(الهيئة) والأمن: عينا وذراعا ملك المستقبل!

عبد الوهاب فقي

دفاع وزير الداخلية الأمير نايف عن عناصر (الهيئة) ليس جديداً، فقد تعهّد هذا الدور كلما تعرّض هذا الجهاز لانتقادات من قبل السكان أو الصحافة بسبب تجاوزاته لخصوصيات الأفراد، ولكن ماهو جديد نسبياً وليس مفاجئاً أن يربط بين جهازي (الهيئة) و(الأمن)، وقال قولته المشهورة (الهيئة مكمّل للأمن والأمن مكمل لها)، وأسبغ عليها مسحة ميتافيزيقية بقوله أن هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تأسست بأمر من الله. جاءت هذه التصريحات خلال تدشين الأمير نايف للخطة الاستراتيجية لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الرياض الشهر الماضي (يونيو) بحضور رئيس الهيئة الجديد الشيخ عبد العزيز الحمين.

في سياق ردّه على انتقادات الصحافة المحلية والسكّان، إنبرى الأمير نايف في منتصف يونيو الماضي لوضع حد لحملة الانتقادات ضد الجهاز الديني، وقال إن رجال الهيئة متساوون مع قوات الأمن. يأتي هذا الرد بعد أن واجهت (الهيئة) عاصفة من الانتقادات عقب حوادث ذهب ضحيتها عدد من المواطنين في السجون أو في حوادث المطاردة.

وطالب الأمير نايف وسائل الإعلام بتوخي الدقة، وعدم البحث في الأخطاء الصغيرة وتضخيمها، وطالب بأن لا يكتب عن (الهيئة) (إلا متخصص فيها مثلها مثل الطب والزراعة وكثير من أمور الحياة)، في تحذير غير مباشر الى الصحافة المحلية بعدم الخوض في شؤون (الهيئة) بالسلب، فضلاً عن السماح لنشر قصص المخالفات التي يقترفها عناصر الهيئة.

لم يكن مجرد دعم معنوي عن جهاز ديني، بل تكشف اللهجة الإيمانية المصعّدة عن شيء آخر، أي أنها تنطوي على نزعة دفاعية عن المشروعية الدينية للنظام. يقول الأمير نايف بأن (هذه الهيئة تأسست بأمر من الله سبحانه وتعالى.. فيجب علينا أن نهتم بما أمر الله..). إذن المسألة تتجاوز الاستراتيجية الوعظية لجهاز (الهيئة)، ولكن الصبغة الأيديولوجية تبطن حاجة ضامرة في اللاوعي السياسي لدى الأمير نايف. فالتواشج الحميمي بين المؤسستين الدينية والسياسية، يجعل أي حديث عن أحدهما ينسحب، حكماً، على الآخر.

وبالرغم من اللغة التطمينية التي اعتمدها الأمير نايف حيال مخالفات رجال (الهيئة)، وأن ثمة نظاماً للعقوبات يشملهم، ولكن حالات عديدة كشفت في أوقات سابقة بأن رجال الهيئة يتمتعون بما يشبه (الحصانة) من نوع ما. نشير هنا إلى أنه في يونيو الماضي برأت إحدى المحاكم الشرعية، التي يرأسها ويعمل بها أشخاص مقرّبون من (الهيئة) أو زملاء لهم في المؤسسة الدينية، ساحة اثنين من أعضاء الهيئة إتهما بالتسبب في وفاة أربعة من الشبان في حادث سيارة بعد مطاردتهم بشبهة وجودهم مع نساء لا تربطهن صلة بهم.

ورغم أنه من الناحية الشكلية، أن (الهيئة) تتبع الملك، ولكن في حقيقة الأمر أنها تخضع بصورة كبيرة تحت نفوذ وزارة الداخلية ممثلة في الأمير نايف، الذي يحتفظ بصلات وثيقة مع المؤسسة الدينية. نشير إلى أن التوترات التي شهدتها العلاقة بين التيار الديني السلفي ووزارة الداخلية في التسعينيات على خلفية أزمة الخليج الثانية وتصاعد وتيرة المطالب بإصلاحات سياسية جوهرية، قد تبدّلت الى ما يشبه تحالف عملاني منذ بداية الألفية الجديدة، حيث تم تشجيع (مشايخ الصحوة) إلى لعب دور فاعل لمواجهة الخطاب الجهادي الذي تبنّته القاعدة، ثم انخرطوا في عمليات إعادة تأهيل للعناصر المرتبطة بشبكة (القاعدة)، بما يؤدي إلى تعطيل مفاعيل عقيدة الخروج على الدولة.

