لماذا (لجنة تقصّي الحقائق)؟

مذكّرة للملك تفتح النار على العائلة المالكة

ناصر عنقاوي

تبدو دعوة (جمعية الحقوق المدنيّة والسياسية) الموجهة للملك عبدالله من أجل (تشكيل لجنة تقصّي حقائق) حول انتهاكات وزارة الداخلية السعودية، والتي حملتها مذكرة شاملة موجهة إليه.. مجرد موضوع وهدف صغير، إذا ما وضع في إطار التحليلات التفصيلية التي وردت في المذكرة الطويلة التي حوت عشرات الصفحات. ليست الدعوة الى تشكيل تلك اللجنة أهم ما ورد في المذكرة، بل إن هناك موضوعات عديدة تطرقت اليها بشجاعة قلّ نظيرها، وبتجرّد وصدق ووطنيّة تحسب لمعدّيها والموقعين عليها.. تعتبر أهم من تشكيل اللجنة بمراحل. ولأننا في مقالة الغلاف هذه لا نستطيع أن نأتي على كل الموضوعات التي تطرقت اليها المذكرة، فسنكتفي ببعضها.

تنجيد (نجدنة) الدولة وتوهيبها (وهبنتها)

أن يتحدث الشيعي في الشرقية، والصوفي والشافعي والمالكي في الغربية، والإسماعيلي في الجنوبية، والمهمّش مناطقياً في الإمارات الشمالية، عن تنجيد الدولة وتوهيبها، أي احتكار السلطة والدين لمنطقة ومذهب أقلّويين (نجد والوهابية) وقسر المواطنين على الخضوع لهما، فهذا أمرٌ معتاد، فقد كثرت التحليلات السياسية المعمّقة تجاه هذا الأمر، خاصة في السنوات التسع الماضية. لكن أن يقول بذلك نجديون، ومتّبعون (حسبما يقولون) لدعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، فهذا شأن آخر. لم يصدر من نجدي، ولا من المدرسة الوهابية من قال بهذا الأمر من قبل، فضلاً عن أن يدعو الى تعديله ويراه خطأ ويضرّ بالدولة.

معدّو عريضة أو مذكرة (لجنة تقصي الحقائق) قالوا في أول أسباب ضرورة تشكيل اللجنة، بأن هناك خللاً في بنية الدولة، وأن هناك خزاناً من التوتر يتراكم بين الناس، ناجم عن سحق الحكومة لحقوق المواطنين المدنية والسياسية، والأهم:

(عجز الدولة عن ترسيخ مفهوم المواطنة، لإمعانها في نجدنة الشعب ووهبنته... إن جميع أعضاء الجمعية من نجد، من المنطقة الوسطى، ومن أتباع دعوة الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب على الخصوص، والمذهب الحنبلي على العموم، ولكن هذه الانتماءات لم تحجب عنهم إخلال الحكومة بمفهوم المواطنة الذي أنتج اختلالات شتى، إذ لم تقو الحكومة روح المواطنة، بل مارست الحكومة تفضيل المنطقة الوسطى على الأقاليم الأخرى، فالناس في المناطق غير النجدية يشعرون أن الدولة سوّدت العنصر النجدي عليهم، وسوّدت العادات النجدية، فصارت العرضة النجدية، شعاراً لا بد أن ينسجم معه كل سعودي، واستأثر العنصر النجدي بالمناصب، في جميع المناطق. كما مارست الحكومة تفضيلا للمذهب الحنبلي على غيره من المذاهب، فاستأثر التيار الحنبلي بالمناصب الدينية والقضائية، فانصبغت الدولة بالصبغة المذهبية والإقليمية الضيقة، بديلا عن الصبغة الإسلامية الواسعة، وتعاملت الحكومة مع الفوارق الثقافية والاجتماعية والدينية والإقليمية، بروح الذي يريد أن يمحو الخصوصيات، فأسهم هذا في إضعاف قيم المواطنة، بين أقاليم ذات فواصل جغرافية، وعادات وأعراف راسخة، ليس من السهل القفز فوقها. وأخلت الدولة بمفهوم الدولة الحديثة: فلا برلمان، ولا قضاء مستقل، ولا تجمعات أهلية، ولا حقوق سياسية. لا أحزاب سياسية، لا جمعيات أهلية، لا تداول للسلطة.

إن هذا التوصيف صحيح ودقيق ويمثّل عمق الأزمة السياسية في السعودية، ولا يمكن أن يكون هناك من حلّ، بدون إدراك الحقائق أعلاه.

