هل السعودية كيان طبيعي؟

كي نفهم الدولة السعودية

محمد قستي

متى ما أصبحت الدولة تعبّر عن إرادة المجتمع وتطلعاته، فإنها بالقطع دولة طبيعية، ديمقراطية، شرعية، نزيهة، ومنتصرة، ومتى أصبح المجتمع معبّراً عن إرادة الدولة، فإن الأخيرة تصبح مجرد كيان فاسد، مستبد، لا شرعي، مهزوم، وفي الأخير هو كيان تجد فيه القيم الفاسدة مرتعاً مثل النفاق، الإزدواجية، الاحتيال، تعطيل القوانين، ترهّل الجهاز البيروقراطي، وفي نهاية المطاف يصبح كياناً عرضة للفناء.

في النظرة الى نشأة الكيانات السياسية وتطورها، والعوامل الضالعة في تكوينها، يمكن الزعم، بقدر كبير من الثقة، بأن السعودية ليست كياناً طبيعياً، أي لم ينبعث من إرادة عامة وتعاقد تام بين غالبية القاطنين داخل تخوم الكيان الجيوسياسي القائم..وهذا الزعم لابد أن يستوجب مطالعة دقيقة لمفاهيم محدّدة للفصل بين ما تعنيه الدولة الطبيعية ومتوالياتها والدولة الفاسدة ومتوالياتها. ولكن قبل ذلك، لابد من التمييز بين فهم ومفهوم الدولة، رغم الترابط الحميمي الموضوعي بينهما من جهة أن تحديد المفهوم الخاص بالدولة القائمة يساعد على فهمها، أي تشخيص سبل التعامل معها، وتحديد المواقف منها..

يستعرض المفكر المغربي عبد الله العروي خلاصة المناقشات بين فلاسفة التاريخ والسياسة والاثنولوجيا فيما يرتبط بنشأة الدولة. ويرسم بادىء الأمر خطوطاً عريضة لتلك المناقشات، ويفرّق بين شكلين للدولة: اذا كانت الدولة ظاهرة من ظواهر الاجتماع الطبيعي، بمعنى أنها تولّدت حسب قانون طبيعي، وبالتالي فإن حكمها مندرج تحت حكم المجتمع العام، في حال بقيت خاضعة لقانون تولدها وظهورها كانت طبيعية أي معقولة، فلا ينشأ تناقض بينها وبين المجتمع، مصدر تولّدها، فمتى يقع التناقض إذاً؟ يقع في حال واحدة، إذا كانت نشأة الدولة خارج الحاضنة الطبيعية، أي المجتمع، فهنا تتولد الدولة الإستبدادية الظالمة.

وفق هذا التمايز بين الشكلين، يضيء العروي على وظائف الدولتين: الدولة الطبيعية، التي تخدم المجتمع، بمعنى أنها تحقق عملية تنظيم التعاون، وتمهد طرق السعي، وتشجع الكسب وطلب العلم. وأن المطلوب منها هو الحفاظ على الأمن في الداخل والسلم في الخارج، أي ردع العنف اللامعقول. في المحصلة فإن الدولة الصالحة هي الشرعية الطبيعية، كونها متجانسة مع الفرد والمجتمع في كونٍ لا يعرف التناقض البتة.

في المقابل هناك الدولة الفاسدة، أي المناقضة للمجتمع، المبنية على العنف واستعباد الناس، حيث يصفها العروي بأنها (ليست سوى مؤامرة ضد الإنسانية). فهي دولة لاشرعية، ولا طبيعية، وفي المحصلة (تمثل الشر كله وتحتضن كل الفئات الشريرة للإنسانية). والسبب في ذلك، أن هذه الدولة تتعارض مع وجدان الفرد الذي يصبو الى فضيلة وتمثل اللاقيمة مقابل القيم المتجسدة في الأخلاق.

لا تغيّر الكسوة الأيدلوجية من حقيقة الدولة طبيعية كانت أم فاسدة، مالم تكن منبعثة من إرادة المجتمع وخادمة له، فلا تتقمص الدولة القيمة الإ اذا انغمست في المجتمع وخدمة اغراض الفرد العاقل، عندئد تصبح دولة أخلاقية، كما يصفها ارنست كاسيرر في كتابه (أسطورة الدولة). ولذلك يصح القول، كما يشرحه العروي، بأن الدولة تتحقق كواقع أخلاقي يجسد الروح بوعي تام، لابد من أن تتميز عن السلطة وعن الاعتقاد. وهذا التمييز يحدث بعد أن ينقسم الهيكل الديني على نفسه، والثاني، اعتراف الدولة بحرية الذات وتعمل على غمس الذات في المبدأ العام، أي تترك الفرد حراً يفعل ما يريد في الوقت الذي يطبق فيه تلقائياً القانون العام.

