معركة السعودية الخاسرة في غزة

محمد الأنصاري

أياً كانت نتائج حرب الصهاينة على غزة، وسواء خسرت حماس معركتها المشرفة أم نجحت، فإن السعودية خسرت مقدماً المعركة سياسياً وشعبياً، محلياً وخارجياً.

لقد سقطت السعودية سقوطاً مريعاً، لا يعتقد أنها ستخرج منه في المدى القريب، ومن الصعب ترقيع مواقفها السابقة حتى لو تداركت الأمر بتغيير دراماتيكي ارتدادي يغير بوصلة موقفها بشكل معاكس تماماً.

تنازلت السعودية طائعة عن مكانتها وسمعتها بين شعوب العالم الإسلامي.

بدأت ذلك من خلال موقفها من حزب الله، محاولة ايجاد اصطفاف طائفي يغطي فضيحة موقفها وتآمرها (من خلال لقاءات بندر مع القادة الصهاينة).

اليوم لم يبق شيء، حتى اولئك المهووسين بالصراع الطائفي في الداخل السعودي (الوهابي) أو خارجه، لا يستطيعون تبرير ـ وربما في أكثرهم لا يقبلون بـ ـ الموقف الرسمي السعودي مما يجري في غزة.

إنه موقف لا يمكن لأحد الدفاع عنه، مهما أوتي من مهارة السياسة، ولباقة الدبلوماسية. إنه تآمر ومشاركة سعودية مصرية فاضحة وعلى الهواء مباشرة في الحرب ضد فلسطين.

السعودية ـ وربما لأول مرة في تاريخها ـ تظهر اشمئزازاً غير معهود بالرأي العام العربي والإسلامي، وتظهر لا إبالية تجاه مشاعرهم، وتظنهم بلا قيمة أو أهمية، بل وأظهرت تعالياً يثير الإشمئزاز، كمن يزعم امتلاك الحقيقة والمعرفة والوعي أما الملايين من العرب والمسلمين وغير المسلمين الذين خرجوا في الشتاء القارس يدافعون عن الدماء المراقة ظلماً في غزة، بحيث لا يراهم سوى مجرد غوغاء أغبياء.

شكراً لليبرالية السعودية/ النجدية التي أنجزت هذا التحوّل منذ حرب تموز 2006!

السعودية التي كانت تحرص على عدم مصادمة الرأي العام العربي والإسلامي حتى وإن خالف توجهها، لم تكن بهذه الجرأة من الوقاحة في مواقفها، كانت تلعب على الحبلين، بحيث تظهر التعاطف مع الشارع من جهة، ومن جهة ثانية تعمل ما تريده مع كثير من الحذر من تحت الطاولة.

الآن السعودية تلعب على المكشوف.

انها تعلنها حرباً سياسية وإعلامية واقتصادية ضد غزة، وفي خانة الصهاينة، كما في خانة محمد دحلان وتمويل بضع مئات لاقتحام غزة بعد ان تنهي اسرائيل عملها العسكري، وتنهي مصر والسعودية الضغط السياسي على حماس لتعلن الإستسلام!

كان أمراً مثيراً، ومثيراً للغاية، أن يشحذ الإعلام السعودي كل ما لديه لمحاربة حماس وتحميلها المسؤولية، وكأنها بالضبط الجهد الإعلامي الإسرائيلي الموجه للعالم العربي. وصدق من وصف قناتهم العربية بـ (العبرية).

حقاً إنه لم يتعد الحقيقة بهذا الوصف.

المتآمران الكبيران

وحقاً، إن الأقلام السعودية في الشرق الأوسط وإيلاف والصحافة المحلية في مجملها إلا من رحم ربي من بعض الكتاب، هي أقلام مسمومة، اختارتها الخارجية الإسرائيلية لتضعها في موقعها، فهي تعبر بالضبط عن الموقف الإسرائيلي، وتجادل بالنص عن الموقف والخطاب الإسرائيلي، ولكن بلسان عربي غير مبين.

بمجرد أن يرى المواطن العربي والمسلم قناة العربية، يتحول في الخانة الأخرى.

وبمجرد أن يسمع صوت مشايخ الوهابية، قاضي قضاتهم ومفتيهم، اللذان أفتيا بحرمة التظاهر لنصرة غزة، يزداد اشتعالاً، وغضباً على آل سعود ومؤسستهم الدينية.

أي ان الخسارة السعودية ليست سياسية فحسب، بل خسارة سمعة ومكانة دينية، بمعنى أن الوهابية نفسها سقطت في وحل آل سعود، ولا يمكن ـ بعد ما أفتى زعماؤها ـ أن يلمعوا صورة أفكارهم (التوحيدية النقية) كما يقولون. ستخسر الوهابية الكثير من وهجها، وستخسر الكثير من مكانتها في الخارج، ستعود ـ كما النظام السعودي نفسه ـ منكفئة على ذاتها وداخل بيتها.

