الدولة التجارية

لم يلتزم أبناء عبد العزيز وأحفاده بالنصيحة التي وجهت اليهم ذات مرة بأن ينأوا بأنفسهم عن التجارة وأن يكثفوا اهتمامهم في شؤون الحكم، على أساس أن التجارة تفسد الحكم..وحتى نهاية عهد الملك فيصل، لم تكن التجارة بصورتها الحالية جزءً جوهرياً من اهتمامات الأمراء الذين كانوا يعتمدون على المخصّصات المقطوعة من مداخيل النفط.

بعد موت الملك فيصل سنة 1975، تفجّرت شهية الأمراء بصورة منفلتة لناحية الإستحواذ على مقدّرات الدولة، وأصبحت الأخيرة تدار بعقلية التاجر وليس السياسي. فقد بات كل شيء قابلاً للإستثمار تجارياً. في مطلع الثمانينات بدأ الأهالي في مناطق مختلفة من المملكة يلحظون ظاهرة جديدة تمثلت في وجود مسوّرات تحيط بأراضٍ شاسعة كتب عليها لائحات تفيد بأنها تعود لملكية هذا الأمير أو هذه الأميرة من العائلة المالكة.. وشملت عمليات الاستحواذ أراض وبساتين مملوكة للأهالي.

ولأن الأمراء ينظرون الى الدولة باعتبارها ملكاً خاصاً فهم يتعاطون معها باعتبارها مشروعاً استثمارياً وفرصة تجارية..حسابات الربح والخسارة تكتسب طابعاً تجارياً وليس سياسياً.

في الثمانينات، وتحديداً بعد موت الملك خالد سنة 1982 أخذت المحاصصة السياسية بين الأمراء شكلاً تجارياً وعقارياً، فصار لكل جناح من العائلة المالكة حصة في الدولة مالية وعقارية، وصار الأمراء يتنافسون على اقتطاع الممتلكات العامة والأراضي المشاعة الى أملاك خاصة، ما تلبث أن تتحول الى مشاريع استثمارية.

حتى منتصف الثمانينات لم تكن الحجاز تعرف ظاهرة المصادرات العقارية، ولكن منذ بدأ مشروع توسعة الحرمين الشريفين، والذي مثّل أكبر فرصة تجارية للملك فهد وأبنائه وعدد من التجّار المرتبطين بالعائلة المالكة، بدأ التنافس الشرس بين الأمراء لجهة مصادرة الاراضي العامة في المناطق المحيطة بالحرمين الشريفين، بل تفجّرت شهية الأمراء الى حد استملاك الجبال والتلال وإرغام البلديات على (تخديمها)، أي تزويدها بالكهرباء وتمديدات المياه والصرف الصحي، وقاموا بإخراج الاهالي من بيوتهم بحجة التوسعة، والتي تتحوّل الى جزء من أملاك هذا الأمير وذاك.

وماجرى في الحجاز إنسحب على مناطق أخرى، وكان الأمراء يتصرفون فيها باعتبارها حقل امتياز، لا يجوز لأي من الأمراء الآخرين إختراق سيادتها الخاضعة بصورة كاملة للأمير الحاكم فيها، وإذا ما أراد أي من الأمراء الكبار النفوذ اليها للحصول على أراض وعقارات وبساتين فإن الأمير ـ الحاكم الإقليمي هو من يقوم بهذه المهمة عبر فرقه ومعاونيه المنتشرين في كل مدينة وقرية.

على مستوى الدولة نفسها، كل وزارة هي فرصة تجارية لمن يقوم عليها، فاقتراح المشاريع وإقرارها يقومان ليس على قاعدة الجدوى، بل على أساس مقدار العمولات التي يمكن الحصول عليها. وهناك مشاريع لم تتم على الارض وجرى نهب الموازنات المخصّصة لها.

الإنفجار غير المسبوق في شهية النهب للممتلكات العامة والذي أسّسه الملك فهد كان المسؤول عن العجز المتراكم في الموازنة العامة والذي استمر منذ العام 1984 وحتى العام 2004، وبلغ 720 مليار ريال. ورغم الآمال التي علقت على الطفرة النفطية الثانية في تحسين الظروف المعيشية للسكّان، وتطوير الخدمات العامة (التعليم والصحة) ومعالجة مشكلة البطالة والفقر، فإن ما يلحظه الناس ليس سوى استمرار الحال على ماهو عليه، فمازالت شكاوى الناس من أزمة القبول في الجامعات والبطالة والخدمات الصحية قائمة بل أخذت أشكالاً مأساوية حيث التجمهرات أمام مكاتب التسجيل في الجامعات ومكاتب العمل والعمال، والاحتجاج على الاوضاع المزرية في المستشفيات الحكومية.

وبدلاً من أن تخلق الحكومة علاجات جذرية لهذه المشكلات القديمة المتجدّدة، تعاملت معها بعقلية التاجر، فقام الأمراء بإرغام عدد من التجار بتمويل مشاريع بناء جامعات ومستشفيات وشركات خاصة تفرض على المواطنين رسوماً باهظة لحل أزمة القبول في الجامعات، وتقديم خدمات علاجية متميّزة ولكن بأسعار عالية، وتوظيف العاطلين عن العمل ولكن بطريقة الاستعباد. وهكذا تصبح مشكلات الدولة فرصاً استثمارية بالنسبة للأمراء، بحيث يعاد تمليك الدولة للعائلة المالكة، بحيث لا تعود الدولة شأناً عاماً، بل تصبح عقاراً خاصاً بكل مافي الكلمة من معنى..وفي نهاية المطاف، يفقد المواطنون أي حق في الحديث عن مصالح مشتركة ومجال عام يتقاسم فيها الحكّام والمحكومون الحقوق والواجبات، فليس هناك سوى حكّام تجار يملكون كل شيء في الدولة بما في ذلك البحار والخلجان، وليس السكان سوى عمال أو عبيد يعملون وفق نظام الأجرة، وإذا ما طالبوا بحق فإنما يجب أن يقتصر على قوانين العمل والعمال وليس وفق قوانين الوطن والمواطنة، شأنهم في ذلك شأن العمال الوافدين، وقد يأتي يوم يكون فيه حتى مجرد الجنسية غير ذات قيمة في حال أصبح المواطن مجرد زبون بلا اعتبارات أخرى.

فالدولة مزرعة أو حقل صيد، بحسب توصيفات الباحثين السياسيين، هي حقيقة واقعة في كل الأقطار الشرقية المستبدة، ولكن في السعودية حيث الأمراء يكتسحون كل ما هو قابل للتملك والإستثمار، تتحقق فكرة المؤسسة ذات الملكية المحدودة، فلا دولة ولا وطن يمكن الحديث عنهما في ظل استحواذ شامل ومحكم وبناء على صكوك صادرة من المحاكم الشرعية (النزيهة للغاية!!) لكل الأراضي، والحقول، والثروات الطبيعية وغير الطبيعية، وفي نهاية المطاف نقف أمام دولة يصدق عليها عنوان (الشركة السعودية المحدودة) تسيطر عليها العائلة المالكة.

الصفحة السابقة