وطن من دخان

سعد الشريف

إذا كان من رمزية للهلوسة الوطنية التي تطلقها المواقع النجدية بكل ارتداءاتها الايديولوجية المقيتة فهو جبل الدخان الواقع على حدود ديارنا مع اليمن السعيد، والذي داهم ذاكرتنا الجماعية مؤخراً. من وحي الروايات العسكرية، فإن هذا الجبل يفقد خصائص الشموخ في اللحظات الأولى لاحتلاله من أي طرف، رغم أن قيمته الإستراتيجية تغري كل طرف قريب منه، سواء حكومات أو جماعات عسكرية، بأن يفرض سيطرته عليه، أو على الأٌقل تحييد تلك القيمة الميدانية الحيوية. ولكن رمزية وجوده (جبلاً) تجعل السيطرة عليه من جانب حكومة ديارنا مطلوباً من ناحية معنوية الى جانب الناحية الاستراتيجية المنظورة.

في ضوء تلك التلبيسات الحقيقية والمفتعلة، نقارب موضوعة الزوبعة الوطنية التي تنفجّر نجدياً دون مائز أيديولوجي سلفياً كان أم ليبرالياً، أو حتى إلحادياً، فالاصطفاف الوطني يتأسس على ذاكرة تاريخية مشتركة، ذاكرة المنجز ـ الدولة، التي قامت تحت ظلال السيوف. وكما هو الحال بالنسبة لجبل الدخان، فإن الوطن لا يصمد طويلاً، فهو لا يبزغ إلا فجأة، ولا يشعر به إلا النجدي، المنتصر. صحيح أن الوطنية تطلع ثقافي أكثر منه حقيقة، وكثير من الذين يكتبون في الوطن ومتوالياته، إنما يكتبون عن وطن متخيّل، ولكّنهم حين اشتداد البأس السياسي على الأكثرية، لا تسمع سوى صوت الوطنية النجدية، فلا تكترث الأكثرية لما يصيب السلطة من بلاء على مستوى الداخل أو الخارج، بل هناك من يضمر وأحياناً يعلن بأن كل سوء يحلّ بأهل الحكم حتى وإن أدى إلى تفكك الدولة إلى أجزاء هو من النعم المأمولة.

قلنا مراراً بأن كل تهديد مهما كان حجمه، يبعث على الفور هاجس التفكك وانفراط الوحدة الجيوسياسية القهرية للمملكة. للمرء تخيّل كيف يتحوّل جبل الدخان إلى محرّض على انبعاث هاجس تصدّع الوحدة..عسكرياً سقط جبل الدخان أكثر من مرة تحت سيطرة الحوثيين لمنع الجيش اليمني من استغلاله لقصف مناطق وتجمعات الجماعة الحوثية. السقوط المتكرر لجبل الدخان في أيدي الحوثيين يذكّرنا بكلام الملك عبد الله، حين كان ولياً للعهد، سنة 2005 مع أولياء أمور الطلاب، في نجد وليس في منطقة أخرى، بأن ولاءهم ضعيف.

لا يبعث الضلوع السعودي في حرب اليمنية أية مشاعر وطنية، باستثناء نجد و(المتشرّهين) من أقلام وأقزام إعلامية وثقافية، وإذا ما قرأنا مقالة في الوطن ومشتقاته، فإنها تعبّر بأمانة عن الروح النجدية، حتى لتكاد تختفي من فرط نشاطها التمايزات الايديولوجية والسياسية فيصبح الجميع في نجد، مع وجود استثناءات، صفّاً واحداً. لا يعيش غير النجدي قلقاً من النوع الذي يعبّر عنه النجدي في كتاباته، وسجالاته، وحتى مرافعاته الوطنوية، والسبب في ذلك، أن غير النجدي يرى الأمر بالنسبة له سيّان سواء كان وطناً أم سلطة أم أي شيء آخر، فلن يغيّر من الواقع، الذي يقول بأن الدولة محكومة بعائلة مالكة، يسيطر فيها النجدي على أكثر من ثلاثة أرباع الجهاز البيروقراطي، ويمارس فيها التمييز على قاعدة قبلية ومناطقية ومذهبية، وتحتكر فيها فئة صغيرة مصادرة الثروة والقوة، دون شفافية ومحاسبة.

ماذا يغيّر في جوهر هذا الكيان حين تغيّر في نكهته، تماماً نقول مالفائدة أن يكون جبل الدخان جبلاً حين يفقد أي قيمة استراتيجية فيصبح عرضة للسقوط السريع تحت سيطرة من يقتحمه، والأنكى حين ينظر إليه على كونه رمزاً لوحدة وطنية، وهو الذي لا يلبث أن يتخلى عن شموخه حفاظاً على هويته كجبل.