واذا ما تجاوزنا هنا مجمل المناقشات التي أنتجها وخاضها الفلاسفة وعلماء التاريخ والاثنولوجيا حول تكوّن الدول، حيث كانوا يقدّمون تصويرات وفق أوضاع الزمن الذي عاشوه، فإن الاتفاق انعقد لاحقاً وراهنا على أن الدولة الحديثة هي مجموع أدوات عقلنة المجتمع، كما كثّفها ماكس فيبر، رغم اختلاف المناهج التي تعاملت مع هذا التصوير.

في الانتقال من التجريدي الى التطبيقي، يظهر أن الدولة السعودية في أطوارها الثلاث، لم تولد بصورة طبيعية، أي نابعة من إرادة المجتمع الذي حكمته، فضلاً عن كونها مصمّمة لخدمة المجتمع الذي تحكمه. فقد نشأت الدولة السعودية على مبدأين رئيسيين:

عبدالله: وطنية أولادكم خفيفة

ـ التملّك وفق مزاعم تاريخية.

ـ التكفير المبيّت، في جوهره، دعوى الحق الالهي.

وشكّل كل من المبدأين مكوّنا عقيدة الفتح، حيث تتحوّل المناطق المحتّلة الى ملك سياسي وديني: حيث يفرض على أهلها الإقرار القهري بأن ما وقع تحت نير الاحتلال من أرض سوى استرداد لملك الآباء والأجداد، أي ملك لآل سعود، وأن احتلال مناطقهم بعد قتل رجالها، وسبي نسائها، ونهب ممتلكاتها، لم يكن سوى امتثال لدعوى دينية، أي أنها كانت كافرة، فأملت اعلان الجهاد لفتحها، وإخضاعها لحكم الدين (= الوهابية).

في مراسلات الملوك السعوديين من الامير محمد بن سعود، الأمير المؤسس للحكم السعودي في القرن الثامن عشر، وصولاً الى الملك عبد العزيز بن سعود، الملك المؤسس) في النصف الأول من القرن العشرين، وكذلك المدوّنين التاريخيين المقرّبين من آل سعود، وكذلك الرسائل الدينية التي تركها علماء الوهابية، يظهر بجلاء النصوص الصريحة على عقيدة الفتح بمكونيّها: التملّك والتكفير. في التصوير الوهابي، لم يكن احتلال الحجاز في الدولة السعودية الأولى وتالياً الدولة السعودية الثالثة سوى فتحاً، وأن أهلها لم يكونوا سوى كفار، وجب غزو ديارهم واعادتهم للإسلام. كانت أول خطبة ألقاها المحتل السعودي من على منبر المسجد الحرام بعد احتلال مكة أنه تلى على من حضر أركان الاسلام، وكأنه ينتحل صفة رسولية مبشّراً بالدعوة. في تلك المراسلات السياسية والمدوّنات التاريخية والرسائل الدينية تتردد دائماَ كلمة فتح، وأن الجيوش التي غزت الحجاز كانت توصف بأنها جيوش المسلمين أو جيش الفتح، في إشارة واضحة الى كفر أهل الحجاز.

لم يكن حال المناطق الأخرى مختلفاً، فقد كشفت رسائل الملك عبد العزيز الى وجهاء وأعيان المناطق الأخرى عن حقيقة خطيرة، حين طالبهم بالإقرار بصورة خطيّة بأن مناطقهم التي وقعت تحت سيطرة قواته كانت في الأصل ملكاً لآبائه وأجداده.

إننا إذاً أمام كيان غير طبيعي، من حيث الولادة والوظيفة، وإن تنافر هذا الكيان مع المجتمع يجعله محكوماً بمصير مأساوي، فلا يمكن أن يحافظ الكيان على تماسكه واستقرار وحدته فيما هو يسير على خلاف القوانين الطبيعية لنشأته.

صحيح أن الكيفية التي نشأت فيها الامارة النجدية متوائمة الى حد ما مع طبيعة المجتمع النجدي القبلي، بما يجعلها إمارة طبيعية في مركز نشأتها، أي نجد، ولكن بالتأكيد إن هذه الكيفية لا تنطبق على المناطق الأخرى التي خضعت بفعل القوة الغاشمة في الغرب والجنوب والشرق، والتي تعاقبت على حكمها أنظمة سياسية متوافقة مع طبيعة مجتمعاتها.

كل دولة مستبدّة لا تزيدها الدعاوى الدينية والتاريخية سوى المزيد من الاستبداد والقهر، بخلاف ما يظنه البعض ترويضاً للحاكم المستبد، ولذلك لا غرابة في لجوء الدول المستبدّة الى أيديولوجيات دينية من أجل تعزيز سلطانها. إن تطبيق الدولة للشريعة لم يكن بالضرورة امتثالاً لنزعة إيمانية عميقة، بل هو في الغالب نزوع نحو ترسيخ النظام والأمن، وفق معايير الدولة، أي أن الهدف من تطبيق الشريعة سياسي بامتياز، ما يجعلها دولة مستبدة بعنوان ديني، خصوصاً إذا ما اتّخذت تطبيق الشرع شعاراً تحكم به المجتمع، فتلجأ الى القوة الغاشمة لتحقيق ذلك فيما الهدف، في جوهره، لايعدو أن يكون تحقيق غايات دنيوية محض، ما يحيلها دولة سلطانية، وليست خلافة نبوة.

