من فضائل الوهابية!

سعوديون يعتنقون المسيحيّة

محمد الأنصاري

الأخبار التي تمّ تداولها مؤخراً حول اعتناق (عشرات) الطلاب من السعوديين المبتعثين الى الولايات المتحدة للديانة المسيحية، سبّبت صدمة لدى الكثير من المواطنين، وتداولتها العديد من المنتديات الأخبارية المحلية والعربية باستغراب، ملقية اللائمة على الآباء والحكومة وضعف التديّن لدى الشباب أنفسهم.

ومع أن مثل هذه الأخبار طفحت على السطح بكثرة في السنوات الأخيرة، فإنه يصعب تقصّيها، خاصة وأن اعتناق ديانة ما ليس شأناً عاماً، ولا هو مطروح للنقاش، ولا يعني إلاّ صاحب العلاقة، الذي قد يكشف عن تحوّله الديني، أو يعمّي عليه، خشية البطش، أو المضايقات الإجتماعية، أو حتى القتل.

لقد تناهى الينا العديد من الأخبار، لا يمكن الجزم بصحّتها جميعاً، بعضها يقول بأن فتيات سعوديات اعتنقن المسيحية، وبعضها يقول بأن الممثل أو المغني الفلاني غيّر دينه، والآن يتم الحديث بشكل مكثّف عن (ارتداد ديني) بين الطلبة السعوديين المبتعثين، وبأعداد غير اعتيادية بمقاييس بلد مثل السعودية.

السعودية وخلال السنوات الخمس الماضية أرسلت عشرات الآلاف من الطلبة للدراسة في الخارج، وقد جاء ذلك بعد أحداث سبتمبر 2001، وفي وقت كانت هناك وفرة مالية تحصلت عليها الحكومة من مردودات النفط، فضلاً عن أن السعودية بعد أحداث سبتمبر أرادت استرضاء الغرب بشكل عام، لاستعادة ما سمّاه كيسنجر بأموال البترودولار، فكان الإبتعاث واحداً من السبل، وقد جرى النقاش بشأنه بين بوش وولي العهد يومها ـ الملك حالياً ـ عبدالله.

أعداد المبتعثين يبلغ حالياً نحو 65 ألف شخص، معظمهم من الشباب، ذكوراً وإناثاً، كما أن معظمهم غير متزوجين، وقد أرسل هؤلاء الى العديد من العواصم الأوروبية والولايات الأميركية، واستراليا، ونيوزيلاندا، فضلاً عن بلدان عربية كمصر، واسلامية مثل الباكستان والهند، وغيرها.

مشايخ الوهابية كانوا دائماً ضد الإبتعاث، وحذّروا من تعريض الشباب الى امتحانات صعبة، والآباء والأمهات من ترك أبنائهم في الخارج دون رعاية، ولا ننسى أن التراث الوهابي في معظمه يحرّم السفر الى ما يسمونه بـ (البلاد الكفرية). كانت خشية مشايخ الوهابية من تغيّر سلوك الشباب، ولم يكن يدر بخلدهم أن التغيّر يمكن أن يشمل المعتقد الديني بشكل شامل.

لا أحد درس أسباب حدوث تحوّل المعتقد لدى الشباب السعودي. الى أي مذهب إسلامي كانوا ينتمون، والى أي منطقة يعودون، ومن أي شريحة إقتصادية قد أتوا، والى أيّ مؤثرات تعرّضوا، وهل كان تحوّلهم اعتقاداً بأفضلية دينية، أم لأهداف مصلحية، أم ردّة فعل أم ماذا؟

السؤال الأكثر إلحاحاً هو: كيف يمكن أن يحدث تحوّل عقدي في مجتمع مغلق، مؤطّر دينياً وعقدياً لعشرات السنين، تشبّع وبجرعات زائدة وعلى مدار قرن كامل بالقضايا الدينية والمعارك الدينية العقدية والطائفية، فضلاً عن أن حكومته تزعم بأنها الوحيدة بين العالم التي تطبّق الشريعة، وأن أرضه تحتضن أقدس مقدّسات المسلمين في مكة المكرمة والمدينة المنورة؟!

الجواب يكمن في السؤال ذاته.

المجتمع السعودي اليوم ليس مجتمعاً دينياً، بل يمكن القول أنه ليس فقط أقلّ المجتمعات العربية والإسلامية التزاماً بالإسلام، بل هو ـ في ظنّنا ـ أدناها مرتبة.

وهو اليوم، حسب معرفتنا الدقيقة له، مجتمع طائفي متصارع داخلياً ويصدر صراعاته الطائفية الى الخارج، ولكنه ليس مجتمعاً دينياً يحتكم الى المعايير والقيم الدينية. بمعنى أن غيرته التي تظهر في بعض القضايا السياسية، الإسلامية والعربية (خاصة في نجد الوهابية بالتحديد، والتي تتحكم بالمؤسسة الدينية) هي غيرة طائفية، وليست دينية، أي أن المحرّك طائفي، حتى في موضوع مثل (الرسوم المهينة للرسول صلى الله عليه وسلم). فبعض مشايخ الوهابية تحمّس للدفاع عن النبي وعرضه، مستبطناً الدفاع عن المذهب الوهابي، وحتى لا يقال بأن العالم الإسلامي غضب من تلك الرسوم، في حين أن مشايخ الوهابية صمتوا.