وبقدر ما ساهمت نشاطات التيار الصحوي في تطويق آثار نشاطات (القاعدة) في الداخل، فإن كثافة التصريحات التمجيدية التي تصدر عن الأمير نايف للمؤسسة الدينية بكل تفريعاتها، فضلاً عن تأكيده المكرور على (سلفية الدولة)، تنبىء عن لا إمكانية منظورة في المستقبل القريب والمتوسط لتخفيف سطوة الخطاب الديني في مجال عمل الدولة.

يثبّت وزير الداخلية نفسه باعتباره، دون باقي الأمراء بمن فيهم الملك، راعياً للمؤسسة الدينية، ولجهاز (الهيئة) بوجه خاص. وفي تصريحه ما يلفت الى ذلك أيضاً بما نصه (بحكم قربي والتصاقي بعمل الهيئة ورجاله أجد الصواب أكثر من الخطأ ولم أجد خطأ إلا وصحح). وما يلفت أيضاً في حديثه عن التصحيح (هناك حوادث وقعت وتم معالجتها)، وفضّل (أن يقوم رجال الهيئة بأخذ رقم سيارة المخالف وإبلاغ الجهات المختصة بها خير من مطاردتها وحتى لا يتعرض رجال الهيئة للحوادث). فهنا يبدو التناقض واضحاً، حيث أن كلامه عن أن ليس هناك خطأ إلا وصحح، يكذّبه الكلام اللاحق حين طالب رجال الهيئة بالاكتفاء بتسجيل رقم سيارة المخالف، بالرغم من أن شكاوى المواطنين من مطاردات سيارات الهيئة قديمة ومازالت. الطريف أن الأمير نايف يجد نفسه رؤوفاً على رجال الهيئة المتسبّبين الرئيسيين في وقوع حوادث السير خلال عمليات المطاردة، بقوله (حتى لا يتعرّض رجال الهيئة للحوادث).

وإذا كان الأمير نايف قد حسم الجدل حول تبادل الأدوار بين الملك عبد الله والجناح السديري، فقبل نهاية الألفية الثانية بسنوات قليلة كان ينظر بعض المراقبين للملك عبد الله باعتباره نصيراً للعلماء، وأنه يشكّل معهم تحالفاً استراتيجياً لمواجهة تغوّل الانتقال الحداثوي بالدولة، ولكن وجدنا بأن الصورة تبدّلت بصورة دراماتيكية بعد حوادث الحادي عشر من سبتمبر العام 2001، حيث بدأ المشهد الجديد إنقلابياً، حيث أصبح خصوم الأمس حلفاء اليوم والعكس صحيح. بدا وكأن الملك عبد الله قد أفرغ ميوله التقليدية، وانتقل بحركة بهلوانية الى ميدان التحديث، فيما تحوّل الأمير نايف، كشخوص بارز في خارطة التموضعات الجديدة، الى صانع الغطاء الناري لحماية المؤسسة الدينية من الانتقادات التي تنطلق من خلف أو بإسم الملك عبد الله.

بطبيعة الحال، ليس الأمر على هذا النحو، فلم يكن الدين نفسه همّاً حقيقياً من هموم أي من الجناحين: عبد الله والسديريين، ولكن ثمة ما يتطلبه ترصين المشروعية الدينية والسياسية للدولة السعودية، فقد بات في حكم الثابت ألا يدع الأمراء أياً من القوى التقليدية أو الحديثة البقاء خارج نطاق (الرعاية)، أي بأن لا تعمل بصورة مستقلة عن سلطة ونفوذ الأمراء.