تنبّه آل سعود في مرحلة مبكرة الى المفعول السحري للعامل الديني في السياسة، ولطالما حذّر العلماء الوهابيون حلفاءهم من أمراء آل سعود من مغبة التهاون في الالتزام الديني.

في نصيحة للموبذان، وهو المرشد الديني عند الفرس، للملك بهران بن بهرام (أيها الملك، إن المُلك لن يتم عزه الا بالشريعة والقيام لله بطاعته والتصرف تحت أمره ونهيه ولا قوام للشريعة إلا بالملك). وقد تلقى علماء الدين في المجال الاسلامي هذه النصيحة وصاروا يسدونها الى الخلفاء في زمانهم، وكانوا يشدّدون على أن تطبيق الشرع توقير للملك ودوامه. فإبان الدولة السعودية الثانية، كتب الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ رسالة إلى الامير فيصل بن تركي جاء فيها (إعلم إن الله أنعم علينا وعليكم، وعلى كافة أهل نجد، بدين الإسلام، الذي رضيه لعباده ديناً، وعرَّفنا ذلك بأدلَّته وبراهينه، دون الكثير من هذه الأمة، الذين خفى عليهم ما خلقوا له، من توحيد ربهم، الذي بعث به رسله، وأنزل به كتبه). ويذّكره في رسالة أخرى بقوله (وأهل الإسلام ما صالوا على من عاداهم، إلا بسيف النبوة، وسلطانها، وخصوصاً دولتكم، فإنها ما قامت إلا بهذا الدين..). وقد ذكّر الشيخ الأمير بما يخفيه انهيار الدولة السعودية الاولى، حين حذّر بأن زوال ملك آبائه إنما كان بسبب تقصيرهم في أمور الدين، فجعلوا الدولة ملكاً دنيوياً بعد أن كانت أمراً دينياً. ولذلك، تواصى الملوك السعوديون باستتباب الأمر لهم بتطبيق صارم لأحكام الشريعة، لأن في ذلك مصلحة السلطان.

وهنا تقع الاشكالية الكبرى في ظل دولة الاستبداد الديني، الفاسدة حكماً، والظالمة، حيث تثار مسألة الحرية التي هي سنام العدل، الذي وضعه فقهاء السياسة الشرعية عنواناً للدولة الدينية. فالدولة السعودية بتمذهبها الوهابي تجعل الحرية ممارسة خاصة بفئة من المجتمع، أي الفئة المتحالفة مع الدولة، والحاضنة لها، فيما تصبح الحرية جريمة في المناطق الأخرى، ببساطة لأن الأيديولوجية المشرعنة للدولة تفرض هذا النوع من الحجر على الحريات العامة، حيث تصبح متناقضة مع وظيفة وأهداف دولة الاستبداد الديني. بل أكثر من ذلك، إن مجرد انتحال صفة دينية للدولة يمنحها حقاً مزعوماً باحتكار كل مصادر القوة والثروة، فيصبح النفط، والحرمان الشريفان، والأرض بكل معادنها وثرواتها، وكذلك الجيش وجهاز البيروقراطية ممتلكات خاصة يتصرف فيها الملك والأمراء كيفما شاؤوا، فإن أعطوا فإنما يهبون مما ملكوا، وإن حرموا فلا جرم عليهم، فإنهم يفعلوا في ملكهم ما يريدون.

وهنا بالتحديد منشأ القطيعة التامة بين الدولة والمجتمع، حيث لا تصبح الأولى نابعة من إرادة الثاني، ولا هي تخدمه، ولا تحقق غايات نبيلة، وإنما تصبح في صدام دائم معه، بفعل الطبقة الحاكمة التي تدير الدولة بخلاف رغبة وإرادة، وتطلعات المجتمع. ثم تتحوّل المسألة الى ما هو أخطر من ذلك، خصوصاً حين تشعر غالبية السكّان بالإغتراب في ظل الدولة التي يعيشونها، فلا يرون في الطبقة الحاكمة سوى قوة احتلال غاشمة، لا يتقاسمون معها ثقافة، ولا مصلحة، ولا غايات مشتركة، فلا يكترثون لما يصيبها، بل يتمنون زوالها، ولو كان ذلك على يد أعداء البشرية قاطبة، وقد لحظنا كيف قبل قسم كبير من العراقيين الاحتلال الاجنبي (الأميركي) كونه جاء لهم بالخلاص من حكم صدام حسين الذي أحال العراق جحيماً لا يطاق، ومقبرة جماعية لطلاّب الحرية والعدل.

وهذا يفتح أفق المناقشة حول الخلاف الذي اندلع بين الجيش العقائدي ممثلاً في الاخوان وقيادته السياسية ممثلة في ابن سعود، حين قرر إيقاف العمل بمبدأ الجهاد، الذي استعمله بإسراف في احتلال مناطق واسعة من شبه الجزيرة العربية. نظر قادة الاخوان الى قرار ابن سعود على أنه سلب للصفة الدينية التي انتحلها في الفترة ما بين احتلال الاحساء والقطيف سنة 1912 وحتى احتلال الحجاز 1924ـ 1926. نجد في رسائل جهيمان العتيبي، قائد انتفاضة الحرم في نوفمبر 1979، ما يلفت الى المؤاخذات نفسها على الحكم السعودي ومنها تعطيله فريضة الجهاد، ما يجعله مسلوب الصفة الدينية.

