(القاعدة) ورقة رابحة

صراع النفوذ بين الدفاع والداخلية

محمد قستي

عادت مفاجئات بيانات وزارة الداخلية مجدّداً..وعادت الأسئلة القديمة المتجددة معها، بالنظر الى ما تحويه البيانات من معطيات تفرض نمطاً مختلفاً من التحليل غير ذاك الذي طمحت وزارة الداخلية أن تمليه على المراقبين. لا ريب أن مساحة الإهتمام بنشاطات القاعدة قد تقلّصت على المستوى الإعلامي، ليس فقط بسبب الضربات الموجعة والقاتلة التي أصابت صميم التنظيم في أكثر من مكان في منطقة المشرق العربي بدرجة أساسية وخصوصاً في المملكة والعراق وسوريا ولبنان، وبالتالي أصبح هناك هامش محدود لمناورة التنظيم دفعت به الى العودة إلى مواقعه الأولى، أي الأطراف (افغانستان، اليمن، الصومال..والمغرب)، بعد أن كان يسعى لسنوات التسلّل الى المراكز (العراق، سوريا، لبنان، مصر..وأخيراً فلسطين).

ليست التصدّعات البنيوية التي ضربت التنظيم وحدها السبب في تراجع الاهتمام به إعلامياً، ولكن أيضاً بسبب تكشّف معطيات بأن القاعدة وفروعها، على الأقل في بعض الأماكن، قد أصبحت جزءً من اللعبة السياسية، بل هناك من ينظر إليها بوصفها أداة بيد أجهزة أمنية إقليمية. ففي اليمن على سبيل المثال، بات كثير من المعارضين سواء في الشمال أو الجنوب على قناعة تامة بأن القاعدة تحارب الى جانب نظام علي عبد الله صالح، هكذا كان حالها علنياً في الحرب الأهلية سنة 1994، وهكذا كان حالها في بعض المراحل بدخول بعض المجموعات القاعدية في مواجهات عسكرية مع الحوثيين، قبل أن يكبّدوهم خسائر فادحة ما اضطرت المجموعات تلك بإخلاء الساحة بعد تحذيرات من القيادة العسكرية الحوثية بأن مقاتلي القاعدة سيتعرضون لعقاب أشد قسوة في حال عادوا للمشاركة في حرب النظام اليمني ضد الشمال الذي يسيطر عليه الحوثيون.

تقارير متطابقة يمنية وسعودية ألمحت إلى أن القاعدة أصبحت بمثابة حبل التجاذب بين الرياض وصنعاء، فكلاهما يريده لأغراض محددة، وقد يحيله الى ورقة ضغط أو كرة لهب إن تطلب الأمر. ولأن اليمن والمملكة التقتا في تنظيم القاعدة في جزيرة العرب من حيث العضوية التنظيمية، فإن الجغرافيا والأمن يلعبان دوراً في التعاون بين البلدين لجهة التعامل مع الملف بطريقة تخدم مصالح الطرفين.

الدفاع والداخلية.. معركة الصلاحيات

ما لا يعرفه كثيرون، أن الأمير نايف كان من بين الذين عارضوا بقاء الجيش على الحدود الجنوبية مع اليمن، ما يعني استلام الجيش ملف أمن الحدود مع دولة تمثّل الآن المنفذ الكبير لمقاتلي القاعدة، وكذلك خطوط الإمداد اللوجستية، إلى جانب أغراض أخرى منها التجارة البينية غير الرسمية بين بعض الأمراء والرئيس اليمني وجماعته.

منذ التدخّل السعودي في حرب اليمن ضد الحوثيين في بداية نوفمبر من العام الماضي، شعر وزير الداخلية بأن ثمة في وزارة الدفاع من يبيّت مؤامرة لتقليص نفوذه، خصوصاً وأن الترتيبات التي قام بها الأمير خالد بن سلطان وبعض المقرّبين من أبيه لا توحي بأن المهمة عسكرية محض، خصوصاً بعد إفراغ ما يربو عن 500 قرية حدودية وأن سكّان هذه القرى قد لا يعودون بصورة نهائية الى قراهم، حيث سيتم تحويلها الى منطقة عسكرية تابعة للجيش السعودي.