والوهابية كما آل سعود، لم ينكشفا فقط أمام الرأي العام العربي والإسلامي، بل وأمام الرأي العام المحلي.

لا يذكر الطرفان إلا بالكثير من التقزز والمقت والغضب، اللهم إلا من كان يمشي ممشاهما وهم قلة على أية حال، ومحصورين ضمن العصبية الطائفية الوهابية والمناطقية النجدية.

من حسن حظ تيار الممانعة ـ رغم الضربات الموجهة إليه ـ أن السعودية أقدمت على خطوات سياسية ودينية وإعلامية أشبه ما تكون بعملية انتحار سياسي على المستوى العربي والإسلامي، الإقليمي والدولي. فمالذي سيحدث بعد الإنحياز السعودي الواضح، بل المشاركة السعودية الفاضحة في الجهد الإعلامي والسياسي وحتى العسكري الإسرائيلي ضد حماس وأهل غزة؟

لقد وقعت الخسارة ابتداءً. فالسعودية منذ اليوم الأول للحرب خاسرة.

خسرت معركة الرأي العام العربي والإسلامي، لصمتها، ثم رفضها للقمة، ثم لتحريضها على حماس سياسياً وليس اعلامياً فقط. ثم مرة أخرى رفضها لقمة الدوحة وبشكل وقح وعلني.

وخسرت معركة النموذج الديني، فتعطل مفعول مخزونها الطائفي، بحيث انها لم تجد أذناً صاغية لمشروعها الطائفي بين الشيعة والسنّة الذي تتمترس خلفه. لقد قضت حرب غزة على معظم ذلك المخزون الطائفي السعودي، ولا يمكن استثماره لفترة غير قصيرة في المستقبل. هذا لا يعني ان آل سعود توقفوا، أو أنهم سيتوقفون، ولكن مصداقية الحرب الطائفية سقطت بحرب غزة، ومصداقية المؤسسة الدينية الوهابية سقطت، ومصداقية آل سعود سقطت.

حرب غزة أسقطت شعاراً سعودياً آخر، بتحويل المعركة الى إيران بدلاً من اسرائيل.

لطالما نبهنا الإعلام السعودي المتصهين أن معركة العرب الحقيقية يجب ان تكون مع ايران. وأنها هي الخطر الذي يفوق خطر اسرائيل بمئات المرات. للتذكير فقط أن الملك عبدالله قال لخالد مشعل أثناء مفاوضات مؤتمر مكة للمصالحة الفلسطينية: (عدوكم ايران، توحدوا ضد ايران، اسرائيل ليست العدو في الوقت الحاضر). والآن وبعد الحرب على غزة، أعيد توجيه البوصلة بشكل صحيح.

فمعركة الأمة، كل الأمة، ضد اسرائيل وحماتها، وضد من يدعمها من عرب (الإعتلال) كالسعودية ومصر، المتواطئتان ضد قضية الأمة المركزية في فلسطين. وهكذا بدلاً من أن تصبح ايران عدواً للعرب موقع اسرائيل، هناك تأكيد شعبي عربي وإسلامي عارم على أن اسرائيل ومن يدعمها في مصر والسعودية وأمريكا وأوروبا هم أعداء الأمة الذين تجب محاربتهم وإسقاط عروشهم.

وخسرت السعودية أمراً آخر أكثر خطورة، فعلى الصعيد المحلي منعت السعودية التظاهرات ولم تخرج سوى مظاهرتين يتيمتين صغيرتين في مدينة القطيف شرق السعودية، ووجهتا بالقمع والإعتقال والرصاص المطاطي، ورفضت الحكومة طلبات التظاهر والإعتصام، واعتقلت بعض من أعلن انه سيتظاهر، كما رفضت حتى الدعاء للمجاهدين الفلسطينيين في المساجد، أو التبرع لهم بعيداً عن السيطرة الحكومية. إن مواقف الحكومة السعودية ومشايخها الرسميين، وموقف إعلامها المثبط والمتواطئ مع اعلام اسرائيل وخطابها السياسي، كل ذلك أدّى الى تآكل شديد في شرعية الحكم. قد لا تتبين آثار ذلك بشكل فوري، ولكنها عمّقت بشكل خطير أزمة شرعية الحكم، الذي لن يصمد إلا بالقمع والقتل وآلة الدعاية والفتيا الوهابية.

حملة ضد قناة العربية لتغيير شعارها

شرعية النظام السعودي حين تتقلص، يتم تعويضها عبر القمع. وهذا يقلص عمر النظام.

لا يمكن توصيف الموقف السعودي الفج تجاه غزة إلا بـ (الأحمق) و(الغبي).