نشير هنا الى أن النعوت الدينية التي أسبغت على ابن سعود ارتبطت بدعوى تطبيق الشريعة ضد اعدائها، أي بإعلان الجهاد ضد المجتمعات المصنّفة بالكافرة، التي تعيش حالة الجاهلية الثانية. وهنا مناقشة بسيطة حول العلاقة بين الصفة الدينية للدولة ووظيفة الجهاد. في رده على هاملتون جب الذي توصّل الى أن الخلافة هو القيام بواجب الجهاد، يقول العروي بأن الخلافة هي التي تجعل من الغزو جهاداً، لا العكس، وهو ما لم يتنبّه اليه جيب، حسب قوله. وهذا الرأي ينطبق على الخلافة الدينية المبنية على شرعية تاريخية ورسالية كخلافة النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين من بعده، ولكن مع زوال الخلافة الدينية التاريخية ـ المثال، فإن المعادلة أصبحت عكسية، حيث يتم اللجوء الى القيم الدينية لتحقيق مشروعية دينية، أي الانغماس في المثال التاريخي الديني، وهذا ما تحقق في الجزيرة العربية، حيث تمسّك العلماء الوهابيون والأمراء السعوديون بخيار إحياء الخلافة النبوية عبر تحويل الغزو الى جهاد تحقيقاً لتطبيق الشريعة لناحية بعث خلافة النبوة، كما تشي المماثلة المتعمّدة التي يقيمها مدوّنو الوهابية بين التجربة الرسالية الاولى وتجربة مؤسس المذهب الوهابي.

لا ريب، أن ما أنجبته الغارات السعودية لم يكن خلافة وانما ملك دنيوي، ليس لأن إخفاقاً ذريعاً بدا واضحاً في الانحراف عن هدف الخلافة، أي تحقيق مقصدها، أي بناء مجتمع الفضائل، ولكن لأن الدنيوية تكتسي في ظل هذه الدولة رداءً دينياً، فيجعلها كياناً ناشزاً وفي الوقت نفسه محيّراً بالنسبة لأولئك الذين يدركون حقيقتها، ولكن لا يملكون القدرة على إماطة اللثام عن جوهرها أمام من يخضعون تحت تأثير أوهامها. وبالرغم من أن الكساء الديني للدولة السعودية لم يعد يميّزها عن غيرها من الدول السلطانية القائمة، فإنها تبقى متمسّكة بالدعوى الدينية كسلاح تحارب به خصومها في الداخل والخارج، فمازال الخطاب الديني بشحنه الطائفية قادراً على إحداث الانقسامات الخطيرة في المجال الاجتماعي العام.

سعت الطبقة الحاكمة استبدال نبرتها الدينية بأخرى وطنية، بعد أن فقدت كل ما يبرر احتفاظها بالهوية الدينية، ولكن عدم التزامها الديني لم يفقدها القدرة على توظيف الخلافات التاريخية والدينية في معاركها السياسية.

الدولة السعودية لم تحد عن نسق الكيانات السلطانية التي نشأت في طول التاريخ الاسلامي، وحين جدّدت هياكلها لم تبرح النموذج المشرقي بالمزاوجة المشوّهة بين التقليدية والتحديثية. بعبارات أخرى، حافظت على إحياء السيرة السلطانية الموروثة فكراً وسلوكاً، وفي الوقت نفسه أدخلت بعض التغييرات الشكلية كشروط حتمية لدوام واستمرار الكيان السلطاني، من قبيل التحديث الاداري والتعليمي، وتطوير وسائل الاتصال والمواصلات، ومكننة الصناعة وتطوير المنشآت الادارية. لم تحدث المزاوجة أدنى تغيير في العقل الدولتي الناظم لشؤون السلطنة، ولا في القيم الحاكمة على سلوك السلاطين، فكل شيء بقي في نطاق الملكية المطلقة واللامسوؤلة، فالجيش ليس أكثر من جهاز مصمّم لحماية العرش، وليس حماية الشعب والوطن، والثروة الوطنية ليست أكثر من سلة غلال من حقل مملوك للملك وعائلته، بل يجوز لهم أن يقتطعوا ما شاءوا من أملاك منقولة وغير ذلك خاصة بالناس في أي وقت، فالثروة والناس وكل ذرة في الدولة تحت تصرف الملك وعائلته.