هجوم كاسح على أمراء العائلة المالكة

حوت العريضة الجديدة هجوماً كاسحاً على أمراء العائلة المالكة، وهي وإن استثنت بخجل البعض، دون ذكرهم، إلا أن الهجوم له طابع عام، لم يسبق لأحد قاله بشكل علني وفي مذكرة مفتوحة للجمهور، ما يدلّ على شجاعة معدّي وموقعي العريضة واستعدادهم لتحمّل ما ينجم عن ذلك. لقد قالوا للملك في المذكرة: (لقد كسرنا حاجز الخوف) وأنهم لا يخافون (من فظائع وزارة الداخلية) وقد صدقوا، خاصة وأن عدداً منهم قضوا سنوات عديدة بين المعتقلات؛ وقد عبّروا عن رأيهم بكامل الحرية، من أن الملكية الدستورية ضمانة بقاء لـ (العرش السعودي) الذي هو بدونها (ليس بمنأى عن الرياح والسيول، لأن ترك العنان للأحداث تجري في أعنّتها؛ يحدث ردود أفعال، دون أن يكون للدولة قدرة على تجنّب تبعاتها، أو التحكّم في إدارة دفتها).

وقد وصف الإصلاحيون البلاد بأنها مجرد مزرعة: (ما مثل بعض أفراد الأسرة الحاكمة في أمور الشعب إلا كمثل أيتام وكّلوا رجلا، ليستثمر مزرعتهم وينفق عليهم، فصار يختلس خمس ريعها لأولاده، وخمسه في نفقات وهمية، وخمسه في شراء أسواط يؤدب بها الأيتام، وخمسه للمحامين عن استبداده، وإفساده ذمم عمالها، ولا يعطى الأيتام إلا خمس الريع، مغموساً بالتسويف والذلّة والتحقير، وكأنه يتصدق به عليهم).

وقالوا في المذكرة ـ العريضة بأن مصداقية الأمراء ضعيفة وهم قد

(تقاسموا إدارة البلد، وكأن البلد شركة عائلية، وكلما ازداد وعي الناس بحقوقهم ازداد المتنفذون بطشا بهم: الشعب صار لا يثق بأقوال معوقي الإصلاح، لأنه جربهم، فهم يعدون بإصلاح التعليم فيزداد التعليم فسادا، ويعدون بإعطاء الفقراء أراضي مطار الرياض السابق، فإذا بهم يتقاسمونها بينهم، وينشئون لجنة لحقوق الإنسان فيلحقونها بوزارة الداخلية، والداخلية هي الجهة المتهمة بهتك حقوق الإنسان. ويقولون إنه لا تعذيب في السجون، ولا معاقبة على التهمة، وأقارب السجناء يجأرون ويصرخون، وحين يعتصمون أو يتظاهرون تنكل بهم الداخلية نكالا شديدا، وتنكل بذويهم في السجون، حتى يصبح الصمت والجنون سيد أخلاق السجون).

وأضافت المذكرة بأن الشعب يعاني في جميع المناطق، ولاسيما الأطراف، من اختلال ميزان العدالة، وأنه يئن تحت شدة وطأة الفقر والتمييز الطبقي والإقليمي والقبلي والظلم، كما يئن من (كثرة عدوان كبار الأمراء وحواشيهم، على أراضي الشعب، ونهب أمواله، إضافة إلى استئثارهم بالمناصب).

لم تكتف المذكرة بذلك، بل أضافت أنه (ومنذ تأسيس الدولة؛ وأمراء النهب والبطش يزدادون سرقة للمال العام، واستئثاراً بمناصب الدولة، واستهتاراً بالمصالح العامة، واستفراداً بالقرارات الكبرى، وبدأ تساؤل الناس يزداد بعد حرب الخليج: لماذا يزداد النفط سعراً، ونحن نزداد فقرا؟).

وحمّلت العريضة الأمراء مسؤولية كل هذا إضافة الى امتهان كرامة المواطن: (المواطن صار بلا كرامة، الأمير هو صاحب السمو الملكي؛ ينظر إلي المواطنين على أنهم: "رعية" و"خويا" و"حاشية"، فالمواطنون هم أصحاب الدنو إذن).