ومثل آل سعود، فإن أنصارهم في نجد قد أدمنوا ثقافة توظيف القيم العليا لتعضيد مصالح خاصة، فمتى شعر النجدي بتحديات داخلية أو خارجية لجأ الى حزمة القيم الكبرى.

فبالأمس كانت القيم الدينية صالحة للإستعمال الداخلي والخارجي لقمع الخصوم، واليوم أصبحت القيم الوطنية تزاول دوراً ردعياً أكثر منه دوراً تحفيزياً. في اللاوعي واللاشعور لدى النجدي، كما هو لآل سعود قبل ذلك، بأن ليس هناك مشاعر وطنية حقيقية، تماماً كما أنه ليس هناك دولة وطنية، الأمر الذي يجعل مجرّد (التلهيج) الوطني كافياً لتحقيق هدف ردعوي، خشية استغلال ظروف الخطر التي تعيشها الدولة من قبل الغالبية المتضرّرة من سياساتها وربما وجودها فتلجأ الى تخريب العناصر المسؤولة عن حرمانها وقهرها بما يجعلها ضعيفة ومكشوفة في أوقات الأزمة.

ماحصل منذ انكشاف الدولة السعودية بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر، أن هذه الدولة وإن تلطّت خلف عناوين علوية مثل الوطن، لم تعد قيمة مقدّسة في الإدارك العام، فقد سقطت من وجدان الجمهور العريض قبل أن تسقط من ثقافته، وما ظهورجماعات مسلّحة توجّه ضرباتها الى كل ما يرمز الى قوة النظام (وزارة الداخلية، المنشآت النفطية وغيرها)، سوى شكل تمرّد انقضاضي على الكيانية السعودية بكل ملحقاتها.

وشأن جبل الدخان الذي تعترف بوجوده ولا تثق به، فإن أسس الثقة في الدولة السعودية تهّدمت بصورة متسلسلة من قبل الغالبية العظمى من السكّان، فإن كل ما يصدر عنها أو يصيبها لا يعنيها بل لا يحرّك فيها حساً وطنياً من أي نوع، وقد تنظر اليها بأنها معركة الآخرين مع بعضهم.

مشكلة بعض النجديين الرومانسيين يعجبون أن تلك المشاعر الوطنوية التي يحملونها تبدو غائبة عن شبكة مشاعر الغالبية العظمى، ولم يكلّفوا أنفهسم عناء السؤال عن الجذور الحقيقية لانعدام مشاعر وطنية كالتي تغمرهم خصوصاً حين يتعرض الكيان لمخاطر وجودية داخلية كانت أم خارجية.

حين تصبح القيم العليا في ثقافة أية أمة أدوات ردع، إن لم يكن لائحة عقوبات، يتّم التحاكم وفقها يكون قد قرّر الذين يطالبون بتعميمها نهاية دراماتيكية للقيم، بل لكل ضوابط سامية يمكن أن تشكّل منطلقات لمواقف عديد الجماعات المنضوية تحت لواء الدولة. أقل ما ينجم من تداعيات أن توليداً فورياً إن لم يكن انبعاثاً لقيم فرعية تشيع بوتيرة متسارعة بين الجماعات المقهورة والمهمّشة. حين تقرر أي جماعة أن تعزل نفسها وحلفائها عن مجال تأثير الدولة، فلا تستعين بها على قضاء حاجاتها الخاصة، ولا تتحاكم إليها حين تتعرض لجور خاص أو عام، وتفعل ذلك كله بملء إرادتها على إسقاط الكيان في الوجدان الجماعي قبل سقوطه أو إسقاطه في الواقع.

ونتفق تماماً مع الرأي الذي يقول بأنه في حال فقدت الحقيقة الكبرى مورد الاجماع الشعبي قيمتها في الثقافة والوعي وشبكة المشاعر العامة فإن باقي الحقائق تصبح مجرد دالاّت على الفقدان الكبير أو قرب حصوله.

ألم يعد ظاهراً بجلاء غير مسبوق التجاهل المتشعّب أفقياً لنداءات تصدر من زوايا عدة وكلها تدور حول تحريض الإحساس الوطني لدى غالبية السكان، التي نزعت نفسها بعنف من مجال تأثير ذلك (الهيجان الوطني)، فليس هناك جمهور قادر على إتقان فن السير مع الكذبة حتى آخر المشوار، خصوصاً وأن الرسالة وصلت قبل إطلاق الكذبة.