ومن سوء الحال أن يصل مبدعو اللغة والآداب السلطانية الى تعريف للدولة بما يتناسب وسلوك سلاطينها المستبدين في الشرق، فتصبح الدولة هي (القهر والتصرف الحر في بيت المال). يعرّف عبد الرحمن الكواكبي في كتابه (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، دار النفائس، بيروت ط3، 2006، ص.37) الاستبداد بأنه (تصرف فرد أو جمع في حقوق قوم بالمشيئة وبلا خوف تبعة..)، ثم يقول (ص 38) بأن أشد مراتب الاستبداد (هي حكومة الفرد المطلق، الوارث للعرش، القائد للجيش، الحائز على سلطة دينية) ويعلّق (كلما قلّ وصف من هذه الأوصاف خفّ الاستبداد إلى أن ينتهي بالحاكم المنتخب المؤقت المسؤول فعلاً..)، ويقول أيضاً (ص 41): (المستبد يتحكم في شؤون الناس بإرادته لا بإرادتهم ويحكمهم بهواه لا بشريعتهم، ويعلم من نفسه أنه الغاصب المتعدي فيضع كعب رجله على أفواه الملايين من الناس يصدهم عن النطق بالحق والتعدي لمطالبته).

لم يكن تحديث الجهاز الدولتي في وعي الطبقة الحاكمة سوى مسعى لتعزيز السلطة، ولذلك يبدأ التحديث غالباً، كما في أغلب الدول السلطانية، بالمؤسسة العسكرية، حيث يتم تدريب الجيش على فنون القتال الحديثة، وشراء السلاح من مصانع العالم. ولا بد من الاشارة هنا الى أن التحديث لا يعني التخلي عن تركة التقاليد السلطانية القديمة، بل تثبيتها، أي ترسيخها وفق شروط ومتطلبات حديثة، تواكب التحديات التي تواجه السلطة. وهنا يبدو التنافر بين رؤيتين في التحديث، رؤية يعتنقها اهل الحكم ورؤية يأمل المجتمع تحقيقها، فبالنسبة للأخير تبدو العملية التحديثية، أو بالأحرى الإصلاح، على أنه سبيل للقضاء على الفساد، والتخلف، والانحطاط، والاستبداد السياسي، بينما في رؤية الطبقة الحاكمة يصبح الإصلاح آلية لمزيد من الإستحكام بحلّة جديدة. وما الحل؟ هنا ينفتح باب التدخل أمام الأجنبي كيما يعقد، بنيّة مبيّتة، التقارب بين الرؤيتين، أي تحقيق رغبات أهل السلطة في الحفاظ على سلطانهم، وتلبية بعض رغبات المطالبين بالإصلاح، ولكن دون الوصول الى نقطة التصادم بين رغبات كل منهما، أي بما لا يهدد السلطة الضامنة لمصالح الأجنبي.

نايف: الوطنية تعني الولاء لآل سعود!

التعليم، القوانين (القضاء)، المؤسسة العسكرية، الجهاز البيروقراطي كانت دائماً مجالات تطالها برامج الاصلاح والتحديث الدولتية، وتشكّل خطوط تماس بين الاتجاهين التقليدي والتحديثي/الاصلاحي، وهي في نهاية المطاف أدوات لطلاء وجه الدولة ليكسو نزوعها السلطاني.

إن النزوع المتعاظم والمستمر لدى الطبقة الحاكمة على ضرورة توفير وسائل القوة لبنية الدولة (جيش، جهاز أمني، مؤسسة دعائية ضخمة، قضاء صارم) لا يقدّم سوى دليل واحد: أن الدولة ضعيفة، مذعورة، مرتابة حيال مصيرها. يفصح عن ذلك بوضوح علاقاتها المتوتّرة مع جيرانها، ومع المدرجين في خانة الخصوم.

إن مجرد التلويح الدائم بإنزال أقصى العقوبات ضد كل من يصنّفون في معسكر الأعداء داخلياً أو خارجياً، والتهديد باستعمال العنف بذرائع مخاتلة من قبيل تشكيل خطر على الوحدة الوطنية، والتعامل مع جهات خارجية لا تكشف سوى عن حقيقة كون الطبقة الحاكمة واهنة، عنيفة، مستبدّة، وتستند على اعتبار الدولة امتيازاً خاصاً. كل ذلك يشي بحقيقة أكبر وهي أن الدولة في بلادنا، شأن بلدان يسودها الاستبداد والجور، تفتقر إلى ما أسماه العروي (أدلوجة دولوية). وتعني العقيدة الوجدانية، أو الوجه المعنوي للدولة، على أساس قسمة وجهي الدولة الحديثة: مادي قمعي، ووجه أدبي تأديبي بحسب غرامشي، ويشكّل الوجه المعنوي الأدبي الأدلوجة الدولوية، والذي يستوعبه المواطن ويترجمه بعد حين في ولاء، فيعطي بذلك ركيزة معنوية قوية للدولة. يقول العروي (لكي تتكون أدلوجة دولوية لا بد من وجود قدر معين من الاجماع العاطفي، الوجداني، الفكري بين المواطنين. وهذا الاجماع وليد التاريخ، وفي نفس الوقت، تعبير عن مصلحة حالية) (عبدالله العروي، مفهوم الدولة، مصدر سابق، ص 147).