تصريحات الأمير خالد بن سلطان حول إنشاء مدينة عسكرية على الحدود الجنوبية، ومواصلة إخلاء المناطق الجنوبية ونقلهم إلى مناطق خلفية، والتأكيد على دعم الملك عبد الله للقوات المسلّحة المرابطة على الحدود، توجّه رسائل واضحة إلى إتجاهات عدّة بأن الجيش سيصبح المسؤول عن ملف الحدود اليمنية السعودية، وبذلك يكون الأمير سلطان قد استكمل إجراءات التحكّم بملف اليمن الذي هو المسؤول عنه في العائلة المالكة، وبالتالي خسارة الأمير نايف جزءً من نفوذ يراهن عليه في موضوع مكافحة الإرهاب.

في واقع الأمر، أن خروج أو تخفيض دور حرس الحدود التابع لوزارة الداخلية يحمل في طيّاته رسائل للأمير نفسه، بأنه لم يعد قادراً على ضبط الحدود ومنع المتسلّلين (إفراط الأمير خالد بن سلطان في استعمال كلمة متسللين خلال شهور الحرب ضد الحوثيين كان يستبطن غمزاً من قناة الأمير نايف المسؤول عن حماية الحدود) من الدخول الى أراضي المملكة والعبث بالأمن.

الصراع بين الدفاع والداخلية هو صراع عائلتين تسعيان الى ترسيخ نفوذهما في الدولة، فصراع النفوذ بينهما يأخذ أشكالاً متعددة أمنية وسياسية وتجارية، وليس هناك ما يحدّ من غريزة الصراع لدى أي منهما، لأن المعركة تجري على امتداد الدولة بكامل حمولتها.

مقرّبون من الأمير نايف يتحسّسون وجع الضربة التي سدّدها آل سلطان لهم في الحرب الأخيرة في اليمن ضد الحوثيين، فقد خسر وزير الداخلية الأرض والنفوذ وممرّات حيوية للتجارة. كانت الداخلية تحصد في عمليات مكافحة الإرهاب حصصاً كبيرة من موازنة الدولة بدأت أول مرة العام 2004 حين حصل الأمير نايف على 30 مليار ريال لتطوير الأجهزة الأمنية التابعة لوزارة الداخلية ومكافأة ضباط ورجال الأمن بفعل ما أنجزوه في مواجهة (الفئة الضالة).

ولأن آل سلطان هم من يتقنون ببراعة فن الحصاد من حقول الدولة، فقد وجدوا بأن الحدود الجنوبية قد تتحوّل الى نهر من ذهب في حال أحسن الأمير خالد بن سلطان، والفتى سرّ أبيه، التعامل مع موضوع الحدود بطريقة ترضي الملك وتحقق إجماعاً داخل العائلة المالكة، وإن كان للأمير نايف ألف سبب يدفعه للإرتياب في تحركات إبن أخيه.

تجدر ملاحظة ما جرى منذ نوفمبر 2009، أي مع بدء التدخل العسكري السعودي في الحرب اليمنية، حيث فرض الأمير خالد بن سلطان ومن ورائه الجيش مشهداً واحداً يحتل فيه موقعاً متقدّماً، فيما توارى دور وزارة الداخلية والأمير نايف الذي ارتبط إسمه منذ 2003 بمكافحة الإرهاب و(الفئة الضالة). كان الاعتقاد السائد بأن غياب الأمير سلطان في الخارج لفترات طويلة لأسباب مرضيّة، ستمنح الأمير نايف فرصة ممارسة دور النائب الأول، والتصرّف على أساس أنه الملك القريب القادم الى العرش، خصوصاً بعد اذعان الملك عبد الله للقسمة الثنائية بينه وبين الأمير نايف، والتي بموجبها أصبح الأخير نائباً ثانياً..

