فضيحة شعبية مجلجلة

خادم الحرمين يتبادل الأنخاب مع بوش!

سعد الشريف

هل يؤمن الأمراء السعوديون بالأثر القائل: إذا بليتم فاستتروا؟

ربما يكون ذلك، ولكن المبتلين من الأمراء لم يعودوا يكترثون كثيراً بـ (الستر). في الدائرة الضيقة للأمراء، كباراً وصغاراً، تجري الأمور بشكل مفتوح، وتمارس الرذيلة وكأنها شأن اعتيادي. أما في الدائرة الشعبية فإن صفة التديّن يجب أن تلصق بالأمراء، وهؤلاء الأخيرون لا يبخلون بالكلام، فبين كل جملة وجملة يجري ذكر الله، وفضل الله، وتمسك الدولة ومسؤوليها بما يقرّه شرع الله (رب العزة والجلال).. الجملة الأكثر تكراراً في خطابات الملك الراحل فهد.

القشرة الدينية الرقيقة التي تغلّف الأمراء، والتي يحاول الإعلام الحكومي أن يزيدها سماكة، مفضوحة عند الأكثرية من الشعب المُسَعْوَد، ولا يحتاج أكثر المواطنين الى المزيد من الأدلّة على فساد الملوك والأمراء السعوديين. ونقصد بالفساد، شتى أصنافه، ما يتعلق بالشخصي أو العام.

ولكن وكما هي ضروب الفساد المالي والإداري وكما هو القمع والديكتاتورية، أُعطيت معانٍ لا تدلّ عليها، وجهّزت لها تبريرات عرفية ودينية، بحيث أصبحت سرقة ميزانية الدولة والتلاعب فيها شأناً خاصاً (يجوز) للملوك والأمراء اقترافه، باعتبار أن البلاد (ملك) لآل سعود.. وبحيث أصبح القمع والقتل والتعذيب جائزاً في النهج (الإسلامي) السعودي، لأن في المعارضة مخالفة لولاة الأمر، وتمرّداً على الإجماع.. فإن السلوك الخاص صار معياراً أساسياً في الحكم على آل سعود ونظام حكمهم، الى الحد الذي يصبح فيه تبرير القتل والإعتقال والتعذيب والنهب للمليارات وإفقار الناس، مجرد أشياء تافهة لا تقاس بجريمة (شرب كأس من الخمرة)!

لماذا؟

لأن الرمزية الدينية تسقط عن الفاعل، ويجري تباعاً التشكيك في ممارساته الأخرى، الشخصية وغير الشخصية.

القشرة الدينية للنظام السعودي، وما يحيط به الملوك والأمراء أنفسهم من هالة تديّن زائف كاذب مخادع، مسألة في غاية الأهمية، فشرعنة أفعالهم تعني شرعنة نظام الحكم، حتى وإن قام ذلك النظام على غير هدى من الكتاب والسنّة، وهما المرجع المزعوم الذي يدّعيه الأمراء.

لهذا كان الإستتار بالرداء الديني، وإخفاء التصرفات الشخصية، وتكرار عبارات التديّن القليلة التي لا يخلو منها تصريح حكومي مسألة لازمت الحكم السعودي منذ تأسيسه. فعبدالعزيز صار (إماماً) للمسلمين، وفيصل صار (حامي الحرمين الشريفين)، لينتقل فهد الى (خادم الحرمين الشريفين) كلقب له باللغة العربية، وباللغة الإنجليزية أبقى (حامي الحرمين).. وانتشرت في السنوات الأخيرة عبارة (ولاة الأمر) بما لها من ثقل ديني لتقتحم الخطاب الرسمي والشعبي، في الأخبار والمقالات وكل وسائل الإعلام الرسمية.

فهد يتبادل الأنخاب مع كارتر

لكنّ الحاكم (الفاسد) يطغى عليه الإستهتار حين يتعود الرذيلة فلا يبالي بما فيه الكفاية لعواقب ظهوره المتبجح بالفساد، حتى وإن شعر بأن هناك من سيدافع عنه، ويطالب المتهمين له بصورة واضحة عن (الكفر البواح) أو حتى (الفسق البواح)، خاصة من المؤسسة الدينية ورجالها المنتفعين.

الأكثر من هذا، إن (الفاسد) في القمّة لا يقبل إلا أن يكون (مفسداً) للقاعدة الشعبية، بحيث يتسرب الفساد من الدائرة الأضيق الى الضيقة فتتوسع الى الدوائر الأوسع. والهدف أن تكون هناك سواسية في السلوك لا تؤثر على طبقات الحكم الملكية العليا.