إن تقمّص الدولة لباساً دينياً أو إسباغ معنى علوي/ سماوي لا يغيّر من الصفة السلطانية للدولة، إذا ما توسّلت القمع نهجاً لسياسة الرعية، لأنها لا تنظر الى الايديولوجية التي تحكمها، بقدر ما تنظر الى النهج الذي تدير به الدولة شؤونها، وهو المسؤول عن صنع الاجماع وليس التبرير الديني الذي يخلقه الفقهاء المرتبطون بالقصر ويشيعون معانٍ مقدّسة حوله. فبالرغم من آلاف الفتاوى والارشادات الدينية التي تدعو الى طاعة ولي الأمر في بلادنا، إلا أن ذلك لم يسهم في تغيير إتجاهات النقد والاحتجاج على أهل الحكم، بل وتشجيع النزوعات الانفصالية بتعبيرات مختلفة، وبأشكال متعددة. فما أخفق فيه الفقهاء لناحية صنع إجماع شعبي حول الدولة لم يكن متعلقاً بالوصفة الدينية، بل في توظيفها السياسي لجهة تدعيم سياسة القمع. بكلمة أخرى، أن الوصفة الدينية لم تكن مصمّمة لدعم نظرية الدولة، أو (الأدلوجة الدولوية)، وإنما لتعزيز النزوع السلطاني في الدولة، أي إنتاج ديني للإستبداد السياسي. في مثل هذه الحال، فإن الدولة لا تقاس من حيث مشروعيتها وحتى قوتها وضعفها من خلال حيازتها إمكانيات هائلة على القمع، بل على قدرتها في التعبير عن إرادة المجتمع الذي تحكمه. ولهذا السبب بالتحديد، ندرك ما يجعل الدول السلطانية أقرب الى كونها سلطة منها إلى الدولة، لأن الاولى تعني الطبقة الحاكمة بينما تعني الثانية المجتمع.

لا يمكن اختبار ولاء واجماع المواطنين في الرخاء، لأننا نتحدث عن أوضاع غير محايدة، وغير ضاغطة، بل تلعب المصلحة دوراً أساسياً في تضليل إتجاهات الرأي العام، ولكن الاختبار الحقيقي للولاءات يجري في ظل تحديات عسيرة تحدق بالسلطة، وهنا يمكن للطبقة الحاكمة أن تتعرّف على خبايا المجتمع. في حقيقة الأمر، إنها تتعرف على نتائج سياساتها القمعية في لحظات تكون فيها بحاجة الى دعم المواطنين خصوصاً في زمن الحرب، والنزاعات الداخلية، والأخطار الاقليمية والدولية. تنبّه الملوك السعوديون في فترات سابقة الى ضعف ولاء المواطنين، ليس في المناطق التي تتعرض للقهر والقمع والتمييز فحسب، بل في مركز السلطة نفسها.

فالحقيقة الصادمة التي سمعها الملك عبد الله عن ضعف ولاء طلاّب المدارس في نجد، وهم الشريحة المؤهّلة دائماً لخضوعها تحت تأثير التعليم الرسمي بأهدافه السياسية والوطنية المباشرة، جاءت متأخرة وفي فترة كانت فيها العائلة المالكة الى عاطفة وطنية تعين على مواجهة الأخطار الأمنية (التي فرضتها الجماعات السلفية المسلّحة المرتبطة بالقاعدة)، والأخطار الخارجية بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 ثم تداعيات سقوط النظام العراقي السابق في إبريل 2003. وتوصّل الأمر نايف، وزيرالداخلية، إلى أن المثقفين ليسوا على درجة مقبولة من الولاء والمسؤولية الوطنية (وفق مقاييس العائلة المالكة)، لمواجهة الأخطار الأمنية والسياسية التي تواجه الدولة. وفي وقت سابق، إكتشفت العائلة المالكة في مناسبات عدّة (حرب الخليج الثانية، هجمات الحادي عشر من سبتمبر، العنف السلفي في الداخل..)، بأنها لا تحظى باجماع أو ولاء المواطنين، بل هناك من تمنى زوال السلطة. كتابات كثيرة نشرت في الفترة ما بين 2001 ـ 2003 تنبىء عن ضجر شديد لدى المواطنين من سياسات العائلة المالكة.

في تلك الفترة بالتحديد، وقفت الأخيرة على حقيقة أن هذا الكيان لا يستحق الولاء والاجماع، الأمر الذي دفع بالأمراء الكبار الى إغراق الفضاء الإعلامي بمسائل: الولاء للوطن، والوحدة الوطنية، والإجماع الوطني، ولم يكن ذلك مجرد صحوة متأخرة على حقائق مفزعة، بل أنبأ الواقع عن أن هذا الكيان لم يعد يملك مبررات وجوده وأن ما يبطنه من أخطار وجودية أنجب إحساساً متعاظماً بأن زوال الكيان لم يعد خطراً بعيداً، بل بات قريباً، وإن مسيرة التفكيك الهادئة التي يمرّ بها الكيان أخذت وتيرة متسارعة في بداية الألفية الثالثة.