وتابعت: (أمراء الأسرة الحاكمة بين مؤيد للإصلاح ومتكالب على الاستئثار بالسلطة والثروة) و(إن هناك حاجة ماسة لنقدها) لا منع الحديث عن خلافاتها. وعن خلافات العائلة المالكة قالت العريضة: (عندما يتجرد التنافس عن المبادئ، يصبح صراعاً شخصياً حول المغانم الشخصية، يسود منطق الأثرة، ويهيمن منطق المصالح الخاصة، ويستفحل إلى صراع مكشوف، فينفض المجتمع من المشاركة، وتسود العضلات العسكرية... الأمراء كغيرهم من البشر؛ ليسوا جنساً ملائكياً مقدساً).

وانتقدت العريضة أمراء العائلة المالكة بأنهم خرقوا القاعدة التي تعاقد عليها الشيخان: محمد بن عبد الوهاب ومحمد بن سعود، فلم يؤسسوا الدولة العادلة، ولم ينشروا المساواة، ولم يحفظوا حريات الناس وكرامتهم وأموالهم، ولم يراعوا استقلال البلاد عن هيمنة القوى الكبرى. (لكي تقنع الدولة أن الخارجين عليها هم الضالون؛ عليها أن تلتزم بجادة العدل، الذي لا يتحقق إلا بصدور الحاكم عن قرارات نواب الأمة المنتخبين شعبياً... الناس لا تُطالَب بواجباتها حتى تعطى حقوقها، ومشروعية قيام الحكم أياً كان؛ هي إقامة ميزان العدالة، وحفظ حقوق الناس المدنيّة والسياسية).

وانتقدت العريضة ما أسمته بـ (تبجّح الأمراء) من أنهم أخذوا الحكم بالسيف وحده، ووصفتهم بأنهم

(لم يتعبوا لا في جمعه ـ أي الحكم ـ ولا في حفظه، ولم يدركوا لا كيف تجمّع، ولا كيف يتبدّد... وهاهم بعض الأمراء من معوقي الإصلاح اليوم يبددون هذا الرصيد!.. صدور الحاكم عن قرارات نواب الأمة المنتخبين هو أساس الحكم، أم السيف الأملح؟.. السيف الأملح والقمع إنما هو للمجرمين والسراق والمفسدين، وليس للعوائل والبيوت والمدن الحرة التى تريد أن تعيش مرفوعة الهامات، محفوظة الكرامة).

أين أنت أيها الملك، وأين هم الأمراء الإصلاحيون!

الملك يزعم الإصلاح، وهناك أمراء آخرين زعموا ذلك في تصريحات قليلة لهم. المذكرة تنتقد بشجاعة الملك عبدالله، وليس السديريين والغالبية العظمى من الأمراء ممن هم على نهج الإستبداد فحسب. والنقد للملك يحوي حضّاً على ممارسة دوره كملك، وكإصلاحي!.

تساءلت المذكرة: (أين الأمراء الدستوريون بقيادتكم من تراكم المشكلات) وشرحت كيف أن المأزق الذي تعاني منه الحكومة السعودي ناتج عن استمرار في الجمود والركود والاستبداد، حيث لم يواكب النظام السياسي التطور العالمي، ولا نمو السكان، بأي خطوة جدية في الاقتراب من مفهوم الإدارة السياسية الحديثة، الذي أساسه الحكم الشوري، واعتبرت المذكرة السعودية البلد الوحيد في العالم الحديث، الذي يحكم من دون (نظام دستوري) يضمن مبادئ العدل والشورى.

ونفت المذكرة عن النظام السياسي السعودي مشروعيته الدينية، فكيف تعتبر العائلة المالكة أن دستورها الكتاب والسنّة؟ (كيف يعتبر الكتاب والسنة دستور من لم يطبق ما ورد فيهما من قوامة الأمّة على الحكومة ووجوب تطبيق الشورى والعدل والمساواة).

وتنتقد العريضة مسيرة من سمّوا بأمراء الإصلاح (القدامى) وبينهم الملك عبدالله، فهم رغم وعيهم بالحاجة الى تجديد الدولة (حرصوا على عدم الظهور بمظهر الاختلاف) بين أمراء الأسرة الحاكمة. وهنا، وحسب العريضة: (أخطأ أفراد الأسرة الدستوريون ـ أي الراغبون في الإصلاح السياسي بقيادتكم ـ قبل أربعين عاماً خطأ كبيراً،عندما لم يصرّوا على مطالبهم الدستورية، فالحكم ليس مجرد وقف موروث، بل هو تجديد وحيوية، الماء إذا ترك من دون تصريف، هبط من الأعالي إلى الأسافل).