فإذا كانت هناك جماعات مسلّحة تحاول أن تتكاثر شعبياً بهدف الانقضاض على الدولة من أدنى سواء عبر سلسلة مفتوحة من أشكال المواجهة السلمية والمسلّحة وصولاً إلى إطاحة الكيان، وهناك جماعات أخرى قررت أن تفصل نفسها بعد بلوغها مرحلة اليأس السياسي من أن تتحوّل وعود الملك عبد الله إلى القابلة التي تساعد على ولادة أفكار في الاصلاح والتغيير، وبالتالي تتحيّن كل فرصة مؤاتية لدفع الكيان نحو حتفه الأخير، وهناك جماعات صغيرة تمارس دوري السمسرة والمقايضة، فإن الوطن يعمل في غير أرض.

فبين من يسوّق مبادرات بين أطراف متنازعة ليقبض ثمنها، وبين من يبيع موقفاً مقابل ثمن مقطوع سلفاً وخلفاً..فنحن هناك لسنا أمام لحظات تاريخية حاسمة يبرز فيها المارد الوطني كمنقذ من الضياع والتفكك، بل شأن كل لحظات الضعف التي يمرّ بها الكيان ويكشف الناس عن جزء من مشاعرهم الحقيقية، أي إزاء وطن لم يشعروا به قط، فضلاً عن أن يجنوا ربحاً منه أو يستظلون به.

حرب الطغيان الرسمي على المدنيين في صعدة

ستصيب الدهشة المصحوبة بالأسف كل الذي يراهنون على المقاربة الحالمة من أن التحديث قادر على تحطيم قيود التقليد والمحافظة، واحتواء المجتمعات ضمن قيم جديدة لا تنتمي الى الأنظمة الاجتماعية التقليدية القبلية أو المناطقية أو حتى الدينية، فقد كشف التوحّد بين الأضداد الظاهرية في نجد، عن أن التحديث لم ينجح في الوصول الى مركز التوجيه المعنوي أو المساس بالروح المشتركة التي تخفق في صدور النجديين على اختلاف أطيافهم الأيديولوجية والسياسية.

لا يبعث على الغرابة بزوغ توصيفات من قبيل (وهابي علماني، ووهابي نجدي، وليبرالي نجدي)، فالأشكال الأيديولوجية البائسة تطوف حول مركز كوني واحد هو نجد، الإقليم الذي نشأت فيه المغانم وعلى أساسها تحقق الاجماع ـ الدولة.

لا يفتتن النجدي بكل الأيديولوجيات الحديثة، وقد تكون مجرد استجابات طفولية أو ساخرة لمتغيرات خارجية، فما يعنيه في البدء والخاتمة الحفاظ على المصالح المشتركة باعتبارها المعادل الحاسم لأقدس الأديان والأيديولوجيات على وجه الأرض.

وينسحب الحال على الهلوسة الوطنية التي تشتغل في زمن محدد، حين تشعر الجماعة الممتازة المتحالفة مع أهل الحكم بخطر الزوال، ولذلك لا يبدأ مفعول تلك الهلوسة إلا حين تدق أجراس الخطر بوجود تهديد جماعي. لا غرابة، والحال هذه، أن تتوحّد الألوان في نجد في أزمنة الخطر، حيث يصبح الجميع ضد الجميع، ولا درجات متعددة في اللون، فليس هناك سوى الأبيض والأسود.

وتفقد الأسماء الحديثة الليبرالية والوطنية والعلمانية والحداثة هوياتها، حين تندغم في الروح الإقليمية الضيّقة، وتصبح جزءً من مشهد الدخان المنبعث من وطن يصنع على ابتهالات أزمة الجماعة الخاصة طلباً لنجاتها من أخطار قريبة وبعيدة.

ندرك جميعاً بأن الولاء للدولة ارتبط بنظام الرعاية، ولذلك فإن عمليات تهشيم الدولة بدأت مع انهيار ذلك النظام الذي صاحبه ونجم عنه تراخي القبضة الأمنية، فقد تبدّل وجه الدولة كما هيبتها وصورتها، وإنفرطت عرى الأمن ولم تعد الذراع الأمنية، التي كانت الدولة تتوعد خصومها بها، طويلة بالقدر الذي يحول دون وقوع حوادث أمنية متواترة، وفقدت الأجهزة الأمنية سرعة الوصول إلى مسرح الإضطرابات فور وقوعها، كما جرى في سرقة البنوك المتكررة، فضلاً عن الحوادث شبه اليومية ذات الطابع العنفي المسلح في أرجاء البلاد، وآخرها كرنفالية المشاغبات الشبابية في اليوم الوطني الأخير الذي عبّرت فيه مجاميع من الشباب عن عصيانها على الدولة في عيدها الوطني.