فكل باحث سياسي يرى بوضوح، أن مصادمة المشاعر العربية والإسلامية والإنسانية العارمة، وحتى المحلية الداخلية، وخاصة في موضوع فلسطين، فإنه لا بد وأن يكون خاسراً. لماذا؟

لأن القضية الفلسطينية كانت منذ ولادتها جزءاً من الشرعية لكل نظام عربي، مع تفاوت بينها. وقد كان الوضع فيما مضى أن الإنقلابات العسكرية، والقمع الداخلي، والصراعات بين الأنظمة العربية، تتمحور حول من يمثل مصلحة القضية، ومن يتشدد أكثر في دعوات الحرب ضد اسرائيل. وبعد زمن الخضوع والخنوع الذي أعقب كامب ديفيد وقبلها زيارة السادات، تطور وضع الأنظمة، فجرى إخماد الروح العربية، الى أن وصلت الأنظمة العربية الى مرحلة صارت فيها بلا حياء وتعلن بصراحة انها ليس فقط لا تقف على الحياد تجاه تلك القضية، وليس فقط تعلن التخلي عنها، بل وتزيد في ذلك بأن تقف ضد من يدعو الى سبيل غير سبيل الإنبطاح لإسرائيل.

لكن ما جرى في غزة خلال الأسابيع الماضية، ولأول مرة في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، من تظاهر الملايين من العرب في بلدانهم وفي المنفى، يعضدهم ملايين آخرون من جنسيات وأديان أخرى، ينددون ويتخذون مواقف ضد أنظمتهم، أو لا ترضى عنها.. كل هذا قلب الصورة.

نظن أن السعودية ومصر ومن اقتفى أثرهما السيء، لم تتوقعا حجم رد الفعل الشعبي، وحين ظهر الموقف لم تتراجعا أيضاً، فما زالت الأنظمة تعتقد بأنها تمسك بزمام الأمور، وتستطيع إركاع الشارع بالقوة إن تطور الموقف الى ثورة أو ما أشبه. وقد تكون في هذا التحليل محقة. لكن السؤال: لصالح من هذا الإنشقاق المتعاظم بين تلك الأنظمة وشعوبها؟

بالتأكيد إنه في غير صالح الأنظمة، فقضية فلسطين التي بإسمها يتم تخدير الشعوب العربية وقمعها دفاعاً عن القضية.. هي نفسها التي تحيي الأمة اليوم وشعوبها. وهي نفسها التي تسلم السيف لكل من يريد بتر الأنظمة العربية والقضاء عليها، أو هي تؤسس لذلك على أية حال.

ومن هنا يمكن القول، بأن السعودية ومصر ستخسران إذا ما ربحت حماس.

تخسران على الصعيد الإقليمي حيث سيتعاظم دور الممانعة والمقاومة، أي سيتضخم الدور السوري والإيراني، وسيثبت نهج المقاومة أركانه، وسيزوي باسرائيل وحلفائها من المصريين والسعوديين الى خانة الحصان الخاسر والى الأبد.

أما إذا ربحت اسرائيل المعركة، ولو جزئياً، فإن ربحها لن تحصل عليه مصر ولا السعودية. أولاً، لأن الخسارة المتوقعة لحماس لن تكون قاضية. ولن تكون بالتالي كسراً لجناح الممانعة. ثم إن الربح ـ ثانياً ـ سيذهب الى اسرائيل، حيث تريد استعادة هيبتها الردعية وثقتها بنفسها. وثالثاً، فإن مصر والسعودية قد دفعتا الثمن ابتداءً وقبل ان تنجلي المعركة، وحتى لو ربحتها إسرائيل، فإن كل من يقف معها من الأنظمة لا يمكن إلا أن يكون خاسراً. من يضيع ورقة فلسطين يكون خاسراً، فكيف بمن يبيعها، أو من يحاربها؟

لكن الأكثر غباءًا وجهلاً بالدين والدنيا، هم مشايخ الوهابية، الذين استجابوا لآل سعود، وأفتوا بحرمة التظاهرات نصرة لغزة. هؤلاء لم يحصروا فتاواهم في محيط السعودية، التي يمنع حكامها المواطنين من ابداء اي تعاطف مع غزة وحماس، التي صارت هي العدو بنظر آل سعود.. بل أعطوا فتاواهم ـ ومن خلال توضيح المبررات ـ بعداً اسلامياً عاماً، وكانت مبرراتهم من السخف بمكان أنه يصدق على مفتيها أنه لا يعيش الواقع أبداً، بل هو مغيّب أو أُريد له أن يعيش مغيّباً.

لأن الوهابية ارتبطت بآل سعود صعوداً وهبوطاً، جاءت الفتاوى التخذيلية السلطانية.

ولأن الوهابية وآل سعود يشبهان التوأمين السياميين، فإن انتكاسة أحدهما تعني انتكاسة للآخر.

والإنحلال الأخلاقي والسياسي المريع الذي أظهره آل سعود، لا بد وأن يشمل الوهابية ومشايخها حتى ولو لم يفتوا ضد حماس والمظاهرات، فكيف بهم وقد فعلوا؟

السعودية كما مصر مثخنتان بالجراح ولما تظهر نتائج الحرب الصهيونية. وإذا كان هناك من خاسر أكبر في كل الأحوال، فإنه السعودية أولاً، ومصر ثانياً.

الصفحة السابقة