مصير الحديقة الخلفية

خلاف واشنطن والرياض على اليمن

ناصر عنقاوي

بادىء ذي بدء، لا يمكن للقوات السعودية أن تعلن التدخل العسكري المباشر في اليمن دون علم الأميركيين، إن لم يكن موافقتهم، فذاك أمر لا يمكن للرياض أن تقدم عليه بصورة منفردة وعلى تعارض مع مقتضيات الإتفاقية الاستراتيجية مع الولايات المتحدة. وثانياً، أن استعمال الإسلحة الأميركية من قبل السعودية في هذه الحرب يستوجب من الرياض الاستعانة، فنيّاً على أقل تقدير، بالخبرات الأميركية، وخصوصاً مع احتمال تعرّض الآليات العسكرية من طائرات ودبابات ومدافع ورشاشات وأجهزة تشويش وتنصّت واستطلاع للعطب في أي مرحلة. علاوة على ذلك، فإن الرياض لا يمكنها أن تشنّ حرباً دون حساب ارتداداتها، وقد تكون إحداها وأخطرها انكسارها في الحرب، ما يتطلب معالجة دقيقة وعميقة لبناها التسليحية والقتالية والمعنوية، بالنظر الى التحديات التي تنظر إليها السعودية في المحيط الإقليمي في حال خسارتها الحرب، ووجود قوى متأهّبة لمرحلة يكون فيها آل سعود ضعفاء ومكتوفي الأيدي.

فيما يبدو من معلومات متاحة، أن واشنطن أبلغت حليفتها الرياض بأنها ستلتزم، سياسياً وإعلامياً، الحياد في هذه الحرب، ببساطة لاختلاف الأولويات في هذه المرحلة بين الجانبين، ولربما أقنع القادة العسكريون السعوديون نظراءهم الأميركيين بأنهم سيتدبّرون أمر هذه الحرب، وينجزون مهمتهم على وجه السرعة، وتحقيق أهداف التدخل العسكري في اليمن دونما حاجة الى بناء تحالف دولي.

بالنسبة للأميركيين، لا يشكّل الحوثيون مصدر تهديد لهم، ولم تسجّل التقارير الاستخبارية والعسكرية الأميركية حادثة واحدة تنبىء بتورّط المقاتلين الحوثيين في قتل أو اختطاف أميركيين فضلاً عن أجانب، ما يجعل موقفهم من الحرب محفوفاً بالحذر الشديد، وقد يعتبرونها حرباً سعودية خالصة.

صحيح أن الإدارة الأميركية لم تعارض صراحة التدخّل العسكري السعودي في الحرب الدائرة في اليمن، وصحيح أن مبرّرات هذا التدخل لم تكن مقنعة بالنسبة لواشنطن، ولكن تصريحات المسؤولين الأميركيين حملت دلالات واضحة تفيد بأنهم لا يميلون إلى الخيار العسكري في التعامل مع المشكلة اليمنية، ذات الطابع المحلي بدرجة أساسية. كان الموقف الأميركي واضحاً منذ الأيام الأولى للتدّخل العسكري السعودي في اليمن، فقد أعلن المتحدّث بإسم الخارجية الأميركية إيان كيلي في 5 نوفمبر الماضي بأنه لا يمكن أن يكون هناك حل عسكري على المدى الطويل في النزاع بين الحكومة اليمنية والمتمرّدين. ودعا في حديث للصحفيين عقب قصف الطيران الحربي السعودي لمواقع المسلحين الحوثيين شمال اليمن باستخدام طائرات ف-15 وتورنيدو، بعد مقتل ضابط من حرس الحدود السعودي على أيدي الحوثيين، دعا (كل الأطراف إلى بذل كل الجهود الممكنة لحماية السكان المدنيين والحد من الاضرار التي تلحق بالبنى التحتية المدنية). ثم علّق كيلي في وقت لاحق على قصف الطائرات الحربية السعودية للأماكن المدنية بقوله (أعربت الخارجية الأميركية عن قلقها حيال توسّع أعمال العنف إلى الحدود اليمنية السعودية ودعت كافة الأطراف إلى حماية أرواح المدنيين). وأضاف (اننا قلقون حيال توسع النزاع على طول الحدود بين المملكة العربية السعودية واليمن).

حاول الرئيس اليمني علي عبد الله صالح استدراج الولايات المتحدة إلى الحرب ضد الحوثيين، عبر رافع راية (الحرب على الإرهاب)، والزعم بمشاركة مقاتلي القاعدة إلى جانب الحوثيين، ولكن المحاولة فشلت على الفور، إثر صدور بيانين عن القاعدة في اليمن وقائد الحوثيين السيد عبد الملك، حيث اعتبرت القاعدة بأن الشيعة بمن فيهم الزيدية أشد خطراً من اليهود والنصارى، فيما كشف الزعيم الحوثي عن التباين الأيديولوجي والسياسي بين حركته وتنظيم القاعدة. تلزم الإشارة الى نجاح الحوثيين في كشف الأوراق التي كانت بيد الرئيس علي صالح، من بينها إتهام الأخير بضلوع ليبيا وايران في دعم الحوثيين، بهدف جلب الدعم الأميركي والدولي، ومن بينها أيضاً اختطاف الأجانب من قبل الحوثيين، حيث بات واضحاً بالنسبة لأجهزة الاستخبارات الغربية بأن الرئيس صالح هو مهندس الإختطافات، الأمر الذي دفع بالحكومات الغربية الى التعامل بحذر بالغ عما يصدّر عن الجهات الرسمية في صنعاء.

