هل يعلن الشعب تمرّده؟

العائلة المالكة تدفن الإصلاح في الداخل وتمثّله في الخارج!

محمد السباعي

جنّدت العائلة المالكة فئات المجتمع كيما تحارب معها ضد مخاطر موجّهة ضدها وحدها دون سواها، وأوهمت الجميع بأن الحرب على التطرف والعنف سيؤسس لمرحلة جديدة يكون فيها باب الأصلاح مشرعاً على مصراعيه، بل وأكثر من ذلك، وهبت كل من أراد النيل من التشدّد الديني فرصة كافية كيما يطلق حريته في التعبير على أقصى مدى يمكن أن تصل إليه، طالما أن عملية إفراغ التوتر ستتم خارج حدود سلطة العائلة المالكة.

وقع الجميع طائعين في مطب الحرب ذات البعد الأحادي، فصار الكلام عن تطرف ديني، وغفل كثيرون عن التطرف السياسي، حتى خيّل لهؤلاء أن مركز الأزمة يدور حول أولئك الذين عطّلوا عجلة الإصلاح عن الدوران، بفعل العنف بطابعه الديني. وزادوا الطين بلة أن انساق كثيرون في مهمة طلاء صورة العائلة المالكة، حين تكفّلوا بمهمة صنع ثقافة وطنية بمقاييس العائلة المالكة، فصارت الأخيرة تحشدهم تباعاً في محافل ومؤتمرات ولقاءات عن الحوار الوطني تارة، والحوار بين الأديان أخرى، ليصبحوا بعد برهة من الزمن جزءً من الديكور السياسي للدولة السعودية.

وسار الوهم مع أولئك الحالمين بالإصلاح، لأن ثمة وعداً مقطوعاً صنع في لحظة مكر، بأن البلاد مقبلة على عهد إصلاحي غير مسبوق، وصار الوعد دافعاً للمزيد من التنظير للوطن وحدة، وولاء، وبراءً، ومشاغلة، وتعطيلاً لاستحقاقات سياسية وتاريخية منتظرة. وطال الإنتظار، حتى بعد أن أتمّ كثير من الحالمين مهمّة مشايعة الدولة في حربها على الإرهاب الداخلي، وما إن لاح في الأفق زوال الأخطار المباشرة للعنف على الدولة، حتى أعلنت حرباً من نوع آخر، ولكن هذه المرة ضد من وقفوا معها في حربها ضد من شهروا السلاح ضدها وحدها، وبدأت بالتمهيد لذلك بتصريحات مواربة بأن الدولة تسير في طريق التطوّر، ولا يجب الاستعجال في السير، ونحن نؤمن بالتغيير من الداخل، ونرفض الضغوطات الخارجية..كان ذلك منطق وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل، أحد روّاد الإصلاح المزعومين. وبعد أقل من شهر على مثل تلك التصريحات المريبة، شنّت أجهزة الأمن حملة اعتقالات في مارس 2004، وأقفلت ملف الإصلاح ووضعته على رف الإنتظار، بل حتى كلمة الإصلاح صارت محاربة، ولم تعد صالحة للإستعمال الآدامي، وبدأ الكلام عن تطوير، والذي ما يلبث هو الآخر يصبح خبراً من الماضي..

لا تسمع هذه الأيام، من قمة الهرم السياسي إلى أدناه، من يتحدث عن الإصلاح أو حتى التطوير، فكما أغلق باب الإصلاح بإحكام بعد أزمة الخليج الثانية، يغلق مرة أخرى هذه الأيام، فلا حديث يعلو فوق حديث الوطن الشمولي، الذي وحده النجدي من يتقن الحديث عنه، لأنه وحده المستفيد منه. واللافت، أن الإصلاحيين أنفسهم، إلا فئة قليلة مازالت صامدة على خط الإصلاح، أوقفوا الحديث عن الإصلاح بعد أن أصابهم ما أصابهم من حيف الدولة وجورها، فتفرّق الجمع وولوا الدبر، لأن وحدة الإصلاحيين كانت هزيلة، ولأن لا إصرار راسخ على مواصلة الدرب مهما كلّف من تضحيات..

هكذا، نجحت العائلة المالكة في امتصاص غضب النخب من جهة، وشاغلت الناس في معركة الأرزاق عبر سوق الأسهم من جهة ثانية، كيما ينصرف الجميع عن استهدافات مباشرة وحقيقية، فيما ذهبت العائلة المالكة بزهو الإنتصار على الإرهاب والتطرف، وصارت تفاخر وتتاجر بالتجربة الفريدة في الحرب على الجماعات المتشدّدة، التي لولا وقوف الفئات الأخرى معها في تلك الحرب لما نجحت ولا نالت نصيباً من الثواب الغربي..

اخذناها بالسيف، ولازال بيدنا!

