عقلية الاستبداد وقابلية الاستعباد

محمد الأنصاري

أبدع المفكر الجزائري مالك بن نبي في كتابه (شروط النهضة) الصادر سنة 1948 مصطلح القابلية للإستعمار في توصيفه للفرد الذي يقع تحت وطأة إستعمار خارجي، وتتولّد لديه بمرور الوقت قابلية للإستعمار. هذه الصورة المكثّفة، تفتح الأفق على قابليات أخرى لدى الأفراد الذين يخضعون تحت تأثير ظواهر طغيانية إجتماعية أو سياسية أو اقتصادية أو حتى ثقافية، فتصبح لديهم قابلية التعايش معها بل والدفاع عنها.

بعد نهاية عصر الاستعمار، دخلت دولنا العربية عصر الإستبداد فورث مساوىء العصرين فأصبحت لدى الأفراد قابلية الاستعباد والاستبداد معاً، والتي تنعكس في سلوك وتفكير العالم، والمثقف، ورب الأسرة، والموظف في دائرة حكومية، وأستاذ المدرسة، والتاجر، ورب العمل..حتى تصبح ممارسة الإستبداد جبلة يألفها الجميع، ولا يرى في ذلك خرقاً لقيمة إنسانية أو تجاوزاً على كرامة بشرية، بل ولا إنتهاكاً لمبدأ ديني سامي.

وكتب عبد الرحمن الكواكبي سنة 1902 مؤلّفه (طبائع الإستبداد ومصارع الإستعباد) خلص فيه إلى: (أنَّ المستبد يتّخذ المتمجّدين سماسرة لتغرير الأمة باسم خدمة الدين، أو حبّ الوطن، أو توسيع المملكة، أو تحصيل منافع عامة، أو مسؤولية الدولة، أو الدفاع عن الاستقلال، والحقيقة أنَّ كلّ هذه الدواعي الفخيمة العنوان في الأسماع والأذهان ما هي إلا تخييل وإيهام يقصد بها رجال الحكومة تهييج الأمة وتضليلها..) ويضيف (المستبدُّ لا يستغني عن أن يستمجد بعض أفراد من ضعاف القلوب الذين هم كبقر الجنة لا ينطحون ولا يرمحون، يتّخذهم كأنموذج البائع الغشاش، على أنّه لا يستعملهم في شيء من مهامه، فيكونون لديه كمصحف في خمّارة أو سبحة في يد زنديق، وربما لا يستخدم أحيانًا بعضهم في بعض الشؤون تغليطًا لأذهان العامة في أنَّه لا يعتمد استخدام الأراذل والأسافل فقط، ولهذا يُقال: دولة الاستبداد دولة بُلهٍ وأوغاد).

تفتح هذه المقدّمة أفق قراءة نقدية لكتابات بدأت تقتحم الصحف المحلية، وتزيّن اليوم ما كان قبيحاً بالأمس، بل في كل زمان ومكان، وصار البعض يجهد في تقديم رؤية فلسفية للإستبداد عبر تصميم إطارات جدلية مفتعلة، الغاية منها إعداد وجبة تبريرية ساخنة لنظام إستبدادي لا يستمد شرعيته إلا من أقلام أدمنت العيش على محابر النفاق والتضليل.

مشكلة الإستبداد تكمن في قدرته على تجديد نفسه، والظهور في أزياء متنوعة، ويبدأ دورته مع أول إشارة يطلقها المستبد حتى يتلقفّها المتمجدّون، بتعبير الكواكبي، بكونها أمر عملياتـ، حتى يبدأ كل من موقعه بتعميم الاستبداد، وشرعنته، فيخرج في هيئة ثقافة استبدادية يتربى عليها المجتمع وتصبح حارساً على وعيه وسلوكه..

يستدّل على الاستبداد في تبدّل أطوار أهل المعرفة بحسب ميول المستبدين، فإن قالوا إصلاحاً قالوا بأنا معكم من المصلحين، وإن قالوا إنما الإصلاح رجس فاجتنبوه، قالوا معاذ الله أن نقع فيه، فصار المستبّد مصدر التشريع، يحلّل ويحرّم وعلى العالم والمثقف والجاهل إتبّاع أوامره واجتناب نواهيه..بالأمس، قالوا بأن الاستعانة بالقوات الأجنبية كفر وإلحاد، وحين استعان المستبد بالقوات الأجنبية صار حلالاً بل واجباً تمليه شرائع السماوات والأرض.

بالأمس أيضاً كان الاصلاح خياراً صالحاً، لأن المستبّد قال بذلك، وحين تخلى عنه صار خيراً للناس وكفى الله المؤمنين القتال. يعلن الملك عن هيئة البيعة لتتولى مهمة تعيين ولي العهد بعد موت الملك، فتصبح الحكمة دليلاً له، فيملأ رعايا الإستبداد الدنيا مدحاً وإطراءً بتشكيل الهيئة تلك، ويحسبونها عنواناً على استقرار الدولة ونهجاً قويماً في ترتيب البيت الداخلي، ثم بعد تعيين وزير الداخلية نائباً ثانياً لرئيس مجلس الوزراء، يتبدّل الحال، ويصبح التعيين نفسه قراراً حكيماً ولا يصدر إلا عن حكيم، بالرغم من أن قرار التعيين يعني الفناء الموضوعي للهيئة ومع ذلك الحكمة تحوطهما أنّى كان القرار..فكل ما يقرّره المستبّد، حقاً كان أم باطلاً، يتحوّل إلى شرعة ومنهاجاً، وعلى رعايا الاستبداد التسليم بقضاء المستبد.