ونقول أكثر من هذا، فإن ظاهرة التديّن في السعودية، وتحديداً في محيط المدرسة الوهابية المتحكّمة، إنما هي في كثير أو قليل منها (ظاهرة نفاقية نفعية) لا يعضدها الفعل، بل لقلقة لسان. في السعودية تسمع الكثير عن الدين الصحيح، والإسلام الصحيح، وتصدح عشرات الآلاف من المآذن بالأذان والصلوات؛ وتغطي البرامج الدينية مساحة واسعة من الإعلام الرسمي المقروء والمسموع والمرئي.. لكن أثر ذلك على سلوك الأفراد، قليل جداً. إن الحياة الدينية الطاغية في قمعها، خلقت شخصيات منافقة مزدوجة الشخصية: ففي الظاهر تسمع عبارات التدين، وتجد في كثير من الأحيان سواسية سلوك مفروضة؛ ولكن ما أن يختلي المرء بنفسه في بيته وبين الجدران الأربعة ترى نقيضاً في الممارسة والمعتقد مما لا يمت الى الإسلام بصلة. وهذا، قد يفسّر في جانب كبير منه سلوك السعوديين في الخارج، الذين ينغمسون في الملذات والشهوات الى أبعد الحدود، وبشكل مقزّز. ولكَ أن تعجب للمفارقة بين سمعة السعودية كدولة إسلامية، منحتها الأماكن المقدسة صورة حسنة عنها، في حين أن سمعة الأفراد (كسعوديين) بائسة كأشخاص غير متدينيين.

وفي الوقت الذي نمت وتنمو فيه الظاهرة الدينية في معظم بلدان العالم الإسلامي، بل وحتى بين المسلمين المقيمين في الخارج، فإنك تجد أن ظاهرة التديّن الى انحلال في معقلها النجدي، حيث توجد الوهابية، وحيث سلطتها القاهرة.

زد على هذا، فإن ظاهرة الإلحاد اللفظي المتضاد مع الدين، بل مع الله، وكذلك ظاهرة الروايات الجنسية الفاقعة التي تصدر من السعودية، قد طغت في السنوات الأخيرة في السعودية، مما لا يوجد له مثيل حجماً وعنفاً في أي بلد عربي آخر، ما يدلّ على ردّة حادة ضدّ كل ما له علاقة بالله والدين.

هذا التوصيف الذي نقوله معنيّ به بالدرجة الأساس، النجديون، المحتضنون للوهابية كمعتقد وكهوية، ممن هم يحكمون البلاد، وينتفعون بخيراتها ومناصبها، والذين تتحدّر المؤسسة الدينية الوهابية منهم، وهم يشملون نحو ربع السكان.

نستطيع القول بأن الوهابية، أخرجت الناس (النجديين بشكل خاص) من دين الله أفواجا! عبر التكفير، أو عبر التشدد الذي أفضى بالأجيال الجديدة ـ وكرد فعل ـ الى رفض النسخة الدينية الوهابية، بل وأحياناً كل النسخ الدينية الأخرى، واعتناق النقيض: المسيحية، أو الإلحاد المكشوف، ويكفي أن نلقي نظرة على موقع منتدياتنا السعودي، الذي يقوم عليه طاقم نجدي ممالئ للعائلة المالكة، ويكتب فيه من يسمون أنفسهم ليبراليون أو علمانيون، لنكتشف حجم الردّة عن التراث الديني الوهابي وعن الدين بشكل عام (وإن لم تكن هناك ردّة عن الطائفية!).

الوهابيّة، وفي تاريخها القديم والحديث، خرّجت صنفين غير سويّين من الناس: متطرفين عنفيين مكفراتية، وهذا أغلب منتجها، مثل القاعدة وقبلها جهيمان وجماعته، وأضرابهم من المشايخ المكفراتية لكل البشر بمن فيهم المواطنين. القسم الثاني الذي خرجته الوهابية كرد فعل: الملاحدة والمارقين من الدين، ودعاة الفحش والجنس المفتوح!

معظم رواد كلا القسمين هم من النجديين الوهابيين، بحيث ان المراقب يجد القسمين منفصلين بشكل شبه تام، في المجتمع النجدي.