في ضوء ما سبق، يمكن رسم سياق التصريحات الدفاعية التي يطلقها الأمير نايف بين فترة وأخرى عن أي من أذرعة المؤسسة الدينية. ومن منطلق الحذر من اتساع دائرة النقد لتستوعب الطبقة السياسية، يتقمّص الأمير نايف دور الواعظ الذي يدرء الأخطار التي تتهدد (المجال المقدّس) من أتباع الأيديولوجيات غير الدينية، ولذلك يضع الانتقادات الموجّهة ضد الهيئة في سياق (تضخيم الأخطاء) و(تصيّد السلبيات) بما تبطنه من إتهامات مضادة.

حاول الأمير نايف في كلامه الدفاعي أن يعيد تركيب صورة (الهيئة) بنفي كل الشكاوى التي رفعها أو عبّر عنها مواطنون من أرجاء المملكة كافة حول تجاوزات الهيئة، بما فيها التجسس، والتعدّي على الخصوصيات، واستعمال القوة المفرطة ضد من يلقون القبض عليه بشبهة أو ظنّة. نفى الأمير ما تردد على ألسنة الناس بأن الهيئة ليست سوى جهاز قمعي، وقال (إن الهيئة كجهاز يعمل في النصح والإصلاح والإرشاد وهي تأخذ بالنص القرآني "ولا تجسسوا" فلا يمكن أن يتجسس رجال الهيئة..). فالأمير نايف يتقصّد تجاهل تقارير كثيرة رصدت حالات كان يتحول فيها رجال الهيئة إلى أشبه بـ (كوماندوس سلفي) وهم يقتحمون المساكن الخاصة، والعمارات، والمحال التجارية بحجة تلقي بلاغات من مصادر (موثوقة!) بأن ثمة مخالفات تستحق (التدخل السريع) من قبيل (الخلوة غير الشرعية)، أو (ممارسة الشعوذة)، أو (المغازلة)، أو سلوك غير قويم مخالف لقيم وتقاليد المجتمع (اصطحاب رجل لإمرأة) حتى وإن كانت زوجته، فما اجتمع رجل وإمرأة بصرف النظر عن الرابطة بينهما إلا وأصبح الشيطان ثالثهما، (والهيئة) رابعهما.

ولأنهم يتمتّعون بصلاحيات شبه مطلقة، فإن رجال (الهيئة) لا يكترثون بما يقال عنهم أو بما يقترفونه من مخالفات، وإن قول الأمير نايف بأن (أي خطأ يقع فإن هناك جهات قضائية تحقق فيه وتتعامل معه وفق النظام)، فإن الشواهد كثيرة على خروج رجال الهيئة في كل الشكاوى التي ترد للمحاكم بحكم البراءة في الأغلب الأعم، فيما ينال العقوبة القاسية من تقدّموا بتلك الشكاوى، ولم نسمع كما يزعم الأمير نايف أن عقوبات نفّذت في رجال يعملون في (الهيئة)، بل هناك قضايا رفعها بعض الضحايا (راجع أعداد سابقة) الى المحاكم، وكانت تدور حول جرائم قتل، ولكن تم استعمال كل وسائل الترغيب والترهيب من أجل إغلاق ملف القضية. وفي حالات أخرى، تم تهديد الضحايا بأنهم في حال إبلاغهم شكاوى عما تعرّضوا له في مراكز (الهيئة)، فإنهم سينالون عقوبات أشد قسوة.

ما لفت في تصريحات الأمير نايف توجيه النقد لصحيفة (الوطن) السعودية بقول (مما يؤسفنا أن ما ينشر في صحيفة الوطن سيء). وأضاف : (توجه جريدة الوطن سيء وينشرون أخباراً غير صحيحة ولا أعرف لماذا، وأرجو أن تغير الجريدة هذا التوجه أما أن تستكتب أصحاب الأهواء الذين يكتبون ضد العقيدة فهو أمر لا يليق بالجريدة ولا بأي مواطن ولا حتى بكاتب أو محرر).