قال الأمير نايف بأن تعيين أعضاء مجلس الشورى أفضل من انتخابهم، فلم يحد رعايا الاستبداد عن تعليماته، وحسبوا ذلك دليل نبوغ لا يعرف كنهه إلا الله سبحانه وتعالى والراسخون في العلم، بل هناك من وصفه بأنه (رجل التطوير في زمن الإصلاح)، وتسابقوا في حلبة النعوتات، حتى ضاقت قواميس اللغة بما رحبت لفرط ما غرف منها رعايا الاستبداد، فلم يبق نعت يليق بالمصلحين والعظماء والأنبياء إلا كان لنايف منه نصيب..

وأسوأ ما في الاستبداد أن يكون له علماء وفلاسفة ومثقفون، فيتحوّلوا الى أركانه، ودعائم استقراره، ومصادر دوامه، والدوام لله سبحانه تعالى. ولولا هؤلاء لما ترسّخت أسس الإستبداد ولا استشرس في دفاعه عن حكمه المستبد. فهو يستعين بالعقلاء فيكونوا له أعواناً ينفعونه بدهائهم، ولكن ما إن يشعر بأن ساعة صحوتهم قد حانت يقوم بالتخلّص منهم.

في مقالة بعنوان (مشاريع الإصلاح الغربي..دروس لا نتعلم منها!) نشرت في صحيفة الجزيرة في 6 مارس الماضي للكاتب فائز موسى البدراني الحربي. للوهلة الأولى بدت المقالة وكأنها قراءة علمية لتجارب الدول التي تبنّت برنامج إصلاحات في أجهزتها الأدارية وهياكلها التنظيمية وسياساتها وأفضت إلى إنهيار الدول أو وقوعها تحت وطأة الإستعمار..وبالرغم من أن تقييماً من هذا القبيل قد تردّد كثيراً في الأدبيات الحركية والحزبية الدينية بدرجة أساسية وكذلك كتابات بعض المؤدلجين الإسلامويين، والذين لا يجدون مثالاً يرجعون إليه سوى الدولة العثمانية التي أذعنت لشروط الغرب في تبني برنامج إصلاحي شامل، فانتهى به إلى الإنفلاش الكامل سنة 1924.

يعتبر الكاتب بأن الإصلاح كان مؤامرة أوروبية على الدولة العثمانية لإسقاط أكبر اتحاد إسلامي، فكان رفض السلطان عبد العزيز العثماني الذي حكم في الفترة ما بين 1861 ـ 1886 لخيار الإصلاح سبباً في قتله على يد يهود الدونمة، وفي عهد السلطان عبد الحميد الذي حكم منذ سنة 1876 ليجد نفسه أمام واقع جديد، بعد أن (تمكّنت الأيدي الماسونية الغربية) من تجنيد الوزراء وكبار الموظفين في الدولة العثمانية لخدمة أهدافها..

وخلص الحربي في مقالته إلى أن (الدول الاستعمارية تستخدم مضوع الإصلاح مدخلاً للتدخّل في حياة الشعوب الأخرى والسيطرة عليها أو تدميرها..) ثم يتساءل في الأخير (فهل نطلب السلام والإصلاح من الغرب؟).

وبصرف النظر عن طبيعة المقاربة التي اعتمدها الكاتب الحربي للوصول إلى نتيجة مقرّراً سلفاً، وما الانتقائية في الأمثلة، فضلاً عن توجيه المعلومات التاريخية إلا دليلاً واضحاً على ذلك، فإن الدولة العثمانية لم تقع ضحية (مؤامرة الإصلاح!)، ولكنها دفعت ثمن الاستبداد الذي نخر أركانها، وبلغ الإفتراس بين المستبدّين حد أن لا يصل خليفة إلى العرش إلا بعد أن أعمل السيف في رقاب المنافسين له من أخوة وأبناء وأقارب وخصوصاً في العهود الأخيرة..

أما أن الاصلاح القادم من الغرب يكون سبباً في انهيار الدول، فلا نأتي بجديد حين نقول بأن للغرب هذا أجندته السياسية وأهدافه الإستراتيجية، شأن كل دول العالم، ولكن القول بأن الإحجام عن الإصلاح نجاة من الغرب فتلك مصيبة المستبدين، بل هذا ما يريدون سماعه، وتعميمه بل والتعبّد به.

لقد سمعنا قبل سنوات تهمة مفادها أن كل من ينادي بالإصلاح يصبح عميلاً للغرب، أو متواطئاً مع قوى خارجية أو على أقل تقدير متأثراً بأفكار غربية، فكان غاية آمال المستبدين، أن يتردد صدى تلك التهمة في كل أرجاء البلاد وتطوف بين العباد حتى يمقت الناس كلمة إصلاح، ويأنسوا بالإستبداد الذي لا مفرّ لهم منه إلا بحبل من الله وحبل من الناس.