كانت واشنطن، المعنيّة بتسجيل موقف في هذه الحرب، قد سبقت حلفائها في الغرب حين نبّهت الى خطورة قمع الإعلاميين على شرعية النظام اليمني، ثم جاءت تصريحات السفير الأميركي في صنعاء لتضع النقاط على حروف العلاقة الأميركية اليمنية. وكان السفير الأميركي في صنعاء ستيفن سيتش قد أكّد في 16 نوفمبر الماضي بأن الوضع الحالي في اليمن (لن يستمر للأبد)، واستنكر عدم تمكّن الصحافة المحلية والدولية من التواجد في صعدة وتقييم الوضع والممارسات هناك مما أدى الى عجز المواطنين عن اتخاذ القرارات نتيجة لاختفاء وفقدان المعلومات الضرورية لاتخاذ القرار. وشكّك السفير في شرعية النظام اليمني بسبب قمع الحريات الإعلامية والديمقراطية. نشير هنا أيضاً إلى تصريح السفير الأميركي السابق في صنعاء توماس جارديسكسي في أكتوبر 2005، حيث وصف الديمقراطية في اليمن بـ (التوقّف)، ما أثار انزعاج الحكومة اليمنية، واعتبرت تصريحه تدخّلاً في الشأن الداخلي اليمني، وقال وزير الخارجية اليمني أبو بكر القربي حينذاك بأن الديمقراطية هي مسألة يمنية.

أثار كلام السفير سيتش بأن (الوضع في اليمن لن يستمر للأبد) إرباكاً داخل القيادة السياسية اليمنية، التي فهمته على أنه إشارة إلى احتمالية تحوّل الموقف الأميركي الداعم للرئيس علي عبد الله صالح، في سياق إشارات أخرى داعمة لمثل هذا التحليل، كونه يأتي بعد أيام من صدور نفي أميركي عبر سفارة واشنطن في صنعاء ووزارة الدفاع الأميركية توقيع أي اتفاق عسكري مع صنعاء، في رد على زعم صنعاء بأنها وقّعت مع الحكومة الأميركية إتفاقاً عسكرياً.

ثمة من نظر الى تلك التصريحات الأميركية المتعاقبة والصريحة الى أن الإدارة الأميركية باتت على قناعة بأن النظام اليمني يسعى إلى استدراج دول المنطقة والقوى الدولية المتواجدة فيها الى حرب مفتوحة، الأمر الذي تطلّب موقفاً واضحاً من الادارة الأميركية بتوجيه انتقادات للسياسة اليمنية.

فيما يتصّل بالتعاون الأميركي ـ اليمني، كان السفير سيتش واضحاً بأن لا وجود لإتفاق عسكري، وإن التعاون محصورٌ في موضوعين: محاربة القاعدة، والقراصنة في بحر العرب، ولم يأت على ذكر الحوثيين أو غيرهم من قوى المعارضة اليمنية. وينطوي هذا التوضيح على نقاط هامة منها أن واشنطن ليست داعمة للرئيس علي عبد الله صالح في حربه ضد محافظة صعدة والحوثيين، ولذلك طالبت الخارجية الأميركية على لسان سفيرها في صنعاء بوقف إطلاق النار واعتماد الحوار خياراً لحل المشاكل اليمنية. وبالضرورة، فإن الموقف الأميركي ينسحب على التدخّل العسكري السعودي في اليمن، كونه يأتي في سياق دعم النظام اليمني بدرجة أساسية وليس منع وحماية الحدود الجنوبية من المتسللين الحوثيين، حيث ثبت عدم صحّة ادّعاءات الحكومتين اليمنية والسعودية، وما احتجاز المئات من اليمنيين لدى القوات السعودية سوى محاولة بائسة، كون هؤلاء الأسرى من المدنيين يعبرون الحدود بصورة دائمة لأهداف تجارية محضة.

في الشأن السياسي، ثمة تباين واضح بين الرياض وواشنطن في مقاربة المشكلة اليمنية. فرغم قناعة الجانبين بأن نظام علي عبد الله صالح فقد شرعيته الشعبية ولم يعد قادراً على إدارة اليمن بالطريقة الحالية، ولابد من إحداث تغيير بنيوي في النظام السياسي اليمني للحيلولة دون اندلاع فوضى عارمة يصعب السيطرة عليها في وقت ما، فإن لدى كل من واشنطن والرياض مقاربته للمشكلة وللحل أيضاً.