الدولة السعودية ليست سوى كيان مهترىء يفتقر الى مقومات القوة الذاتية، وأهمها إجماع المواطنين وولائهم، ويعيش على مصادر قوة وهمية، تماماً كما يعكسها جهازه الدعائي، الذي يمثل في جوهره أحد الأدلة الرئيسية على وهنه البنيوي. ولهذا السبب، فإن التعويض عن ضعف الدولة، بسبب الافتقار للمشروعية الممثلة في المجتمع، يتم عبر تصعيد وتائر القمع، والاستعراضات المتكرّرة لوسائل القوة والهيمنة. فما يعيشه المجتمع ليس انسجاماً مع السلطة بل تنافر دائم، ما يجعل العلاقة بين المجتمع والسلطة فصامية وعقيمة بل مرشحة لأن تصل الى نقطة القطيعة التامة، ببساطة لأن المجتمع يبحث عن دولة حقيقية تمثّل إرادته وتطلعاته، فيما تمثّل السلطة مصالحها فتلوذ بوسائل القهر والاستغلال والجور.

ولكن هذه السيادة بوصفها حاصل مجموع مصادر السلطة في المجتمع، لا تصبح قانونية ما لم تكن نابعة من إرادة الشعب أو بالمعنى الدستوري الناخبين، الذين يؤلفون قاعدة التسلسل السياسي، بحيث تتجه السيادة من أدنى إلى أعلى بحسب الطريقة التي تشكلّت فيها السيادة. ولا تقوم السيادة، بحسب النهج السائد في الديمقراطيات الحديثة، على علاقة الأمر والطاعة حصرياً، ولكن تجعل السيادة مشروطة بنظام ديمقراطي، كونه يشتمل على توزيع للسلطة، وسلطة القانون.

وفق هذا التعريف، يمكن الدخول إلى موضوعة سيادة الدولة من بوابتها الثقافية والسياسية، من أجل الإلمام بأطراف مشكلة جوهرية مازلنا نشهد آثارها الخطيرة على الروابط الداخلية بين المجتمع والدولة، وخصوصاً مع تزايد حدة الإستقطاب السياسي الداخلي في عدد من الدول الشرق أوسطية.

وكبداية نقول، ينشق عن وعي الدولة مدخلان: وطن وسلطة، حيث يبدأ الإفتراق في تسوية أزمة الدولة من منظورين متنافرين. وهذا التنافر يعبّر عن أزمة تكوين الدولة المشرقية عموماً، التي شهدت تشويهاً خلقياً منذ نشأتها الأولى، حيث كان مشروع الدولة الوطنية ينبني على قاعدة سلطانية تستمد عناصرها من التراث الإستبدادي الشرقي.

يلزم التذكير بأن الأوضاع السياسية الإقليمية والدولية لم تتح فرصة كافية لشعوب الشرق لتنشئة ثقافة سياسية حديثة كفيلة بإنتاج وتطوير نموذج دولة وطنية ذات صفة تمثيلية وبطابع سواسي واضح، كما فشلت الأنظمة السياسية المشرقية التي خلفت عهد الإستعمار الغربي في إدارة عملية الإنتقال إلى الدولة الوطنية، بل على الضد فقد ساهمت في تكريس النموذج السلطاني الشرقي، حيث اقتفى أهل الحكم اللاحقين آثار السلف، الذين مارسوا تأثيراً أخّاذاً، فتحوّلت الدول المشرقية إلى مملوكيات.

ما سبق يفتح المناظرة المتصاعدة حول سيادة الدولة، التي جذبت قدراً مبالغاً من الإهتمام الإقليمي والدولي، في ضوء التجاذب السياسي الحاصل في عدد من الدول العربية، وخصوصاً لبنان وفلسطين. تجدر الإشارة هنا إلى أن مناظرة الدولة تستوعب المشرق العربي برمته، حيث مازالت مسألة الدولة خاضعة للفحص البحثي، وستبقى كذلك طالما بقيت حالة التنافر بين الدولة والمجتمع. فهناك من يشأ تشكيل دولة تكون شفيعاً لسلطة مركزية وبين من يريدها معيناً على استدراك وتصحيح الخطأ التاريخي، متمثلاً في إقامة سلطة مستبدة تكفّلت، عبر أدوات قاهرة، بإقامة الدولة والوطن، فجاء جنين الوطن حاملاً معه السمات الوراثية للسلطة التي أنشأته، وليس نابعاً عن إرادة المجتمع بكافة أطيافه، المسؤولة حكماً عن تخليق الوطن.

ما ذلك الوطن إن لم يكن المجتمع ذاته، وما ذلك التضامن الذي سيغدو المصدر الرئيسي لاستقرار واستمرار الدولة إن لم يكن قائماً على المشاركة الجماعية، والتمثيل المتكافىء في السلطة. وإذ لا يمكن لروح الوطن أن تجد ذاتها إلا حين تسري في ألياف الوعي المجتمعي، فإن الدولة كتمظهر أمة تصبح تجسيداً لإرادة جماعية وتمثيلاً مشتركاً. ثمة خطأ فادح في تصوير الدولة كأداة إلغاء بإسم تحقيق السيادة، إذ تصبح الأخيرة مجرد تغليف لنيّة إحتكار السلطة. فالسيادة تحقق ذاتها عبر بسط سلطة المجتمع الممثّل في دولة، وأن الأخيرة تصبح التعبير القانوني عنه، أي كونها ناظماً لسلطة المجتمع وليست مهيمناً عليه.