وتقول العريضة بأن الخلاف بين أمراء الأسرة الحاكمة ليس هو الذي أسقط دولتهم الأولى، كما يقول ابن بشر، المؤرخ النجدي المعروف، بل أن الصراع والخلاف كان شخصياً بحتاً:

(فالمتصارعان يتسابقان على نهب أموال الأمة، أو التفريط بشرفها، وبعزتها وهيبتها. وكذلك الأمر اليوم؛ فإذا وجد في القيادة جناحان: جناح يكره العدل ويحب القمع، وجناح يريد العدل ولكنه لا يتخذ له وسائله المعروفة في كل مكان: الشورى الشعبية، والتجمعات الأهلية، فالنتيجة واحدة وإن اختلفت المناهج، فسواء اختلفا أم اتفقا. هذا بسكوته وذاك بقمعه يفتحان الدرب أمام أعظم الكوارث في الأمم، لا تحتاج الحكومة التي لا تثمن الشورى الشعبية إلى قرار، بل يكفي مواصلة الإهمال والتسويف وترك الأمور كي تجري على عواهنها. النتيجة واحدة سواء اختلف الفريقان أم اتفقا. مادام الأمراء الدستوريون، لا يخطون خطوات نحو الحكم الدستوري).

وشنّت العريضة حملة على الأمير نايف وأشقاءه: سلطان وسلمان، وغيرهما دون أن تسميهم.. فهذه الفئة المتنفذة من الأمراء من معوقي الإصلاح (ازدادت خوفاً، عندما ازداد الناس وعياً بحقوقهم، فازدادت بطشا، وكلما ازداد الناس مطالبة ازدادت قمعاً وإرهاباً. ولإن الفئة المتنفذة من معوقي الإصلاح لا تدري ما السياسة الحكيمة صارت تقول لمن يطالب بالإصلاح: هل نحن فاسدون؟)!

وزارة الداخلية تفسد الدين ورجاله

مع أن معدّي العريضة التي نحن بصددها هم من المحسوبين على التيار الديني عامّة، إلاّ أنهم كانوا يوجهون مدافعهم بل صواريخهم باتجاه خائني الأمانة من رجال الدين ممن اشتراهم أمراء القمع. ووصفت العريضة مشايخ السلطة بأقذع الأوصاف، وحمّلتهم هم والأمراء مسؤولية الفساد والظلم الذي يفضي الى زوال الدولة السعودية.

قالت العريضة أن زمرة الأمراء عمدت الى (إنتاج الخطاب الديني المحرّف الذي يخلّ بالمواطنة والتعددية والتسامح ويذكي التعصب والتقوقع والتطرف ويؤاخي التخلف) وحمّلت وزير الداخلية وأمراء النهب والقمع بالذات المسؤولية، فـ

(وزارة الداخلية ومن سار على نهجها من الأمراء النهابين والقمعيين، تدفع بعض علماء الدين الخادعين والمخدوعين والغافلين، وتمكّن لهم مادياً ومعنوياً، مباشرة أو عبر تسللها في وزارات الشئون الإسلامية والإعلام أو التعليم العام أو الجامعات، ليبثوا خطاباً دينياً في التعليم العام والجامعي يتسم بــ.. قتل روح الكرامة في الشعب، إذ يدعو الناس إلى التفريط بحقوقهم، والصبر على جور الحاكم، من خلال مقولات تعتبر الصبر على انتهاك الحقوق هو سمة المؤمن الجيّد، فالمؤمن الممتاز ـ في مدونات فقهاء الظلام - هو الذي يتنازل عن حقوقه ويقوم بواجباته، ويعتبر أن جور الحاكم قدر غيبي مكتوب لا حيلة للإنسان فيه، إلا أن يدعو للسلطان بالهداية والعطف على الأمة والعدالة، إذ لا يجوز ولا حتى الدعاء على الحاكم الظالم، كما ينص كتاب: شرح الطحاوية، الذي يدرس في الجامعات).

وأضافت العريضة بأن الخطاب الديني المحرف الذي تنشط الحكومة في تقديمه عبر المساجد والجوامع والمدارس والجامعات، يعتبر ظلم السلطان إنما هو بسبب معاصي العباد، ومن أجل ذلك فعلى الناس التوبة من المعاصي - إذا اشتدّ ظلمه - لأن الله إنما سلّطه عليهم بسبب ذنوبهم، ومن أجل ذلك فإن صبرهم على ظلمه، تطهير لهم من ذنوبهم، يؤهلهم للسعادة الأخروية.

