لا سياسية ولا إقتصادية!

معوّقات الإصلاح: وجود عائلة مالكة مستبدّة!

يحي مفتي

أغلقت زيارة الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى الرياض الشهر الماضي الأبواب أمام أية إمكانية للضغط على النظام السعودي من أجل تبني (القيم الديمقراطية) و(العدالة) بحسب ما جاء في تصريحات أوباما إزاء الإحتجاجات التي أعقبت الإنتخابات الإيرانية في 12 يونيو الماضي.

باتت العائلة المالكة خارج التغطية الديمقراطية الأميركية، لأن ثمة (فحشاً أميركياً) في التعاطي السياسي مع قضايا منطقة الشرق الأوسط. في الرؤية الأميركية، بات الإصلاح السياسي في السعودية شأناً داخلياً، فيما شهد العالم بأسره (الإعصار الإعلامي) الذي ضرب إيران بعد الإنتخابات، إلى درجة أنه كان الفاعل الرئيسي في تحريك التظاهرات الاحتجاجية على نتائج الإنتخابات، وتظافر قادة الغرب على تأجيج الشارع الإيراني بتصريحات ملغومة، ليس تلبية لنداء الضمير الديمقراطي بل لتحقيق مآرب سياسية باتت معروفة، ليس أقلها إزاحة أكبر عقبة في طريق التسوية في الشرق الأوسط.

داخلياً أيضاً، يعاد تشغيل المسوّغات القبيحة شكلاً ومضموناً لوأد الحراك الإصلاحي في السعودية، التي ما فتئت تغذي مثل هذه المسوّغات لدى الغربيين، الجاهزين عملياً لقبول أي مبرر لتعطيل التحوّل السياسي. ولأن الإصلاح السياسي بالمقاييس الغربية هو ما يقوم على الإنفتاح الثقافي والإقتصادي على الغرب، فإن البعد السياسي يصبح ممقوتاً إذا ما أضرّ بمصالح الغرب الحيوية.

ما يتم تسويقه سعودياً لحكومات غربية، يعتقد زعماً بأنها تهتم بتحسين شروط علاقتها بالسعودية بفعل الوصمة السياسية التي تلاحق تلك الحكومات بسبب تحالفها مع نظام شمولي رجعي ومستبد، أن ثمة معوّقات رئيسية تحول دون تحقّق الإصلاح السياسي، ومن بينها الخلافات داخل العائلة المالكة، ومعارضة التيار الديني المتشدّد.

تؤسس الخلفية السياسية لأخطاء متسلسلة، وتبدأ بتثبيت حقيقة زائفة بأن لدى الملك عبد الله، أو أي من أمراء العائلة المالكة الآخرين، رغبة في الإصلاح السياسي، بناء على تغييرات شكلية ثبت بأنها ليست سوى إجهاض متعمد لفرص الإصلاح. ولذلك، يمكن إستعادة ما ذكرناه في أعداد سابقة بأن السعودية ستكون آخر بلدان الشرق الأوسط التي يمكن أن تشهد تغييرات سياسية حقيقية.

وإذا كان ثمة ما يدعو للحديث عن معوقات في هذا البلد في موضوع الإصلاح السياسي، فإن النقطة الجوهرية في التحليل تبدأ من نفي وليس إثبات أية رغبة بالإصلاح لدى الملك أو من دونه من الأمراء، دع عنك التقسيم الساذج داخل أجيال الأمراء، على أساس ليبرالي ومحافظ، فقد أظهر من يوصفون بالأمراء الليبراليين تشدّداً غير مسبوق في قضية الإصلاحيين الذين جرى اعتقالهم في 16 مارس 2004.

مايقال عن خلافات داخل العائلة المالكة لم يكن على صلة مباشرة أو حتى غير مباشرة بموضوعة الإصلاح، بل غالباً ما كانت ومازالت الخلافات تدور حول (تقاسم السلطة). وعلى أية حال، فإن تلك الخلافات حسمت في الشهور الماضية بعد أن توصّل الملك والجناح السديري إلى توزيع مبكّر للحصص في الدولة، فقد تولى الأمير مشعل بن عبد الله إمارة نجران، فيما تولى إبنه الأمير متعب رئاسة الحرس الوطني بالنيابة، وفي المقابل أصبح الأمير نايف نائباً ثانياً، فيما بات إبنه الأمير محمد بن نايف الوزير الفعلي للداخلية، والأمير خالد بن سلطان وزيراً للدفاع.

وهنا تبدو الدلالة واضحة على أن الخلافات داخل العائلة المالكة لم تكن عائقاً أمام الإصلاح، فلو كان الأمر كذلك، لرأينا بعد تقاسم الحصص بوادر إصلاحية وإن على مستوى منخفض. على العكس تماماً، فقد لحظنا تشدّداً علنياً مع قدر غير مسبوق من التبجّح من جانب الأمير نايف الذي أكّد في أكثر من مناسبة على معارضته لمبدأ الإنتخاب، ومشاركة المرأة. بل ما يزيل الغموض لدى المراقبين هو قرار تأجيل الإنتخابات لنصف أعضاء المجالس البلدية، والتي جاءت عقب عملية التسوية بين الملك والجناح السديري.

