ما تخفيه السياسه يظهره الإعلام

المعركة السياسية الصامتة بين طهران والرياض

عبدالحميد قدس

ما إن يبدأ المراقبون لمسار العلاقات بين طهران والرياض بالحديث عن بوادر انفراج حتى يخوض الطرفان جولة جديدة من التجاذب والصراع كما يعكسه الاعلام بين البلدين، وما تخفيه السياسة أشد خطورة..

في مايو 2008 كتب أحدهم عن تقارب هادىء بعيداً عن الأضواء بين طهران والرياض، وقال بأن الدفء عاد بينهما عبر التنسيق الأمني لمواجهة الارهاب والتعاون من أجل استقرار المنطقة، بناء جولة من المحادثات الثنائية والامنية بين ايران والسعودية..

يتحدث بعض المهتّمين بموضوع التقارب الايراني السعودي عن تفاهمات أمنية مبرمة بين البلدين بدأت في عهد الرئيس الاسبق هاشمي رفسنجاني وتعزّزت في عهد سلفه محمد خاتمي. ولكن تلك التفاهمات بقيت محكومة بطبيعة المواقف التي تتخذها العاصمتان من القضايا الاقليمية وخصوصاً (الأمن الخليجي، والصراع العربي الاسرائيلي، وملفات حيوية مثل لبنان وفلسطين والعراق).

حاولت طهران مراراً استيعاب جموح السياسة الخارجية السعودية منذ العام 2004 حيث بدأت تخوض الرياض معاركها المؤجلة نتيجة عوامل داخلية (دوامة العنف وحركة المطالب الاصلاحية) وخارجية (العزلة الدولية بعد حوادث الحادي عشر من سبتمبر)، ووجدت الرياض في طهران منافساً أساسياً لنفوذها في المنطقة، وقد عبّر سعود الفيصل عن امتعاض حكومته من سياسة واشنطن في العراق والتي سمحت بتقديمه مكافأة لإيران، في رد فعل على الصراع الاميركي الايراني في العراق.

لجأت السعودية الى سلاحها القديم، أي التجييش المذهبي، لصنع مناخ معادٍ للجمهورية الاسلامية الايرانية وبدأت تطرح مسألة التبشير المذهبي، الذي أخذ توصيفات وردت على لسان ثالوث معسكر المعتدلين (الملك عبد الله والملك عبد الله الثاني والرئيس حسني مبارك) من قبيل الهلال الشيعي، والقوس الشيعي بهدف الحد من تأثيرات الصحوة الشيعية، بحسب وصف الباحث الاميركي من أصل إيراني ولي نصر.

تدرك طهران خطورة السلاح المذهبي عليها، وخصوصاً حين تشهره الرياض التي لا تتوانى عن استعماله كلما شعرت بأن نفوذها وربما ومشروعيتها يتعرضان للتهديد، فكانت تلوذ بسياسة التهدئة والطمأنة، فيما تترك للقوى السياسية الحليفة معها للاضطلاع بأدوارها بعيداً عن الظهور السياسي الإيراني.

عبّرت الرياض بأقصى أشكال الاستياء من تبني القيادة الايرانية للقضايا العربية والاسلامية الكبرى مثل القضية الفلسطينية والمقاومة في كل من فلسطين ولبنان والعراق، فيما كانت الرياض تعمل على تذليل كل العقبات في طريق التقارب والتطبيع مع الكيان الاسرائيلي.

ما كان يسيء الرياض بدرجة أكبر أن هدوء طهران وصمتها في دعم المقاومة في فلسطين ولبنان يضعها كرأس لمشروع الممانعة فيما تصنّف الرياض في خانة المتخاذلين وصاحبة مشروع استسلامي على حساب المصالح والأهداف العليا للأمة. هذا التمايز لم يدفع طهران لخوض مواجهة مفتوحة وعلنية، خصوصاً وأنها تدرك تماماً ما يعنيه إشهار السعودية سلاح المذهبية في محيط سني يخضع تحت تأثيرات الامبراطورية الاعلامية المموّل من الرياض.