وقالت بأن فقهاء الاستبداد الذين يدافعون عن جلاديهم، يطالبون الشعب بأن يتنازل عن كرامته الدنيوية، من أجل الأخروية، وأنه خير لهم أن يلقوا الله مظلومين من أن يلقوه ظالمين. ووصفت العريضة هؤلاء المشايخ، وهم جلّ المشايخ الرسميين، إن لم يكونوا الغالبية الساحقة جداً منهم، بانهم (أعوان الظلمة من فقهاء الاستبداد) لم يدفعوا الدولة لتصلح نفسها، (بل استخدمهم الأمراء النهابون والقمعيون من أجل تهميش الإصلاحيين) وأنهم بالغوا في التزام فقه سدّ ذرائع الفساد، حتى انسدت على الناس أبواب كثيرة من الفلاح. ورأت المذكرة/ العريضة أن من الطبيعي أن ينتج هكذا خطاب ديني متخلّف: (شخصيات مريضة، تستسلم لجلاديها... وأن ينتج شخصيات مندفعة مغامرة، لا تحسب للعواقب حساباً).

وواصلت العريضة حملتها على وزارة الداخلية متهمة إيّاها أنها ومن خلال سيطرتها على وزارة الأوقاف، أنها تروّج الطائفية والتعصّب والتقاتل بين المواطنين، فقد روجت

(خطاباَ دينياَ متقوقعاَ منغلقاَ، يبثّ الفرقة بين أهل القبلة، ولاسيما بين السنّة والشيعة، ويلعن الشيعة وبعض الفئات الأخرى، ويخلّ بروح المواطنة، ويذكي روح التعصب الديني. وأعوان الظلمة من فقهاء القمع والتعصب حاربوا مبدأ التعددية والتسامح... وسكّوا خطاباً مذهبياً يكفّر الشيعة، ويستعدي الطوائف والمذاهب الأخرى، ويتلى في خطب الجمعة والقنوت، ضارباً عرض الحائط بسنن السلف الصالح في التعامل مع الطوائف والفرق).

واعتبرت العريضة تصرفات الداخلية متناغمة مع المخطط الصهيوني الأميركي الذي يريد التفرقة بين السنّة والشيعة، من أجل تمزيق الدول العربية، وإنشاء دويلات مذهبية، على أنقاضها، وتستثمر بعض علماء الدين من الخادعين والمخدوعين والغافلين، المحافظين على رسوم الدولة المذهبية، لكتابة فتاوى وكتب على غرار (وجاء دور المجوس)، ولتشغلهم بثانويات الدين عن أساسياته.

ومضت العريضة الوثيقة لتشدّد على أن وزارة الداخلية أنشأت خطاباً دينيّاً محرّفاً آخر،

(لا يؤمن بمبدأ المشاركة الشعبية، بل يحمي الاستبداد... يصادر حقوق المرأة الشرعية، ويحمي القهر والفقر والتخلف، وأعوان الظلمة من فقهاء التخلف قدموا الإسلام ظهيراً لنمط جديد من أنماط وأد المرأة، يتجافى عن سنن السلف الصالح... ويصادر حقوقها باسم الإسلام والسلفية، وكأن وزارة الداخلية تريد أن تكون سلفيّة أكثر من السلف الراشدي الصالح. وهي تتحالف مع الفقهاء المخدوعين والغافلين، لا من أجل الحفاظ على الأخلاق الذي يقصدون، ولكنهم عن كواليس السياسة وأولويات الشريعة غافلون. بل لأنها تريد أن يبقى نصف المجتمع مشلولا، وفق نظام (الحريم والجواري) من جانب، ولأن نيل المرأة حقوقها عامة والسياسية خاصة، يمكنها من تربية أجيال حرّة أبية، تطالب بحقوقها الشرعية، وترفض التفقير والتحقير).

وتتابع صواريخ المذكرة الشجاعة مؤكدة على أن الداخلية ترعى (خطاباً ماضوياً، يذكي التطرّف والتقوقع والتخلّف، وتستخدم هذا الخطاب وعظياً في قنوات التوجيه والتعليم، وقضائيا في تجريم المخالفين والمطالبين بحقوقهم. وأعوان الظلمة من فقهاء الاستبداد غلوا في التكفير والتبديع... وتركوا بدع الاستئثار بمال الأمة وحياتها، وقيمها وتربيتها، ورفضوا ضمانات الحكم الشوري، فأسهموا في ضياع حقوق الإنسان ثقافية واجتماعية واقتصادية فضلا عن السياسية).