بيد أن هذا النشر للفساد يعني تخلياً عن مشروعية الدولة ونظام الحكم القائم على مزاعم دينية؛ كما يعني توتيراً للرأي العام الإسلامي حول من يجب أن يحكم الحرمين الشريفين، وستثار مسألة تدويل الأماكن المقدسة طالما كان الحاكمون فاسدين متجاهرين بالفساد.

هنا تصطدم المساواتية بالمشروعية، وقد كان الحفاظ على سمعة النظام وشرعية الحكم أهم من الأشخاص. لهذا اضطر الملك عبدالعزيز بعد أن قبض على ابنه ناصر، أمير الرياض يومها، مخموراً، الى جلده أمام الملأ. وبعدها عزل ابنه مشاري عن الحياة السياسية بعد أن قتل القنصل البريطاني في جدة وهو في حالة سكر، وبقي مشاري معظم حياته يعيش في الظل.

لكن العائلة المالكة تشبّعت بالفساد الأخلاقي، في مسائل أكبر بكثير من موضوع معاقرة الخمرة.

ولم تحل مسألة التصادم بين سمعة النظام الدينية التي يجب الحفاظ عليها، وسلوك أفراد الأسرة الحاكمة والطبقة النجدية الحاكمة، إلا في عهد الملك فهد.

لقد كان هذا الأخير عبقرياً، فقد حلّ المعضل بصورة مذهلة، تناسب وضعه الشخصي والسياسي، باعتباره أكثر الملوك السعوديين فساداً، ولطالما لقبته الصحافة الغربية بأنه (بلاي بوي)، وتحدثت عن تعاطيه الحشيش الذي لم يقلع عنه إلا في عيادة جنوب إيطاليا أواخر السبعينيات الميلادية الماضية، فضلا عن هوسه بلعب القمار حيث خسر خمسة ملايين دولار في ليلة واحدة في أحد مراكز لعب القمار في موناكو.

الملك فهد هذا، كان في عهد الملك فيصل موتوراً من المؤسسة الدينية الوهابية، وكان على الدوام يحرّض الملك فيصل عليها، ولكن الأخير اعتاد تهدئته والقول بأن الأمور لا تحلّ بالمواجهة. ويبدو أن السنوات التي لحقت ذلك العهد جعلت فهد يبتدع سياسة عبقرية قائمة على أمرين متناقضين، استطاع أن يجعلهما فاعلين بشكل (متواز).

ـ دعم المؤسسة الدينية ورفع رصيدها بسرعة صاروخية.

ـ ودعم الفساد والإنحلال بصورة صاروخية أيضاً.

وشرح فهد للأميركيين أواخر عهد كلينتون (كما تقول نصوص وثيقة أميركية منشورة) الأمر بأنه سيجعل المواطنين السعوديين، ومن خلال السلطات الضخمة للوهابيين، يكفرون ليس بالإسلام، بل بكل دين، وقال بأنه لا يحب الأديان جميعاً.

وهكذا، فإن السياسة العامة في المملكة، تدعم كلا الإتجاهين، الديني الوهابي المتزمت، كيما يغطّي ويشرعن الإتجاه المقابل، بحيث لا ينبس أحدٌ من مشايخ السلطة ببنت شفة، نظراً لأن أفواههم أغرقت بالمال وبالسلطة. ولمن أراد التعجب فليعجب، فإن الملك فهد، الذي كان أكثر ملوك السعودية تحللاً وتهتكاً، لازال حتى اليوم أكثرها شعبية في التيار السلفي الوهابي. إنها مفارقة تستحق التأمّل.

نفس المفارقة تقوم على أن السعودية هي أكثر مالكة ومروجة للفضائيات المتحللة، وهي في نفس الوقت أكثر من يروج للقرآن والدين بنسخته الوهابية!

ممثل الإسلام.. ونعم التمثيل!

لهذا، وبالرغم من أنها المرة الأولى في تاريخ الملوك السعوديين، لم ينبس شيخ وهابي ببنت شفة حين ظهر الملك فهد مع كارتر أواخر السبعينيات وهو يتبادل معه الأنخاب. من المثير أن من نشر الصورة هي مجلة (المستقبل) التي كانت تصدر من باريس، والتي كان السعوديون يمولونها.

