا بفتح سفاراتهم في العراق كخطوة أولى، وحاول بعض الخليجيين تهدئة الموقف مع ايران وعدم الزج بدولهم في حرب أميركية ضدّها لا تعود عليهم بمنفعة، في حين بقي الموقف السعودي جامداً على حاله في رؤيته الطائفية للأوضاع السياسية، وشيئاً فشيئاً أخذ يستشعر العزلة حتى من أصدقائه.

والأكثر غرابة في هذا، أن النخبة الطائفية السعودية الإعلامية والثقافية، وهي في معظمها نجدية، أي تنتمي الى نفس الخلفية الإجتماعية لآل سعود ومشايخهم الوهابيين، هذه النخبة مصابة بنفس الداء الطائفي، ولها تحليلات عجيبة غريبة، تجدها واضحة في كتابات طارق الحميد رئيس تحرير الشرق الأوسط، ومقالات عبدالرحمن الراشد مسؤول قناة العربية. حيث التحليلات السطحية، والروح المفعمة بالطائفية المشوّهة، والتعليقات التي تشبه الحروب، وكلّها تأتي كأساس في الرهان على تحشيد العرب طائفياً ضد حماس وسوريا وحزب الله وإيران وحكومة المالكي، على ما بين هؤلاء من اختلافات بيّنة.

يغيب عن هؤلاء (العميان طائفياً) أن الحروب الطائفية والصراعات الموتورة لا تخدم الداخل السعودي نفسه، إذ لا حدود للمعارك الطائفية ـ مثلما تراها السعودية نفسها. فحين تفتح حرباً طائفية شمال لبنان في طرابلس، مالذي يمنع امتداد تأثيرها الى الشيعة في المنطقة الشرقية السعودية؟ وحتى لو لم تنتقل الحرب الطائفية، كيف سينظر الشيعة في السعودية الى حكومتهم وهي تقود وتؤجج المشاعر الطائفية وتعتبرها أساساً في العلاقة بين الدولة والمواطن؟

الدولة السعودية مختنقة بشرنقة الطائفية، وزعماؤها يعتقدون بأن تلك الشرنقة توفر الحماية وتطيل أمد الحياة للدولة ولهم، وإزاء هذا لا ينتظرن أحدٌ في المدى المنظور إلا دولة متهافتة، مهما أوتيت من المال والإمكانات، وحتى لو احتكرت نظرياً الأرباح المعنوية من سيطرتها على الأماكن المقدّسة.

السعودية اليوم ترى نفسها معزولة أمام التحولات الكبرى في العالم وفي المنطقة. لا دوراً متميزاً لها في فلسطين (إلا بالسلب) ولا دور متميز لها في العراق (إلا بالسلب) ولا دور متميز لها في لبنان وغيره (إلا بالسلب) ولا مكان تسمع لها فيه صوتاً، اللهم إلا أصوات الفضائح والسمسرات وتمويل التطرف الوهابي داخلياً وخارجياً، حيث تحصد منتجات الوهابية الأرواح في بقاع عربية وعالمية عديدة.

ها هي حماس باقية مكانها، وها هو عباس يخسر كل يوم أرضاً.

ها هي سوريا تفك حلقات حصارها السياسي حلقة حلقة، وآخرها زيارة ساركوزي واجتماع رؤساء الدول الأربع (قطر وتركيا وفرنسا وسوريا) في دمشق. بل ها هو الرئيس الفرنسي يقول بأن (النادي) مفتوح للسعودية ومصر! وكأنه يضيف الملح الى الجرح.

وها هي السعودية في لبنان تحرض طائفياً كما ذكرنا وتوقعنا في أعداد سابقة، ولكن النار الوهابية في الشمال ستحرق حلفاء السعودية من تيار المستقبل قبل أن تحرق غيرهم.

وها هو العراق الذي تفننت فيه الوهابية السعودية قتلاً وتدميراً يستعيد بعض الأمن، ويعود العرب اليه بعد اعتمادهم رهان السعودية الخاسر. في حين لم يبق للسعودية سوى الإنتقام من السجناء العراقيين لديها تعذيباً وقتلاً، وسوى الصراخ طائفياً دفاعاً عن قوات الصحوة! التي كانت جزءً من القاعدة.

وها هي إيران وسوريا تقطفان ثمرة لم يحلما بها، بعد اشتداد المواجهة بين موسكو والغرب، فإذا ببندر بن سلطان يسارع لشراء مواقف روسية لصالح سياسات سعودية إقليمية، ولكنه يعود بخفي حنين.

السعودية صارت لاعباً أضعف حتى من قطر!

يا لسخرية الأقدار.

ولكن هذا ما جنته السياسات الطائفية، وما ستجنيه لاحقاً.

على السعوديين أن يخرجوا من أسر الصندوق الطائفي حتى يتنفسوا هواءً نظيفاً، وحتى تصلح رؤيتهم للأمور والأشخاص، ولتتعدل مواقفهم السياسية بناء على مصالحهم المادية لا على مصالح الوهابية الطائفية. فالوهابية تخسر معركتها حتى في الداخل السعودي وبين أتباعها، فكيف بها أن تنجح في الخارج في غير التخريب والتدمير؟!

الصفحة السابقة