الملك، رائد الإصلاح، وبطل التغيير، هو الآخر لم يعد تسمع منه سوى لهجة الوطن، والخوف على الوطن، ووحدة الوطن، والولاء للوطن، وباقي الأساطير الوطنية، التي لا يلهج بها اليوم سوى النجدي المقرّب من العائلة المالكة، أو من يرجو نعمة عاجلة منها. وصار الملك، الذي لم يتعرّف على الوطن بمعناه الحقيقي إلا من خلال عرائض الإصلاحيين، يحاكم الرعية وفق معايير وطنية، ولكنه لم يتقن من تلك المعايير إلا الولاء للوطن، والوحدة الوطنية، حتى يواري سوءة الولاء للعائلة المالكة. ولذلك، لا يشعر الملك ولا الأمراء الكبار، وخصوصاً الأمير نايف بالتناقض بين الوطن والطائفة. فحين يكرر الأمير نايف، وزير داخلية الوطن الإفتراضي، بأن هذه الدولة سلفية، ونفتخر بأنها كذلك، لا يلتفت إلى كل تراث السياسة في العالم حول مفهوم الوطن، وشروط تكوينه، ومقتضيات وحدته..لا يعنيه ذلك كله، فالعين مصوّبة نحو السلطة، ووحدها تحدد معنى الأشياء، وسواء كان الوطن طائفياً أم فئوياً أم مناطقياً، فما يجب ليس سوى ما يقرره الماسك بالسلطة، وما دون ذلك مجرد ثرثرة فارغة، شكلاً ومضموناً..أليس هكذا ما يتداوله الأمراء في المجالس الخاصة؟!

هل يتذكّر أحد ما قاله الأمير سعود الفيصل في 29 يوليو 2004، بأن (المملكة بدأت بالفعل عملية الإصلاح)، أي بعد شهور قلائل على اعتقال الإصلاحيين، ثم يقول (وقد بدأنا حواراً في البلاد حول كافة مناحي الإصلاح)، في الوقت الذي كانت عريضة (رؤية لحاضر الوطن ومستقبله) التي رفعها الإصلاحيون في الأول من يناير 2003، كانت تدعو لحوار وطني شامل، فصارت الدعوة، من بين دعوات أخرى وردت في العريضة، سبباً لاعتقالهم، وإرغامهم على التوقيع على تعهّدات بعدم الإدلاء بأي تصريح أو إجراء أي حوار مع قناة إعلامية..ولاندري عن أي حوار كان يتحدث سعود الفيصل، ومع من، ولأي غاية؟

أتدرون ماهي البداية الفعلية للإصلاح التي تحدّث عنها وزير الخارجية سعود الفيصل؟ تلك كانت الإنتخابات البلدية التي جرت قبل أربع سنوات، 2005، والتي جاءت بنصف كساح ونصف جذام، وانتهت الى سلسلة خيبات..ويجري اليوم حديث متصاعد بين الناس بأن المجالس البلدية الحالية ستواصل عملها لسنة أخرى، بحسب تلميحات وزير البلديات الأمير متعب بن عبد العزيز في الأول من فبراير، وهناك كلام بين الأعضاء أنفسهم بأن التمديد قد يصل إلى سنتين..

لا يحتاج الأمر الى ذكاء خارق، فكل ما في الأمر أن هذه المجالس مرتبطة بصورة مباشرة تنظيماً وإشرافاً وتوجيهاً بوزير الداخلية، ولا يروق له أن تشهد البلاد أكثر من تجربة إستثنائية واحدة، ولأن العائلة المالكة بأسرها لا تطيق الديمقراطية أو الإصلاح، فهي لا تريد أن يعتاد الناس على ممارسة الانتخابات، فيطمعوا بما هو أكبر من ذلك، في الوقت الذي يعيش العالم مهرجاناً انتخابياً مفتوحاً يبدأ من الولايات المتحدة وصولاً الى الشرق الأوسط..مايثير السخرية حقاً أن تكون السعودية أكثر بلد نال من أوسمة الليبرالية، والديمقراطية، والإنفتاح، والتسامح، والاعتدال لم ينله حتى المؤسسون الأوائل لهذه المفاهيم..ولكن قاتل الله المال كيف ينفع الباحث عنه ولكن بزوال مصداقيته..وإلا منذ متى كان يتحدث المستبد عن الحرية والديمقراطية، والإقصائي عن التسامح والتعايش، والاستئصالي عن السلم الأهلي..لولا أن ثمة من قبل الدنيّة في كرامته أفسح في المجال أمام حملة العلاقات العامة التي بدأتها السعودية بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر، ولكن حين أرادت أن تصنع من العدم وجوداً، خرج رماداً.

على أية حال، فنحن نعترف بأن العائلة المالكة مرّرت كذبة كبيرة على السكّان بمن فيهم الإصلاحيين، وبخبرتها الطويلة في المكر نجحت مرة أخرى في أن تسوّق بضاعة فاسدة وأوهمت بأنها مصّممة وفق أرقى المعايير العالمية. ومع إدراكنا الراسخ بأن الخاتمة لن تكون لصالح العائلة المالكة، وما تفعله ليس سوى مسلسل طويل من الهروب من القدر، إلا أن للفئات التي شاركت بوعي أو بجهل أو عفوية وفطرية في معركة الحكومة ضد الإرهاب دروساً أن تتعلمها من تجارب لا يكفي فيها مجرد إنتظار المزيد من الوقت كيما يأتي فرج الإصلاح، فقد اعتادت هذه العائلة على الإنتظار حتى أدمنته، فحقوق الرعية في حساباتهم قابلة للتأجيل، طالما سمحت سياسة الترهيب والترغيب بذلك، أما حقوق السلطة فلا تهاون فيها ولا تلكؤ..