من وجهة نظر السعودية، يجب أن يبقى اليمن خاضعاً بصورة دائمة تحت النفوذ السعودي، على أساس أن ذلك من أساسيات الاستقرار السياسي والأمني داخل حدودها، الجنوبية على الأقل، ومنعاً لتسرّب جماعات قاعدية، وهنا نقطة توافق أميركي سعودي، ولكنها لا تشكّل أساساً رصيناً لحل تصنعه السعودية. في الوعي السياسي الأميركي، ثمة مخاوف من استنبات الرياض لنظام جديد تستعمله في المستقبل كأحد الأسلحة الإستراتيجية ضد خصومها، وأيضاً حلفائها. ولذلك عارضت واشنطن أن يكون البديل عن نظام علي عبد الله صالح: جهة واحدة، ودينية، وحليفة للسعودية. ترى واشنطن في كهذا نموذج مجرد إعادة انتاج للسلطة الشمولية في صنعاء، وتميل في مقابل ذلك الى نموذج آخر استيعابي، يجمع كل القوى الرئيسية، ويحقق تمثيلاً أفضل لكل الأطراف المهمّشة، ويكون النظام فيه مسؤولاً مسؤولية مباشرة عن حماية الوحدة والاستقرار، وهو في الوقت نفسه كفيل بتقويض بؤر التوتّر التي تجد فيها القاعدة مرتعاً خصباً لتجنيد الأنصار والمقاتلين.

استمرار التدخّل العسكري السعودي في اليمن، وتزايد أعداد الضحايا من المدنيين بفعل قصف الطائرات الحربية والصوارايخ السعودية المناطق المدنية في محافظة صعدة زادت من صعوبة التهكّنات بنهاية وشيكة وحاسمة للحرب، خصوصاً وأن القيادة العسكرية السعودية تواجه ضغوطات داخلية وخارجية. فخروج القوات السعودية من الحرب دون تحقيق أهداف واضحة، يعني بالمقاييس العسكرية هزيمة، ما يضرّ بمصداقية الجيش والدولة، وقد يشعل جذوة الأسئلة عن جدوى التسليح المجنون طيلة الثلاثة العقود الماضية والتي تجاوزت 100 مليار دولار. أما الارتدادات الخارجية الإقليمية والدولية، فإن انكسار الجيش السعودي يعني مأزقاً خطيراً، في أول تجربة حرب منفردة يخوضها الجيش السعودي دون وجود حلفاء.

وفيما يبدو، أن القيادة السياسية السعودية أدركت خطورة تداعيات إنسداد الأفق العسكري في حرب اليمن، فقررت الاستعانة بحلفائها من الدول العربية لتقديم الدعم العسكري في الحرب البريّة التي لم يزل الجيش السعودي متردّداً في خوضها خشية وقوع خسائر كبيرة في صفوف قواته. في 5 ديسمبر كتبت صحيفة (إمبارسيال) الأسبانية، أن كلا من المغرب والأردن قامتا بإرسال قوات لمساعدة السعوديين فى حربها ضد االحوثيين فى اليمن بناء على طلب سعودي عاجل. وذكرت الصحيفة بأن العاهل المغربى الملك محمد السادس، قام سراً بتقديم المعونة للأسرة السعودية، بإرسال مئات من المقاتلين، معظمهم من وحدات المظلات وكوماندوز مدربين تدريباً جيداً على غرار سبيتسناز، القادرة على مواجهة حرب العصابات على الحدود بين السعودية واليمن. وأضافت الصحيفة بأن الأردن أرسل 2000 عنصراً من القوات الخاصة الأردنية للمشاركة إلى جانب القوات السعودية.

وأوضحت الصحيفة بأن الجيش السعودي الأفضل تجهيزاً فى العالم العربى بالأسلحة الحديثة والتكنولوجيا بحاجة لمقاتلين متمرسين، ولذلك اضطرت الرياض لدعوة العرب للمساعدة فى قمع الحوثيين، بسبب نقص التدريب والعزيمة لدى الجنود السعوديين في مواجهة حرب العصابات.

يأتي هذا الدعم المغربي والأردني في غياب أي دور عسكري لدرع الجزيرة الذي تشكّل عقب إنشاء مجلس التعاون الخليجي في ديسمبر 1981، حيث تشهد علاقات السعودية توتّراً مع بعض دول الخليج مثل عمان وقطر والامارات العربية المتحدة، فيما ينظر المراقبون الى استعانة السعودية بقوات من المغرب والأردن على أنه إشارة بالغة بوجود صعوبات كبيرة تواجه الجيش السعودي في الحرب ما يدفعه لطلب المساعدة العاجلة.

ما يلفت في هذه التطوّرات أن العامل الأميركي مازال ثانوياً، بانتظار ما ستسفر عنه المعارك على الأرض، سيما وأن لا سبيل أمام القوات السعودية سوى الدخول الى الحرب البريّة إن أرادت تحقيق نصر عسكري. وفيما يزداد أفق الميدان انسداداً، مع طول أمد المواجهات الذي يشكّل عاملاً ضاغطاً على القيادة السعودية لناحية توظيف كل ما لديها من عتاد، وتحالفات، واستراتيجيات، وحتى تسويات، ولكن في نهاية المطاف أثبتت القوات العسكرية السعودية بأنها، كما القيادة السياسية، ليست قادرة على انتاج حلول حاسمة دون الاستعانة بصديق.

الصفحة السابقة