بل وزادت العريضة بأن اتهمت المؤسسة الدينية بالتواطؤ مع الحكومة بتدعيم سلطة الظلم والطغيان، فقد،

(وظفت الحكومة المؤسسة الدينية لقمع العدل المساواة وسلطة الأمة وحقوق الإنسان، ولا سيما السياسية، بخطاب ديني ظاهره طاعة الله ورسوله، وباطنه طاعة الطغيان. صاغه متزمتون من "المقتسمين، الذين جعلوا القرآن عضين"، فيؤمنون ببعض الكتاب، وما فيه من أمر بالصلاة والزكاة والصيام والعفة، ويتركون بعضا آخر، فيه أمر بالاحتساب على كل منكر، وأمر بقصر الحاكم على العدل والشورى قصرا، وأطره عن الظلم والاستبداد أطرا).

تآمر السياسي والديني على الأمّة

ترى العريضة أن الأمراء انتهكوا مبدأ قوامة الأمة على الحاكم، واستبدلوها بثنائية الأمراء والمشايخ. وقالت أن هؤلاء لم يعودوا فعالين وطال عليهم الأمد فقست قلوبهم، بل وانحرفوا عن مقاصد الدين الكبرى، وأنهم (صاروا من عوامل ضعفها وتراكم الظلم وتفاقم الإستبداد). ووجهت المذكرة سهامها الى رجال الدين الذين روّجوا لاستبداد آل سعود، فهم قدموا الدين كسلسلة من المحرمات، واعتبرتهم جهلة بالعالم، وأنهم قاموا بامتهان حقوق الإنسان لصالح حقوق السلطان (حتى أوصل تحالف الشيوخ والمشائخ معاً الأمّة والدولة إلى غاية الإحباط، بل أدى إلى اختزال مفهوم الدولة بالحكومة، ومفهوم الحكومة بولي الأمر، الذي عمم ليشمل كل أمير).

تحالف آل سعود ومشايخ الوهابية، قاد البلاد الى مأزق

(فصار المشائخ في الغالب حلفاء الشيوخ في التفريط بمصالح الأمة، لأن أكثر المشائخ من دون بصيرة سياسية، ولا اطلاع كاف على ضخامة التغير في المجتمعات الحديثة، وإفرازاته. وهم قد استدرجوا إلى الدخول في فتاوى سياسية، لم يحققوا فيها مناطها، ولم يدركوا نتائجها، ولم يحافظوا على قوة الحكومة، ولم يدركوا مآل فتاوى الاضطرار، كالفتوى الشهيرة بجواز الاستعانة بالقوات الأجنبية، التي أطلقوا لها العنان، دون أن يشترطوا أن تشرع الحكومة بإصلاح سياسي فور انتهاء الحرب، تتحول به الحكومة إلى مفهوم الدولة).

وسخرت العريضة منهم بالقول: (أنّى للمشغولين بسبك خطاب غلو ديني، جعل شغله الشاغل لعن الفرق الإسلامية على المنابر، والحث على إعطاء الحاكم حقوقه، من دون تذكيره بواجباته؛ أن يدركوا ما هو الدستور؟) لقد

(استخدمهم الأمراء النهابون والقمعيون من أجل قمع الإصلاحيين الدستوريين. وظلوا - ولا زالوا - يستدرجهم الأمراء النهابون والقمعيون إلى أمور لا يحسنونها، ففقدوا جزءا عظيما من مصداقيتهم. وكانوا غالباً في صف إطلاق يد "ولي الأمر" ، في أموال الأمة ومقاديرها، فعظموا حقوقه، وصغروا حقوقها، وطالبوها بالطاعة، ولم يطالبوه بالصدور عن قرارات نوابها المنتخبين، وصوبوا رأي الحاكم، واعتبروا اجتهاده حاسماً كل نزاع، وخطأوا رأي الأمة، و.. صارت فتاواهم غطاءاً شرعياً، لأمور حسمها الأمراء النهابون والقمعيون بليل، فهمشوا الرأي العام، وضايقوا المجتمع. ونفذ القضاة منهم أوامرهم التي أقطع بها الأمراء والحاشية والمحاسيب؛ لباب أراضي الأمة، في مراكز المدن ونفائس الشواطئ. وبرر المشائخ لتيار المحافظة من الشيوخ، وأد لجنة حقوق الإنسان قبل بضعة عشر عاماً، فضربت الحكومة لجنة حقوق الإنسان بخطاب ديني، وسجنت أعضاءها، فشارك المشائخ في قمع حقوق المواطنين، فلما استجابت الحكومة للمناداة الدولية، وأنشأت لجنة حقوق الإنسان، عاد المشائخ في مقولاتهم يؤكدون للناس أن حقوق الإنسان من الإسلام).