مقالة أخرى في سياق مقارب نشرتها صحيفة (الوطن) في 9 مارس الماضي للكاتب فاضل العماني بعنوان (الإصلاح القادم من أعلى). المقالة كتبت عقب إعلان الملك عبد الله عن ما أطلق عليه بالتغييرات والتعديلات الوزارية والإداية، بالرغم من أن الأمر كله لا يعدو سوى مناقلات، وإعادة تموقع في خارطة الحكم. من وجهة نظر الكاتب أن ضجة شعبية وإعلامية رافقت تلك التغييرات، مع أن تلك الضجة مالبثت أن انطفأت سريعاً بعد اشتعال أحداث البقيع في المدينة المنورة بين زوّار شيعة ورجال هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتداعياتها اللاحقة في المنطقة الشرقية، حيث نسي كثيرون تلك القرارات..

وبدون الدخول في تفاصيل المسألة، ولنقف عند الفكرة أو الرؤية بحسب تعبير الكاتب التي خرج بها من قراءته للتغييرات والتعديلات تلك. يرى العماني بأن ماجرى كان بمثابة خروج من ما أسماه (نفق البيروقراطية والبرجماتية والمحسوبية والقبلية والمناطقية والمذهبية وباقي السلسلة المقيتة لمصطلحات الانكفاء والانزواء والتخلف). وإذا كان الأمر كذلك، فهل يمكن العثور على مضادات لهذه المصطلحات في التغييرات الوزارية والإدارية، بينما الحال أن أميراً بخلفية عسكرية تسلّم وزارة التربية والتعليم، ومن غريب ثقافة الاستبداد أن تصوّر ذلك على أنه فضيلة، حيث اعتبر ذلك (دلالة واضحة على إحلال مفاهيم جديدة على حقل التربية والتعليم كالانضباط والاهتمام بأدق التفاصيل والمراقبة والجدية والصرامة).. هنيئاً للمستبدين بكم.

ثانياً، إذا كانت التعديلات والتغييرات أحدثت ضجة إعلامية وشعبية وبلغ صداها العالم، فهل يستقيم حالها مع المرأة أيضاً التي حسب قوله (اقتطعت لها شيئاً بسيطاً من كعكة التغيير والإصلاح..)..

فحوى مقالة العماني، كما ينبىء عنها العنوان، أن الإصلاح القادم من أعلى هو الخيار الأفضل، والأسرع. وفي حقيقة الأمر، أن المقالة بقدر ما تفتح جدل على خيارات الإصلاح أن تأتي من أسفل، أي بدفع من المجتمع أو من الأعلى من السلطة، إلا أن الرسالة المستورة في المقالة ليست خافية أيضاً وتلامس خطوط التفكير الاستبدادي. في الدول الشمولية تصبح عملية الإصلاح مستعصية ومستحيلة لأن فاقد الشيء لا يعطيه، وهل الاستبداد الا شقيق الفساد، فلا يرجى من مستبد صلاح، ما لم يكن قد جحد بكل ما كان عليه من فساد، ولم يجد إلا طريق الصلاح لإنقاذ مملكته..

في التاريخ البشري، لا نكاد نعثر على حالة واحدة جاء فيها المستبد بالإصلاح بملء إرادته، أو أن هاتفاً من السماء ناداه بأن إتبّع سبيل المصلحين فاستجاب له. فكرة التغيير من أعلى تبدو مغرية للمستبّد، لأنها ترهن الرعية لخياره، متى ما شاء وكيفما شاء، وعليهم قبول حجم التغيير ودرجته، وهو يصبح عليهم محسناً (وما على المحسنين من سبيل). والأخطر في تبني فكرة إستبدادية من هذا القبيل أنها تؤدي إلى تعطيل إرادة الناس وشلّها، فلا يكون لهم إلا ما أراد المستبدّ فمشيئته قانون، وإرادته تشريع، وما عليهم إلا الحمد والشكر في السر والعلن.

ما قاله العماني في مقالته ليس سوى تظهيراً لإرادة المستبد الذي يواجه المصلحين في رعيته بأن ليس لكم أن ترغمونا على شيء لا نقبل به، فإن أصلحنا فبإرادتنا نصلح، وإن أحجمنا فذلك حق لنا وحدنا نعطي متى نشاء ونحرم من نشاء ومتى نشاء..ولنا في تجارب الإصلاحيين مع الملوك الغابرين والحاليين لعبرة، حتى أن أمراء في العائلة المالكة يحسبون على الاتجاه الليبرالي قالوا بأننا لن نقبل بالإصلاح القادم من الخارج، وقصدهم أن لا خيار يفرض من الشعب، وإن الإصلاح يأتي من الداخل يعني من الأعلى، أي من العائلة المالكة..ولكن مصيبتنا في من لديهم قابلية للإستبداد يغمروننا بأفكار عفى عليها الزمن.

الصفحة السابقة