عدد من المشايخ وطلبة العلم والحركيين الوهابيين طلّقوا الدين أساساً، وهناك أسماء عديدة لا نرى ضرورة ذكرها، خرجت على السطح في السنوات العشر الماضية، كرد فعل على الجهاز الديني الرسمي والحركي القاعدي. ومثل هذه الردّة ليست جديدة في تاريخ الوهابية، فقد ظهر بين أظهرها الملحد العربي الأكبر عبدالله القصيمي، الذي كان شيخاً ثم تحوّل الى داعية الحاد، بل الى مدافع صريح عن الشيطان!

في سنيّه الأولى، كان طبع القصيمي حادّاً تكفيرياً صارخاً في حماسته، معتدّاً بالمنتج الوهابي يكفر بقيّة المسلمين.

لقد ألّف مجلدين ضد الشيعة، وكتب ضد الأزهر، وضد كل جهة، من بين كتبه: (البروق النجدية في اكتساح الظلمات الدجوية، القاهرة 1931؛ الفصل الحاسم بين الوهابية ومخالفيهم، القاهرة 1936؛ الصراع بين الإسلام والوثنية، في مجلدين، القاهرة 1937؛ شيوخ الأزهر؛ مشكلات الأحاديث النبوية وبيانها ـ وهو كتاب يرد فيه على الملاحدة؛ نقد كتاب حياة محمد، وغيرها من الكتب). ومن بين كتبه بعد أن أصبح ملحداً: (هذه الأغلال، القاهرة 1946؛ العالم ليس عقلاً، بيروت 1963؛ أيها العار إن المجد لك، بيروت 1971؛ الكون يحاكم الإله، باريس 1977؛ العرب ظاهرة صوتية، بيروت 1977؛ الإنسان يعصي لهذا يصنع الحضارة، بيروت 1973، وغيرها).

تطرف العقيدة الوهابية، وضغوطها الإجتماعية الحادّة، بل خنقها للمجتمع بكافة السبل، وتضييقها للحلال برؤى متشددة وفتاوى استئصالية عنفية، أدّى الى ردود فعل متنوّعة، واحد من ردود الفعل: ترك الدين والتدين أصلاً، وواحد منها اعتناق النقيض: الإلحاد، أو اعتناق دين غير الإسلام؛ وواحد منها الترويج وممارسة النقيض الفاضح أخلاقياً ونشره على الملأ كتابة أو عبر اليوتيوب أو في المنتديات. كل ما هو صارخ في مواجهة الدين تجده في السعودية، وخاصة بين الوهابيين النجديين. بل قد تجد وسائل إعلام رسمية أو شبه رسمية متحفّزة الى نشره وتسليط الضوء عليه كما أية ظواهر غريبة، كما هو الحال مع قناة العربية وموقعها، وكما هو الحال مع إيلاف وأضرابها.

يمكن القول بأن الوهابية تتحمّل الوزر الأكبر في خروج معتنقيها والمبتلين بها عن دائرة الإسلام، فهي لم تقدّم لهم إسلاماً، بل قيوداً ثقل حملها، فتم إلقاؤها كلّها في اليم!

الوهابية ومن ورائها آل سعود، لم يصنعوا لنا مجتمعاً سويّاً، بل مجتمعاً مريضاً بعاهات تحتاج الى عقود، والى أجيال جديدة، حتى تتعافى مما أتت به. ليس أسوأ من عنف الوهابية، سوى تشويه الإسلام، ودفع الأجيال الجديدة لتقف نقيضاً له أو للتفسيرات التي أتت بها الوهابية له.

وبهذا، فإن الوهابية ونسختها المزوّرة للدين، وفرضها على الناس بالقوة، واعتماد لغة العنف والتكفير، وخنق المجتمع عبر تحويل الحلال والمباح الى خانة المحرمات وفرضها بعصا الدولة، وشقّ المجتمع طائفياً، ومنع الإصلاح مدعوماً بمصالح آل سعود، وفساد المشايخ مادياً، بل وانحلال بعضهم أخلاقياً... كل هذا كان سينتج النقيض له. وأحد النقائض: التحول عن دين الإسلام الى المسيحية. ونظنّ ـ مجرد ظن ـ أن معظم المبتعثين المتحولين الى النصرانية هم من النجديين، أي من محيط الوهابية الإجتماعي ومقرّها العقدي.

والشيء بالشيء يذكر، فإن ارتداد بعض المغاربة الى المسيحية بعد أحداث 9/11، وموجة العنف الوهابي التي ضربت أصقاعاً متعددة في العالم العربي والإسلامي، لهو دليل آخر، بأن الوهابية تنتج نقيضها تماماً، فأصبحت أداة إفساد وإخراج من الملّة.

وقف الحجاج في رحلة صيد على خباء إعرابي كان يقرأ القرآن: (إذا جاء نصر الله والفتح، ورأيت الناس يخرجون من دين الله أفواجا...). ردّ الحجاج، وهو مدرّس قرآن سابق قبل أن يوغل في الدماء من أجل السلطان: (بل يدخلون)! هنا التفت اليه الإعرابي وقال: (بل يخرجون، منذ أن توليتهم أنت وأمثالك)!

الصفحة السابقة