اوباما ينحني للنفط والجهل معاً!

وفيما بقي الملك أسير هزاله وهشاشته السياسية، بدا الأمير نايف أكثر تشدّداً ليس في موضوع قيادة المرأة للسيارة، ولا مشاركتها في مجلس الشورى فحسب بل في كل ما له علاقة بتغييرات سياسية من أي نوع. وليس مستغرباً، والحال هذه، أن تتعزز القناعة بأن ما قيل عن مكافحة الفساد في الدولة من قبل الملك لم يكن سوى جزء من معركة داخلية على السلطة. ورغم ذلك، لم تحقق أي من (لجنة النزاهة) ولا (هيئة مكافحة الفساد) أي منجز في هذا الملف، منذ تشكيلهما، مع أن ثمة ما يدعو لعملهما بكثافة عالية خصوصاً بعد الطفرة الثانية التي شجّعت الأمراء على المزيد من الفساد ونهب المال العام. لا، لم يحدث أي من ذلك، ولن يكون هناك محاسبة ولا نزاهة ولا مكافحة، فقد حسم الإتفاق بين الملك والجناح السديري الموضوع.

ما يقال عن أن الملك عبد الله محاط بأمراء نافذين في العائلة المالكة يعارضون الإصلاح، ليس سوى الصورة التي يراد لها أن تنعكس في الإعلام الخارجي، بما يجعل للتجاذب السياسي بطابعه الثنائي جدوى في الموضوع الإصلاح، إذ لو كان هناك إتفاق على الإصلاح أو عدمه لكان الأمر مختلفاً.

الملك يريد الإصلاح وهناك من يعارض ذلك، هكذا يبرر حتى لحكومات غربية تحالفها مع الأنظمة الشمولية في المنطقة، بالرغم من أن الأدلة على الميول الإصلاحية لدى الملك لا تقدّم على أنها قاطعة، بل غالباً ما ينظر إليها على أنها قائمة تمنيات، وأن ثمة في الأفق ما يبشّر بإرادة مستقبلية مفتوحة بالإصلاح، ولكن كيف، ومتى؟ فلا أحد يعلم. وحقيقة الأمر، أن تلك الإرادة غير موجودة، وغاية مافي الأمر، أن الملك عبد الله، شأن ملوك سابقين، أراد امتصاص (الهبّة) الداخلية بعد حرب العراق عام 2003، وانطلاق موجة العرائض الشعبية المطالبة بالإصلاح، فتحوّل فجأة إلى ملك الإصلاح ورائده وزعيمه، ريثما تنهي وزارة الداخلية مهمتها في قمع جماعات العنف، والتيار الاصلاحي. ومع أول تباشير استعادة الدولة لتوازنها الداخلي والخارجي، تبدّلت اللهجة السياسية لدى الملك والأمراء، بدأت بتصريحات سعود الفيصل يتّهم فيها الإصلاحيين بأنهم يهددون الوحدة الوطنية وبالعمالة للأجنبي (يالسخرية القدر)، وأملى الأمير نايف على الإعلام مصطلح (التطوير) بدلاً من (الإصلاح) الذي أصبح استعماله محظوراً يعاقب عليه القانون، بحسب تعلميات شفهية الى رؤساء تحرير الصحف المحلية.

أين الملك من ذلك كله؟ كان الصمت جوابه، والقبول بما يقوم به أخوه وزير الداخليه موقفه، كما تخلى هو الآخر عن استعمال كلمة (إصلاح)، التي لم تفارق لسانه قبل السادس عشر من مارس 2004.

وإذا تجاوزنا البعد السياسي في الإصلاح، فهل تغيّر الحال في الحقل الإقتصادي؟

مع إعلان الحكومة عن عدد السكان الأصليين في البلاد والبالغ عددهم 18 مليون نسمة، يجب أن نتذكر بأن نسبة البطالة مازالت تتجاوز 20 بالمئة (أنظر هذا العدد)، وهناك ما لا يقل عن 65 بالمئة من المواطنين لا يملكون سكناً، دع عن تدني الخدمات العامة في الصحة والتعليم والماء. يتذّكر المواطنون من غرب البلاد إلى شرقها أن مستشفيات الحكومة تعاني من نقص في الدواء وتدني مستوى العلاج، فضلاً عن هروب المرضى من بعض المستشفيات لافتقادها الى أجهزة تكييف، وبعض المرضى يجلبون معهم أجهزة تكييف متنقّلة، أما أزمة المياه والمجاري الصحية فحدّث ولا حرج.