لأسباب عديدة، لم تترد طهران من قبول الدعوات بالمشاركة في الحوارات الدينية والمذهبية في سبيل تأكيد شراكتها في الهموم الإسلامية المشتركة وكيما تكون جزءً من المشهد الوحدوي في الأمة، ولم تكن الرياض خاسرة في هذا الصدد، خصوصاً وأنها بقيت تلعب طيلة السنوات الأربع الماضية في حقل الألغام، منذ اغتيال رفيق الحريري والتخطيط مع قوى دولية لاسقاط النظام في سورية، مروراً بموقفها المشين في العدوان الاسرائيلي على لبنان سنة 2006 وغزة في ديسمبر ـ يناير 2008 ـ 2009.

كانت تشعر الرياض على الدوام بأنها في موقع أقوى داخل المحيط العربي والإسلامي السني، مهما اقترفت من أخطاء فادحة كالتي وقعت في لبنان وغزة، ولو فعلتها إيران من موقعها الإسلامي الشيعي لواجهت عقاباً شاملاً شرساً من الحكومات والشعوب. الشعور بالأمان إزاء ردود الافعال الشعبية على اقترافات الرياض حيال قضايا الأمة المصيرية تؤمّنه أيضاً قدرتها المالية الفريدة في شراء الأصوات المعارضة لها في كل أرجاء العالمين العربي والاسلامي، والموقع الدولي المتميّز الذي تحظى به والمتّصل بدرجة وثيقة مع موقعها المالي، وثالثاً الغطاء الاعلامي الكثيف القادر على التخفيف من وطأة الاحتجاجات الشعبية بل قلب الحقائق المشينة الى انجازات سياسية، وقد لحظنا كيف أن موقفها المثير للإزدراء والسخط في العدوان الاسرائيلي على غزة طوي سريعاً في قمة الكويت حيث اشتغل الاعلام السعودي والعربي عموماً على الحديث عن مبادرة المصالحة التي قادها الملك عبد الله، رغم أن لا شيء تغير في موقف الرياض من العدوان على غزة حتى بعد توقّفه، فمازال الحصار مفروضاً على أهلها، ومازال التشريد والجوع والفقر وصور الدمار على حالها..

كل ذلك بالنسبة للرياض يصبح اعتيادياً، ويراد له أن يكون كذلك، ولكن ما هو غير عادي أن تدخل طهران على خط القضية الفلسطينية وتقدّم المساعدات للمقاومة في غزة والمعونات لأهلها، فذاك يضعها في موقع خصامي للرياض ولعواصم معسكر الاعتدال الاخرى بما فيها تل أبيب والمجتمع الدولي بقيادة الولايات المتحدة.

سعت طهران ألا تثير حفيظة الرياض ولا القاهرة فيما يرتبط بوقوفها الى جانب قوى الممانعة في المنطقة، وكانت ترسل الوفود وتفيد من فرص التقارب واللقاءات الثنائية وحتى المشتركة، وربما بالغ بعض الساسة الايرانيين من المحسوبين على التيار الاصلاحي في الاندفاع نحو تعزيز العلاقة مع الرياض كالمبادرة التي قام بها رئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام الشيخ هاشمي رفسنجاني في المشاركة في فعاليات مؤتمر الحوار الدولي للوحدة الاسلامية في مكة المكرمة في مايو 2008. في المقابل هناك أطراف داخل العائلة المالكة تعمل على خط المشاغبة بين الرياض وطهران. كان الامير نايف وزير الداخلية معارضاً للتقارب الذي حصل في منتصف التسعينيات بين الشيخ رفسنجاني والملك عبد الله، ثم تولى الامير سعود الفيصل دوراً رئيسياً في تخريب أي مبادرات تقاربية بين الحكومتين، وقد أطلق تصريحاً بعد حوادث 7 آيار/ مايو 2008 قال فيها بأن (العلاقات العربية الإيرانية ستتأثر سلبيا إذا دعمت إيران انقلابّ حزب الله).

السعودية بعد الاضطرابات التي أعقبت الانتخابات الايرانية بدت شرسة وسافرة في خصومتها للنظام الإيراني، وهناك من يتحدث عن دور تخريبي تقوم به لدعم جماعات انفصالية في الاهواز وبلوشستان، فيما أطلقت العنان لقناتها المثيرة للجدل (العربية) بأن تقود حملة اعلامية مفتوحة ضد طهران، ما يفتح باب الازمة على احتمالات تصعيد غير منظورة.

الصفحة السابقة