إن تضخّم رقعة هيمنة الدولة لا يمنحها مشروعية ولا يحقق لها سيادة، بل قد تصبح في حال انفكاكها عن المجتمع مجرد أداة سلطوية، سيما حين تختّل عملية التمثيل السياسي لفئات المجتمع كافة في الجهاز الإداري للدولة. لقد أريد للدولة أن تتخفف من أعبائها في ظل إمكانية إنتاج المجتمع لمؤسساته الأهلية القادرة على استيعاب جزء من مهمات الدولة، ولذلك نزعت الدولة الديمقراطية في العقود الأخيرة إلى تحرير قطاعات عديدة كانت تابعة لها ونقلها إلى المجتمع باعتبارها مصدر السلطة ومنشأها، فيما اكتفت الدولة برعاية الأمن والدفاع تحقيقاً للهيمنة بالمفهوم الغرامشي، وليس السيطرة بالمفهوم الهوبزي، تأسيساً على وعي متطور لمفهوم إدارة الدولة ومتوالياتها: السيادة، والسلطة، والارادة العمومية.

يعتقد صموئيل هنتغتون أن أهم فارق سياسي بين الدول لا صلة له بشكل الحكومة (ديمقراطية حزبية، قبلية، انقلابية عسكرية) وانما يتصل بشكل رئيسي بدرجة الحكومة. وهذا الفارق يمثل مفتاحاً لفهم التطابق المدهش في الأنظمة السياسية العربية على اختلاف أشكالها، والسبب في ذلك أن درجة الحكومة، أي درجة تغلغل السلطة السياسية في الشأن العام، تكاد تصل إلى حد التفشي بصورة تفقد الدولة الهدف الأساسي من أصل نشأتها والوظيفة الرئيسية التي قرّرت لها، بل تحيلها إلى سلطة مملوكية، تختزل كياني الدولة والوطن، وتجعلهما مجرد إطارين خاويين لجهة ترسيخ السلطة.

ثمة مقولة رائجة في بعض البلدان العربية مفادها: (لا تفكر فالحكومة تفكر عنك)، وهي كفيلة باختصار الفارق الكيبر الذي تحدث عنه هنتغتون في كتابه (النظام السياسي في مجتمعات متغيرة). فالتمدد اللامحدود للسلطة إلى حد إختراق مجال التفكير عند الأفراد يجعل من السلطة مجرد جثة ضخمة متحرّكة، فيما يصبح المواطنون مجرد نزلاء في أرض لا تربطهم بها سوى ما تكفيهم مؤونة الأكل والشرب، إن إرادت السلطة ذلك، والا تحوّلوا إلى جيش من المرتزقة والشحادين على أبواب القصر.

فالتورّم المتزايد في الجهاز البيروقراطي جعل من الدولة مجرد آلة ضخمة مترهلة، أو بناء يحتشد بداخله عدد هائل من الكسالى والمنتفعين. وما حدث، نتيجة ذلك، هو نشوء عدد متزايد من البيروقراطيين ضاعفوا من المطالب على الجهاز السياسي، بمعنى أن تضخّم الدولة ضاعف من مسئولياتها، كما ضاعف من ضغوط المواطنين عليها، وبالتالي فإن تزايد توقعات المواطن من الدولة العاجزة عن تلبية هذه التوقعات أسفر عن مستوى خطير من الصراع والذي بات في نفس الوقت على درجة من التعقيد بحيث أصبح من العسير جداً تسويته أو حتى إدارته.

في واقع الامر، أن النزعة الفئوية داخل الجهاز الإداري للدولة يوفِّر مبرر تحريرها من قائمة الإلتزامات الضرورية تجاه مواطنيها رغم اختراقها المشين للمجال العام. كما أن تحرير الدولة من التزاماتها يرهن كل ثرواتها وأمنها واستقرارها لمجموعة من المنتفعين وأصحاب المصالح الخاصة.

فالدولة، بما هي أداة لإجماع وطني، لن تحقق وظيفتها طالما أن سلطة الهيمنة فيها تكاد تكون لصالح جماعة معينة وقاهرة لجماعات أخرى، فهي بهذا السلوك الإحتكاري للسلطة تصبح طرفاً في النزاع بل قد تكون مولّداً له وأحد مصادره الرئيسية. وحال كهذه، يصعب الحديث فيها عن دولة طبيعية، وطنية، شرعية حيث أن سياسات الدولة لا تعبّر عن إرادة وطنية جامعة وتوحيدية، فقد تتجه إلى تفجير تناقضات السلطة ذاتها فتصبح الأخيرة عامل تقسيم وإجهاض لمبررات وجودها.

الصفحة السابقة