السعودية صاحبة أكبر اقتصادي عربي صحيح، ولكن ما هو صحيح أيضاً أن هناك ملايين من المواطنين يحتاجون إلى وظائف ومساكن وتعليم وصحة، وقد سمعنا كثيراً عن استعداد للإنفتاح الاقتصادي على الخارج من أجل جذب المستثمرين بما يتيح وظائف للعاطلين عن العمل، ولكن كما يقول العراقيون (خير لك أن تسمع عن المعيدي من أن تراه)، فخبراء الاقتصاد المحليون والأجانب يرقبون باستغراب ارتفاع وتيرة البطالة، فيما لا انعكاس ملحوظ لاستثمارات اقتصادية على الداخل. فالصورة التي شاهدها كثيرون في أرجاء العالم صور تجمهر الآلاف من العاطلين عند عدد من الوزارات والإدارات الحكومية من أجل حفنة من الوظائف. وإليك مقتطفات من قصص المعاناة التي يعيشها الناس في هذا البلد بحثاً عن لقمة العيش منذ بدء الطفرة الثانية سنة 2004:

ـ في يوليو 2006، نشرت صحف محلية خبراً عن تجمهر 5 آلاف من طلاب الثانوية أمام مركز تدريب الأمن العام في مكة المكرمة للحصول على وظيفة جندي.

ـ في مارس 2008 نشرت صحفية الحياة تقريراً عن آلاف السعوديين الذي يجوبون دول خليجية خصوصاً قطر والكويت بحثاً عن فرص وظيفية بعد (فقدان الأمل) في العثور على وظائف في بلادهم. وتجمّع عدد كبير من السعوديين والسعوديات عند مبنى وزارة التربية الكويتية بعد اعلانها عن ثلاثة آلاف وظيفة، في تخصصات مختلفة وللجنسين.

ـ في أغسطس 2008 تجمهر عدد من أولياء أمور خريجات متقدمات على الوظائف النسائية في حفر الباطن أمام مكتب الخدمة المدنية بحفر الباطن بصورة يومية بعد استبعادهن لأسباب غير معروفة، ما اضطر موظفو الفرع للاستعانة بالدوريات الأمنية. من جهة ثانية، أدى ازدحام عدد كبير من المتقدّمات لدى فرع وزارة الخدمة المدينة القسم النسائي في أبعها الى اغماء بعضهن بسبب الاختناق وطول الانتظار والاحباط النفسي من قرارات القبول المحدودة

ـ في مارس الماضي، تجمع عدد من خريجي معهد الأكاديمية الدولية للعلوم الصحية بحائل بمنطقة حائل أمام مبنى فرع وزارة الخدمة المدنية بحائل مطالبين بتعيينهم على وظائف وذلك بعد تخرجهم لأكثر من عام ووعود الوزارة لهم رغم اجتيازهم لاختبار الهيئة السعودية للتخصصات الطبية.

ـ في إبريل الماضي تجمهر أحد عشر ألف موظف وموظفة من وزارة التربية والتعليم يحملون هماً واحداً، و يعيشون على أمل واحد، وهو تحسين وضعهم الوظيفي الذي تجمد منذ أكثر من خمسة عشر عاماً، بعد أن رفعوا شكواهم الى كل الجهات المسؤولة ولكن معاناتهم استعصت عن الحل بين الوزارات الثلاث (المالية، والخدمة المدنية، والتربية والتعليم)، وبقيت وظائفهم ورواتبهم كما هي دون تغيير.

ـ في يونيو الماضي سرت أنباء واسعة عن اعتزام عدد من خريجي التخصصات الصحية تنظيم تجمع أمام وزارة الصحة للمطالبة بتعيينهم ، بعد مضي فترة طويلة على تخرجهم .وكان ملف تعيين الخريجين احد الملفات الساخنة التي تسلمها وزير الصحة الجديد الدكتور عبدالله الربيعة من سلفه الدكتور حمد المانع .

هذه بعض أجزاء من المعاناة التي يعيشها ملايين الناس في هذا البلد وبصورة يومية، وفي فم كل واحد منهم سؤال عن مصير الطفرة النفطية الثانية، التي سمعوا عنها ولم يروا آثارها في حياتهم.

والسؤال: هل كل للخلافات داخل العائلة المالكة دخالة مباشرة في تعطيل الإصلاح الإقتصادي؟

إذا كان الجواب بنعم، فذلك يطعن في كفاءة الملك نفسه، لأنه يبدو عاجزاً بصورة شبة كاملة عن القيام بمهام الحكم، بما يتطلب عزله، لأنه إذا كان غير قادر على تحقيق الحد الأدنى من متطلبات الرفاه الاقتصادي أو لنقل مستوى معيشي بمعدلات مقبولة، فذلك يعني أنه يفتقد للأهلية التي تضعه في مقام (ولاية الأمر)، وإذا كان الجواب بلا، فإن هناك ما يدعو للقول بأن ثمة تواطؤً بين الملك والجناح السديري على الفساد المالي والإداري، وهذا أيضاً يدحض أي مبرر عن دعوى التوجّه الإصلاحي لدى الملك عبد الله.

الصفحة السابقة