وتقول العريضة بأن الحكومة وظفت الفقهاء المفرطين في القضاء،

(فصار القضاء سلاحاً من أسلحة قمع الرأي والإصلاح، يسند إرهاب الحكومة، فاعتبروا كل كلمة في أوراق، أو محاضرة في رواق، من الفتن ومن عصيان ولي الأمر، وأقرّوا تعذيب المتهمين، بل وفوق ذلك قبلوا اعترافات تنتزع أثناء التعذيب، ورؤساء القضاة يقولون: إن الإسلام يمنع التعذيب. والإسلام حقا يمنع التعذيب، أما هم فقد قرروه ونصوصهم موجودة، وقبولهم اعترافات تنتزع تحت التعذيب معروفة. وأصدروا عقوبات شديدة القسوة والظلم باسم الشريعة، فأخلوا بحقوق الإنسان التي شرعها الإسلام).

على أن الوثيقة تعود المرة تلو الأخرى الى الأمراء لتذكر بأنهم هم الذين عوقّوا الإصلاح و (دعموا الفقهاء الذين يحرسون الاستبداد والتخلف، فشاركوا الحكومة في كل خطوة لقمع الأمة، عبر الخطاب الديني المنغلق، الذي يرفض حقوق المرأة، ويرفض الانفتاح ويحول الإسلام إلى سلسلة من المحرمات والمحظورات، والجهل بالعالم). بسبب هذا التحالف بين مشايخ الوهابية، وأمراء آل سعود تمّ تهميش المجتمع المدني، وتحكّم الأمراء بالمجتمع عبر المشايخ، فكانت الكوارث، ومن أمثلتها استقدام القوات الأجنبية دون مشورة الأمة، واعتماداً على فتاوى مشايخ لا يفقهون، وبذلك فرطت العائلة المالكة بمصالح الأمة (فتآكلت شرعية المؤسستين معاً، وبددتا رصيداً ضخماً بناه لهما الجيل السابق من الفقهاء والأمراء).

وزارة الداخلية أم الإرهاب

تقول العريضة المرسلة الى الملك، بأن القضاء صار أداة لتشريع انتهاكات حقوق الإنسان ولاسيما المتهم والسجين. وتؤكد أن الأمراء سيطروا على القضاء فتحول الى أداة قمع للدعاة والإصلاحيين، الذين سجنوا لسنوات طويلة. فقد طلبت وزارة الداخلية من القضاة إصدار أحكام (متناهية القسوة، وقد أذعن بعض القضاة لضغوطها، فأصدروا أحكاما شديدة القسوة، حكموا فيها بالسنين الطوال، ومئات الجلدات، على أعمال خفيفة عابرة، بل إن بعضهم حكم بالإعدام تعزيراً ـ لا قصاصاً ـ على الجراحة. وكل تلك الأحكام المخلة بما أنزل الله من عدل وإنصاف؛ تقدم باسم تطبيق الشريعة، وحماية الأمن الوطني).

من جهة أخرى، قالت العريضة بأن الحكومة السعودية قد سقطت مشروعيها حين أخلت بشروط البيعة، ولم تقبل بانتخاب لنوّاب الأمّة. واعتبرت تصرفات وزارة الداخلية تجسيداً لذلك. وقالت بأن الأخيرة

(تتصور صراخ المستضعفين، واستغاثة المظلومين، ومطالبتهم بقوامة الأمة على الحكومة.. من الفوضوية والفتن، المخلّة بالعقيدة وبتطبيق الشريعة، وبالوحدة الوطنية، وفوق ذلك تصرح في مقامات معلنة أمام الناس بأن المشروعية هي: السيف، وبأنها ستخوض الدم إلى الركب، في المحافظة على الوضع السائد، القائم على قتل سلطان الأمة. فإذا كانت مشروعيتها ـ في الوصول ـ هي العنف والسيف، ومشروعيتها ـ في الاستمرار ـ هي الاستبداد والجور؛ فبم تبرر مطالبتها الفقهاء وأساتذة الجامعات وأهل الإعلام ودعاة الإصلاح السياسي بفتاوى دعمها ضد من جعلوا العنف والسيف سبيل التغيير؟).