وبقدر ما كان آل سلطان يستشعرون خطر الأبعدين داخل العائلة المالكة بعد غياب الرأس، أي الأمير سلطان، فإن خطر القريب لم يكن مستبعداً، وخصوصاً اذا كان القريب منافساً شرساً كالأمير نايف وآله. ولذلك، كانت عودة الأمير سلطان الى الديار قراراً انقاذياً لنفوذ عائلته في الدولة، رغم أنه عاد بعد أن دخلت الحرب على الحوثيين في اليمن شهرها الثاني (أي ديسمبر 2009)، ولكّنه جاء لاستكمال خطة بسط نفوذ على المنطقة التي كان الأمير سلطان يسعى لنزعها من شقيقه الأمير نايف.

لم يطق وزير الداخلية طريقة أخيه الأمير سلطان ولا أبنائه، ولكنه شعر بأنه يخسر منطقة نفوذ بمثابة منجم هائل من الذهب، ولكنه أراد إثبات بأنه مازال يمسك بملف الأمن ومكافحة الإرهاب، وألا يمكن ضبط الأوضاع الأمنية في الداخل سوى من خلال رجال وزارة الداخلية، وكل ذلك يأتي بعد أن خسر حرس الحدود دوره الأمني.

البيان.. أسئلة بلا إجابات

البيان الأخير الصادر عن وزارة الداخلية السعودية في 24 مارس الماضي حمل أسئلة تتعلق بالحجم، وبالتوقيت، وبالأهداف. ولذلك باتت الأسئلة الدائمة هي:

ـ هل بيانات وزارة الداخلية حول اكتشاف مخططات إرهابية ذات طبيعة (سياسية) أم (أمنية)؟

ـ هل يجب أن تخضع لقراءة أمنية محضة، أم لابد من ادراجها في سياق أكبر، محلي وإقليمي ودولي؟ خصوصاً وأن الرياض كانت للتو قد انتهت من احتضان مؤتمر حول مكافحة الإرهاب؟

ـ هل للتوقيت دور في مثل هذه الاكتشافات، خصوصاً وأن العملية استغرقت خمسة أشهر بحسب تصريحات الناطق بإسم وزارة الداخلية السعودية اللواء منصور التركي؟

هذه الأسئلة وغيرها تبدو محورية لناحية فهم أبعاد مثل هذه البيانات التي تقدّم معطيات رقمية كبيرة، ومعلومات مفتوحة على مدى زمني طويل.

بالنسبة للسؤال الأول، فإن بيانات وزارة الداخلية دائماً ما تلمح إلى شيء أقرب الى السياسة منه إلى الأمن، بدليل أن البيانات لا تقدّم شرحاً تفصيلياً لمواجهات أمنية جرت قريباً ولا تتحدّث عن أسماء المعتقلين، ولا طبيعة العمليات العسكرية ولا أماكن وقوعها. كل ماجاء في البيان، كما في البيانات السابقة، يضيء على أرقام كبيرة (115 عضو في تنظيم القاعدة نصفهم سعوديون)، وعناوين مفزعة (تفجير منشآت نفطية وحيوية، واغتيال رجال أمن). ويكاد يتكرر هذان المعطيان في بيانات الداخلية منذ إحباط محاولة تفجير سيارتين مفخختين في منطقة بقيق الصناعية في فبراير 2006.

في قراءة لبيانات وزارة الداخلية بعد ذلك نجد المعطيات تتكرر وفي كل الأحوال النتيجة هي فشل المحاولات: إعتقال عدد كبير من المعتقلين على مدى عدة شهور، محاولة تفجير منشآت نفطية وحيوية واغتيال رجال أمن.

في تحليل هذه البيانات، يظهر لأول وهلة رغبة وزير الداخلية الدائمة في التأكيد على محورية الأمن ودوره في حفظ الدولة، حتى باتت البيانات جزءً جوهرياً من تظهير وجوده المركزي.