لقد أحدثت تصريحات الأمير نايف ارتدادات مباشرة على الصحيفة، وانتشرت شائعات بأن ثمة قرارات قد صدرت بفصل رئيس تحرير (الوطن) جمال الخاشقجي، الذي سارع إلى كتابة تكذيب للخبر، وأعقبه تخصيص مقال كامل لمدح الأمير نايف، وتحويل كلماته اللاذعة إلى توجيهات يمكن أن ترسم نهجاً إعلامياً ثابتاً. وقال الخاشقجي في مقالة له في (الوطن) في 21 يونيو الماضي بعنوان (سمو النائب الثاني والوطن) دبّج فيه عبارات المدح المبالغ فيه للأمير نايف، وقال عن انتقاداته (تلقينا في "الوطن" ملاحظات سموه عن الصحيفة على محمل التوجيه المستدعي إعادة النظر ونقد الذات، كل فريق الصحيفة، محررين ومراسلين وكتاباً، خاصة أنه - حفظه الله - كان خلف "السياسة الإعلامية" الصادرة بقرار عن مجلس الوزراء، والتي يجب أن نستحضرها ونستلهمها، فهي توفر لنا مساحة حرة للعمل، مع تذكير بالثوابت، وبقدر ما كان تلقي عتب سموه مؤلماً..). ويختم مقالته بالقول (لعل سموه بلفتته هذه يريد أن يقول لنا إن هناك أشياء كثيرة جيدة تستطيعون بها أن تخدموا هذا الوطن، وهو ما سنفعل بإذن الله).

في المراسلات الخاصة بين المقرّبين من التيار الديني ما يشير الى ابتهاج كبير، كون الأمير نايف إنتصر لهم في الحرب الدائرة بين التيارين الديني والليبرالي، وقال أحدهم أن الأمير نايف لقّن درساً لأولئك الذي ينالون من رجال الحسبة. فيما فهم الذين وجّهوا انتقاداتهم الى رجال الهيئة بأن ذلك أشبه بتحذير مبطّن بأنهم ليسوا بمنأى من العقاب في حال استمرّوا في نقد ممارسات (الهيئة) ومخالفاتها. وقال أحدهم (لا يمكن لكلمة من الكلمات التي يتفوه بها، إلاّ وأن تكون ذات مدلول ومقصود بعينه، وهو أمر يعرفه كل من كان على صلة بسموه، أو متابع لحياته وسيرته)، في إشارة إلى أن الأمير نايف يطلق رسائل تحذير لوقف الانتقادات ضد الهيئة قبل أن ينزل عليهم غضب (الداخلية)، فصلاً أو سجناً أو تجميداً، وخصوصاً أولئك الذي لا سند لهم من أمير نافذ أو مسؤول بارز.

تحذيرات نايف لصحيفة (الوطن) باستكتاب جمال الخاشقجي لكتّاب يمارسون النقد ضد التيار الديني السلفي المتشدّد من خلال تقييم عمل (الهيئة) والدعوة غير المباشرة الى حلها، وضعت في سياق تجاوز الخطوط الحمراء، وقد يوضع في إطار (الخروج الجزئي) على الدولة، كون (الهيئة) كما يصفها الأمير نايف جزء من الدولة.

نقطة فاصلة في الحملة المضادة التي شنّها الأمير نايف على صحيفة (الوطن) وعلى كل من نال بكلمة ناقدة لنشاطات (الهيئة) عبّر عنها الصحافي محمد الأسمري الذي وجّه سؤالاً الى الأمير نايف: لماذا عدد مراكز الهيئة أكثر من مراكز الشرطة؟ فرد الأمير نايف: فرد الامير: هذا غير صحيح، فقال الأسمري: بلى، ثم عقّب آخر على ذلك وقال: بلى في الرياض. فما كان من الأمير نايف إلا أن قال: الله يزيدها. وكان أحدهم علّق على الاستراتيجية الجديدة لـ (هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) بالقول (كأننا لا رحنا ولا جينا)، في إشارة إلى أن الانتقادات الموجّهة لـ (الهيئة) وشكاوى المواطنين لم تحدث أدنى تغيير في قوة الهيئة ولا في توجّهاتها، بل زادتها الاستراتيجية الجديدة رسوخاً وسطوة.

الصفحة السابقة