ثم بعد بضعة أعوام، في منتصف الثمانينيات الميلادية الماضية، ظهر الملك وهو يتقلّد صليباً من قبل الملكة البريطانية. ومع أن هذه مسألة ليست بذات أهمية عند أكثر الناس، لكنها بالنسبة للثقافة الوهابية، التي تحرّم حتى السفر الى بلاد الكفر، والى حد أن أياً من مفتي آل سعود لم يسافر في حياته خارج السعودية، فإن الدلالة الرمزية للبس الصليب كان يفترض بها أن تثير أعماق أعماق الحسّ الوهابي المتطرف. لكن أياً من ذلك لم يحدث.

والوهابية العمياء التي ترى القذى في عين من تعتبره عدواً جذعاً مكبراً آلاف المرات، فإنها لا ترى الجذع في عين آل سعود أبداً. ترى لو فعل حاكم عربي، أو إسلامي، ما فعله الملك فهد أو الملك الحالي، هل كان الوهابيون سيصمتون، أم أنهم سيستخدمون ذلك في معاركهم الطائفية والسياسية؟.

الآن هناك حادثة جديدة تضاف الى تلك الحوادث التي يتعامى عنها الوهابيون، الباحثون عن (الفسق البواح، والكفر البواح) لملوك آل سعود، الذين اعتاد مفتي الوهابية الأسبق امتداحهم بالقول: (فيهم خير كثير)! طبعاً كثير جداً جداً!

لقد ظهر الملك عبدالله في رحلة واحدة الى نيويورك ليسجل فضيحتين.

الأولى سياسية، تمت تحت مظلة الأمم المتحدة، وبيافطة (حوار الأديان)، وبحضور رئيس اسرائيل ووزيرة خارجيتها.

لم يقل أحدٌ من مشايخ الوهابية شيئاً. لم يسجلوا اعتراضاً علنياً، حين جلس الجميع على العشاء، وحين استقبل الملك قادة صهاينة تحت مسمّى ديني. لم يلتفتوا الى أن غزة تحاصر وتجوّع. لنقل أن هذا له صلة بالسياسة، وهم لا يفهمون شيئاً فيها، أو لنقبل مقولتهم المشهورة: (ولي الأمر أبخص)!

ولكن ماذا عن الثانية؟

الثانية كانت حضور الملك لمؤتمر العشرين حرامي، لإنقاذ العالم مالياً!، حيث تساهم الأموال السعودية ـ رسمياً ـ في إنقاذ أميركا والعالم، في حين يعيش نصف الشعب السعودي فقيراً، 30% من الشعب تحت خط الفقر. هناك، تبادل الملك الأنخاب مع بوش ورؤساء آخرين. ربما لم ينتبه الملك الأحمق الى أن الكاميرا حاضرة، وأنه قبل أقل من 24 ساعة كان يمثل المسلمين جميعاً وبلاد الحرمين والمقدسات وغيرها في مؤتمر حوار الأديان، فإذا بممثل المسلمين وبلاد الحرمين وخادمهما يحتسي الخمر علناً ويتبادل الأنخاب.

نعم.. إنها الخمرة التي يجلد بسببها المواطن، تطبيقاً لشرع الله، وإذا بمطبق الشرع هو من ينتهكه، وليكون الضعيف ضحية، والقوي لا يقام عليه الحدّ.

هنا لم يختلف الأمر أيضاً، فالوهابية لم ترَ ولم تسمع ولم تتكلم!

مئات الآلاف من مشايخ الوهابية شاهدوا ورأوا أو سمعوا عن نخب الملك، فلم تهتزّ لهم شعرة من لحاهم، وحاولوا تفنيد الأمر: من قال أن ما بالكأس خمرة؟ لعله عنب؟ أو ماء؟ أو أي شيء آخر؟ لا بدّ أن نحسن الظن بولاة أمورنا!

ملايين المسلمين والعرب والسعوديين رأوا على التلفزيون صورة الملك المؤمن، ولم يخطر ببال أحدهم أن ما يشربه الملك ماءً قراحاً؟! لماذا؟ لأنهم سيئوا الظن بالطبع!

لم يكن الملك عبدالله في سوئه يوازي عشرة بالمائة من مساوئ فهد أو سلطان أو حتى سلمان. لكنه الحظ السيء ربما.

حظ سيء له كملك أن يصبح سخرية تنسج حوله النكات في كل مجالس السعوديين.

وحظ سيء لحكم آل سعود الذي لن يستطيع الموازنة بين الشرعية الدينية والفساد.

الصفحة السابقة