ولأن الهيبة لم تتأسس بصورة صحيحة، كونها ارتبطت بتأثيرات اقتصادية وتحالفات استراتيجية خارجية، وخصوصاً في دولة غير مكتملة التكوين دولتياً ووطنياً، ولم تولد من وحي تظافر قناعات جماعية، ولم تكن تجسيداً سياسياً للأمة التي تقف وراءها، حينئذ تتقلص المسافة بين مولد الدولة وزوالها.

وصحّ القول بأنه لا يوجود معتدل ومتطرف في نجد حين تتعرض السلطة لخطر الزوال، حيث تكون المصلحة المشتركة محرّضاً فعالاً على الاصطفاف، وتشغيل كل طاقة المفاهيم الوطنية من أجل الدفاع عن خطر الزوال.

الاحتماء بتلك الكوكبة المفهومية صار بديلاً عن مصدر الحماية التقليدية، أي الدين، بعد أن أثخنته الوهابية بجروح بالغة بما جعله غير قادر على الاضطلاع بدور الحماية أو التمثيل.

وقيل بأن انبعاث المفاهيم الوطنية إشارة الى إحساس العائلة المالكة بأن وحدة الدولة تواجه الآن قبل أي وقت مضى مخاطر التفكك، الأمر الذي دفع بها الى التخلي عن الدين كعامل توحيد، فاضطرت أن تبقي على قدرته التعبوية ووهبت المفاهيم الوطنية سلطة توحيدية، ولكنها جاءت متهافتة، لأن الدين والوطن دخلا مجال التوحيد الاجتماعي والسياسي من البوابة النجدية وبالشروط النجدية أيضاً.

كل الحالات التي تمّ فيها تجريب المشاعر الوطنية لدى السكّان باءت بالفشل، لسبب بسيط: أن أصل موضوعها معدوم، وهو الوطن. ثمة ما يدعو للشفقة بالنسبة لأولئك الذين ينادون مع تصاعد المواجهات بين الجيش اليمني والجماعات الحوثية وانتقال ذيولها الى داخل الحدود الجنوبية من الديار. ليس هناك غير النجدي من يقول بأنه مع الوطن، مهما اختلف مع من يحكمه. ولابد أن نهمس في أذنه لنبلغه بأن الرسالة وصلت، ولكن الوطن ليس موجوداً ما لم يكن الغلاف الوهمي الذي يحيط بالدولة قد نال وصفة الوطنية، وفق مقتضيات المصلحة المتبادلة. ولماذا وحده النجدي الذي مهما كانت خلفيته الأيديولوجية والسياسية يتحدث بلغة السلطوي والمنتصر وصاحب الحق التاريخي. فهو يحارب من أجل ملك الآباء والأجداد، كما هو حال آل سعود، فقد شاركوا سوية في غزو المناطق، واحتلال الأراضي. يضحكني من يستبدل رايات الغزو بالأمس من طابعها الديني الى طابعها الوطني، رغم أن لا وطن حينئذ قائماً أو حتى في طور الولادة. وفقط الغزاة من يشعرون بأن منجز الآباء والأجداد أصبح عرضة للزوال كجبل الدخان، ولأنها دولة غزو في كل الأرجاء، فإن أول ما يتذكّره أبناء الآباء في نجد الحفاظ على إرث تاريخي مصبوغ بدماء..

هل حقاً كان الهدف بناء وطن، عاد الآباء والأجداد بوحدته، بعد أن أنجزوا ولادته، وهل حقاً حاربوا تحت راية وطنية، وقاتلوا من أجل غايات وطنية، وهل حقاً أيضاً عادوا فقط بالكرامة الوطنية، ولم يجمعوا الغنائم والمال والذهب والمواشي؟

سؤال الآباء والأجداد لأحفادهم يختلف تبعاً للحال الذي كانوا عليه، فإن كانوا ضحايا فإن سؤالهم يكون على هذا النحو: ماذا فعلتم للخلاص من إرث الجرائم التي اقترفها الغزاة المحليون؟ أما بالنسبة لمن أقاموا دولتهم على غزو الآخر، وقتله، وسلبه، ونهبه، فإن سؤال الآباء والأجداد سيكون هل مسحتم عاراً تاريخياً ندفع ثمنه في الدنيا والآخرة؟ وقد يتخيّل المنتصرون الأحياء بأن صيغة السؤال ستكون هل حافظتم على انتصارات السابقين؟

مهما تكن الاجابة، فإن الحاضر يكتب شهادة صادقة على ما كان وما يجري، ولدى الضحايا والمنتصرين أساليب جمة في التعبير عن مواقفهم. فالمشاعر الوطنية الطارئة لدى النجدي المنتصر، تبدو كجبل دخان حين يتنازل عن شموخه حفاظاً على موقعه.