العدد الكبير من المتورطين في هذا المخطط يثير أسئلة حول جدوى برنامج المناصحة الذي يهدف إلى استيعاب الضالعين في العمل الارهابي..هشاشة الوضع الأمني ملمح آخر يكشف عنه بيان وزارة الداخلية الذي يسمح بدخول هذا العدد الكبير وكميات كبيرة من الذخيرة

قد يبدو السؤال الكبير هنا لماذا تصمت فروع شبكة القاعدة عن اعتقالات أفرادها رغم أن عمليات الإعتقال تتم بحسب أغلب بيانات وزارة الداخلية السعودية على مدى عدة أشهر، ما يجعل إمكانية التعرّف على أنباء الإعتقالات سهلاً، فضلاً عن صدور بيانات إدانة من فروع هذه التنظيمات. قد يثار سؤال هنا بأن الطبيعة السريّة لهذا التنظيم هو ما يدفعه للتكّتم على مثل هذه الاعتقالات، لأسباب وجيهة منها عدم تقديم مستمسك لأجهزة الأمن بارتباط المعتقلين بالتنظيم، وأيضاً المحافظة على الخلايا الأخرى، وثالثاً أن التنظيم يدرك سلفاً بأن لا مكان له في المناخ المفتوح، فليس هناك من سيدافع عن معتقليه أو يتعاطف معهم، بل إن دفاعه عنهم أو تبنيّه لهم قد يجلب أضراراً فادحة بهم.

كل تلك الأسباب معروفة ويمكن إدراكها وتفهّم خلفياتها، ولكن ما لا يمكن تصديقه بالضرورة أن اعتقالات بهذا الحجم الهائل تجري بعيداً عن الرصد من أية جهة، حتى من عوائل المعتقلين الذين لم يتسرّب خبر منهم عن اعتقال أبنائهم، مهما بلغت سريّة التنظيم وانقطاع الاتصال بين أعضائه وذويهم، ولا ننسى أن كثيراً من المعتقلين موجودون في الداخل بحسب نص بيان وزارة الداخلية، فكيف حدث ذلك بعيداً عن المقرّبين منهم نسباً أو سبباً؟!

ما يلفت أيضاً أن التركيز على اعتراض قوات الأمن خليتين على ارتباط مباشر بالتنظيم الضال (القاعدة) الذي اتخذ من أرض اليمن منطلقا لتنفيذ عملياته الإجرامية، نقد غير مباشر للقوات المسلّحة المرابطة على الحدود والتي يقودها الأمير خالد بن سلطان، من أن الدور الذي يقوم به الجيش لم يكن بحال أحسن من دور حرس الحدود، بل إن دعوى منع المتسللين التي كان يحملها الأمير خالد بن سلطان الى الملك عبد الله من أجل تعزيز المرابطة وتخصيص الأموال الطائلة من الموازنة العامة، قد ثبت زيفها، حسب جماعة الأمير نايف، فمازال التسلل عبر الحدود الجنوبية قائماً، بدليل العناصر التي وقعت في قبضة رجال الداخلية.

الطريف في الأمر هو تجاوز بيان وزارة الداخلية لتجربة القوات المسلحة على الحدود منذ نوفمبر 2009، وربط المنجز الأمني الجديد بأحداث سابقة جرى في منطقة جازان في أكتوبر 2009، حيث اعتقلت الداخلية سعوديين ويمنيين كانوا يخططون لشن هجمات داخل المملكة.

الفقرة المثيرة للإهتمام تكمن في الهدف من الإعلان عن تلك المعلومات حيث يرجع البيان ذلك الى (رغبة منها في إحاطة المواطنين الكرام وزوار البلد الأمين بما يخطط له أصحاب الفكر المنحرف من استهداف بلد المقدسات ومنهجه القائم على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم خدمة لمخططات خارجية). وقد تبدو العبارة كلاسيكية لا تحمل دلالة محدّدة، وقد يصبح مألوفاً زيادة الجرعة الدينية في البيان، ولكن الجديد في الأمر هو الفقرة الأخيرة (خدمة لمخططات خارجية)، فهل باتت (لعبة الأمم) الخيار الأخير أمام القوى المتصارعة في الداخل كيما تبرر إخفاقها في المسألة الأمنية كما في المسألة العسكرية (فقد أرجع الأمير خالد بن سلطان طول الحرب مع الحوثيين إلى دعم دول إقليمية ولابد أن تكون إيران إحداها)، ولا يستبعد أن يستعمل الأمير نايف ذات اللهجة فتصبح إيران في صميم المخططات الخارجية كيما تستدرج عطف الداخل ودعم الخارج ومال الدولة.

الصفحة السابقة