إذا كان الحال كذلك، فمالذي يجعل الناس تضبط ساعة حركتها على توقيت العائلة المالكة، ولماذا تصبح أولويات الأخيرة أولوياتهم، ولماذا لا يكون العكس، أليست السلطة وديعة في يد من يمسك بها، ولولا الناس ما كان هناك حاكم ولا حكومة..فهل ترك شعب كامله أرضه من أجل حكومته، أليست الأخيرة هي من تزول والشعب باق.. فما هو مطلوب من الناس، والإصلاحيين في مقدمهم، أن ينبذوا أجندة الحكومة وأولوياتها، باللسان كأضعف الإيمان بالإصلاح والكفر بالإستبداد والإحتكار الشامل للسلطة والثروة..

رهان العائلة المالكة دائماً على الإنطفاءة السريعة لحماسة الجمهور، وخصوصاً بعد زوال المؤثر، والذي غالباً ما يكون خارجياً، إما بسبب حرب قريبة من الديار، أو تغييرات كبرى في المنطقة، أو توتّرات أمنية عاصفة، ما يدفع بالعائلة المالكة إلى الانحناء للعاصفة وتداعياتها في الداخل، قبل أن تبدأ بالرد وإعادة أمور السلطة إلى نصابها..هكذا كانت في فترة المد الناصري، وكذا كانت في بداية الثمانينات، وواصلت السياسة ذاتها في حرب الخليج الثانية، وبعد حوادث الحادي عشر من سبتمبر، ثم احتلال العراق..فلم تحد عن سياسة الإنحناء ثم الرد. واذا ما تتبّع المراقب لتصريحات الملوك والأمراء السعوديين في الإصلاح، سيجدها دائماً مرتبطة بأزمات، وليس بمبادرات مستقلة، لأنها ببساطة تدرك سلفاً طبيعة الأزمة المستحكمة في العلاقة بين المجتمع والعائلة المالكة، وتدرك أيضاً بأن لا حل يمكن أن يزيل الأزمة إلا بالإصلاح، ولكنه حل غير مقبول، كونه يتطلب إقتطاع جزء من السلطة ونقله إلى المحكومين، وكيف يكون ذلك وقد تربّى أبناء العائلة المالكة على أن ما فوق الأرض وأسفل منها ملكاً خاصاً لهم وحدهم، لا يشاركهم فيه أحد.

نعتقد بأن الوقت قد حان كيما يبدأ التمرّد في شكله الثقافي كمرحلة أولى وصولاً الى التمرّد السياسي، لأن هناك فيما يبدو نزوعاً لدى العائلة المالكة لدفع الناس لخوض معاركها مع الخارج، وفي الداخل، وصار مطلوباً من كل فرد أن يكون جاهزاً لتلبية نداء الوطن ـ السلطة ـ العائلة المالكة، كيما يتحوّل إلى ناعق بإسمها، ومدافع عن مواقفها وإن جاءت مطرّزة بكل أشكال العار، كموقفها من غزّة..وغريب أن يجادل بعض المفتونين بهلوسات العائلة المالكة بأن مخالفة موقف الحكومة في القضايا السياسية يعتبر خيانة للوطن..هنيئاً لكم بهذا العفن!

في تقديرنا، أن مخالفة الحكومة في مواقفها السياسية يعتبر خطوة في الطريق الصحيح، وكذلك مقاطعة لقاءات الحوار الوطني، الذي تحوّل الى حدث هزلي لا يستحق مجرد الوقوف عنده، فقد تخلى عنه حتى من كانوا يحشدون الدنيا من أجل المشاركة فيه، فإذا هم يتسللون من أبوابه الخلفية بعد أن خلع الحوار رداءه، وكشف عن دناءة أهدافه، فإذا بالمشاركين قد صحوا على خديعة وقعوا فيها تحت شعار الحوار، الذي لم يعالج سوى مشكلة الحكومة، التي باعتهم للخارج، كجزء من تصدير الصورة الجديدة..الليبرالية للغاية!

نعم، الإصلاح لم يبدأ حتى يتوقف، وعن سابق تصميم لم تشأ العائلة المالكة أن تقدّم تنازلاً دونما ضغوطات جديّة تهدّد السلطة، فاختارت زخارف الإصلاح، على أن ترغم الناس على دفع تكاليفها الباهضة، فتقمع في الداخل الحريات وتتصدر مؤتمرات حقوق الإنسان في جنيف، وتفتقر الى مؤسسات أهلية مستقلة، ولكن تشارك في أكبر مؤتمرات المجتمع المدني في العالم.. فقد ذهبت العائلة المالكة بالإصلاح، فهل تتوقف المطالبة الشعبية بإقراره، حتى لا ينطبق المثل: أشبعتهم سباً وأودوا بالإبل.

الصفحة السابقة