واعتبرت العريضة وزارة الداخلية بأنها

(أكبر هادم لمشروعية الدولة، وأكبر شاحن لبطارية العنف.. لا تدرك ذهنية معوقي الإصلاح المتحجرة أن أهم أسباب العنف هي الفساد السياسي، وقد استمرت على هذا المنوال موغلة في نمط النظام البوليسي، و في الإخلال بالمشروعية، حتى جاء البركان. عندما وقعت الواقعة ظلت تغالط الحقائق، فتنكر أسبابها، ولذلك ظل وزير الداخلية زمنا ينفي أن يكون 15 من مفجري أمريكا سعوديين!!، وعندما اعترفت بالواقعة ظلت تنكر أسبابها، ومن أجل ذلك لا تزال تحارب العنف، بالأساليب التي أنتجت العنف).

وترى العريضة أن الدولة البوليسية السعودية منتج طبيعي للعنف وأن سياسة وزارة الداخلية القمعية هي السبب الرئيس للإرهاب الداخلي، وأكدت بأن سيطرة الداخلية على شؤون الحياة وكافة مفاصل الدولة مؤشراً على الإنحدار، فاستطاعت (بسلطتها المطلقة أن تلجم كل من نبس ببنت شفة في صحيفة أو إنترنيت أو قناة أو مجلس، وصارت تلفق التهم وتشوه السمعة، وتضرب دعاة حقوق الإنسان والمحتسبين، من الخاصرة... أصبحنا في دولة تحكمها المباحث، من دون ستار ولا مواربة، و صارت وزارة الداخلية تواصل انتهاكاتها المنهجية لحقوق الإنسان، بتركيع الشعب وسلب كرامته وحرياته العامة، تحت عنوان الأمن الوطني).

وجزمت العريضة يقيناً بأن وزارة الداخلية (هي المسئول الأول عن العنف والتطرف، وانتهاكات حقوق الإنسان المنهجية، وهذا الأسلوب المنهجي لتحقير الإنسان، وحمله على التنازل عن إرادته بخطاب ديني وإرهاب بوليسي معا، إنما هو جريمة ضد الإنسانية). إن هيمنتها على وزارة التربية والتعليم، وعلى وزارة التعليم العالي وعلى المساجد والشؤون الإسلامية، وعلى الإعلام واستخدام القمع جعلها لا تدرك أن (أي شعب يعاني من ثنائية الإهانة والإملاق، لا يمكن أن يستتب فيه أمن ولا وفاق).

وتتعرض العريضة الوثيقة الى حقيقة أن الفساد السياسي، هو جرثومة كل فساد ديني أو تربوي أو أخلاقي، أو تعليمي أو اقتصادي أو اجتماعي. هذه حقيقة يعرفها الجميع إلا وزارة الداخلية التي ضاقت ذرعا بكل من فتح فمه؛ بأي كلمة حق أو صرخة احتجاج، أو استخدم أي وسيلة سلمية، أمام سلطتها الجائرة. الداخلية ترى المشكلة في (فساد الإنسان، أما نحن ـ رجال الداخلية وأمراء السوء ـ فلسنا فاسدين حتى تنادوا بالإصلاح، وسنبدأ بكم يا دعاة العدل والشورى وحقوق الإنسان، وسنؤدبكم من خلال الزنازين الانفرادية وتعذيبها، ومن خلال تهم حيازة السلاح، ومن خلال التهم الجنائية، ومن خلال التهم الأخلاقية، قبل أن تكونوا رأياً سلمياً عاماً يضغط في سبيل الإصلاح السياسي).

هذا غيض من فيض مذكرة (تقصي الحقائق).. مذكرة لا تنقصها الجرأة والشجاعة، ولا ينقصها التحليل المستنير للأمور. ينقصها شيء واحد يتمحور حول هذا السؤال: ألا تبرر كل المظالم التي ذكرت في الصفحات التي تزيد على الخمسين من المذكرة الى الملك عبدالله.. للمواطنين الدعوة الى إسقاط نظام العائلة المالكة، بدل انتظار إصلاح ذاته.. وهل هناك متسع للإصلاح، أو أملٌ به في قادم السنين وليس الأيام؟!

الصفحة السابقة