فالأصداء الوطنية الغائبة في الجهات الأربع من الكيان تدلي بشهادة على تبدّد الوطن، ولا غضبة وطنية تسمع في أي من أرجاء الفضاء الواسع، فالذين خسروا حريتهم وحقوقهم بفعل نظام مهما ارتدى من سرابيل وطنية، فلن تحرّك عصباً وطنياً واحداً، لا يستحضر إلا حين تشعر الدولة القاهرة بتهديد في وجودها..

وكضحايا نأبى الظلم، ولا ننام على خديعة فاضحة، ولا نرضى سفك دم بريء، فهل الذي تتحرك فيهم دماء الثأر لمقتل جنود جبل الدخان وحواليه، على استعداد لفتح مسرب عاطفي يستوعب الدماء الأخرى التي سفكت على أيدي من يغضبون لوطن جرى تحديد مقاساته على جسد واحد، ليصبح الوطن إمتيازاً خاصاً بفئة، يستوجب على سواهم الدخول فيه مرغمين كارهين.

ولا ندري لماذا توضع المعارضة في مقابل الوطن، المعدوم وجوداً، في مسعى فاضح لتشويه وجه المعارضة التي تناضل من أجل بناء وطن، وليس سلطة تساهلت حد الإستهتار بحقوق المواطن، الذي يبحث عن هوية، ووطن يحميه ويكفل حقوقه. لقد بات البعض يؤكّد على حقوق الوطن، الكائن الغائب، فيما تجاهل عن عمد حقوق المواطن، الكائن الحاضر بكثافة في الثقافة الشعبية.

ولماذا حين تواجه السلطة أخطاراً من صنع يدها يضع البعض قائمة الأسئلة العصيّة على الرفض من قبيل ترتيب الاولويات والمكاسب، فهل كانت المعادلة تلك حاضرة لدى السلطة في حال الرخاء والسلامة، أم أن الشدّة تستحضر الوطن فيما يغيّبه الرخاء، فلا تعرف السلطة عزّة، ورخاء، وحقوق الوطن إلا من زاوية الخطر الذي تعيشه.

إن التململ الذي يعيشه جبل الدخان يجسّد حال الناس في هذا البلد.. وأن سحابة الدخان التي تنبعث من مصافي النفط تمثّل جواب السلطة على مطالب الناس بالإصلاح والحقوق، وتعكس حالة الرفض العنيد الذي تتمسك به السلطة وتترجمه دخاناً يجلب أمراضاً شتى فيما يحصد أهل الحكم أموالاً طائلة، وكل ذلك بإسم الوطن الذي يخرج من بين سحب الدخان المنبعث من آبار النفط، وجبل الدخان في الجنوب، وللشعب أن يمدّ بصره عبر غمامة الدخان ليسأل عن مصيره قبل مصير جبل الدخان، بل ومئات الأمتار من الأرض سواء سقطت أم لم تسقط في أيدي خصوم السلطة وحلفائها. لا يسأل الناس عن بطولات الجيش، وأداء حرس الحدود، ولا استراتيجية قوات الطوارىء، ببساطة لأنها أجهزة لم تصمم على قاعدة وطنية، بل هي تجهيزات أعدّت منذ البداية لحماية السلطة وليس الشعب أو الأرض أو الوطن..

وكما هو موقف الغالبية من حروب السلطة مع دول مجاورة في السابق، فإن حرب الحكومة السعودية ضد الحوثيين في شمال اليمن ستكون بلا غطاء شعبي باستثناء الغطاء الذي يوفّره حلفاؤها في نجد، ولأنها حرب غير وطنية ولا صلة لها بكل ما هو وطني، هي حرب سيادة السلطة وليس الوطن، فالدخان المنبعث من حريق الحروب يرمز الى تبدّد عواطف الناس حيال سلطة تريد أن تستدرج اصطفافاً شعبياً في وقت كسدت فيها بضاعة وطنياتها كما كسد خطابها الديني، فليس من محرّض عاطفي ولا وجداني اليوم لدى الناس على دعمها في حرب يدرك الجميع بأنها دفاع عن مصالح ذاتية، فلتذهب وطنويات آل سعود مع دخان الحروب.

الصفحة السابقة