لقاء الرياض و(شعب الله المختار)!

لعنة الخصوصية تطارد الحوار الوطني

عبد الوهاب فقي

يبدو أن هاجس الخصوصية تحوّل هو الآخر الى خصوصية أخرى في سوق التداول الثقافي على المدى البعيد. وحدها مملكة آل سعود ما يلحظ فيها المرء ضراوة الإستعمال المفرط وغير المبرر أحياناً لمفهوم الخصوصية التي يفترض أن تكون من مخلّفات الماضي السحيق. ولكن شأن الكيانات المؤدلجة والمعاندة لحركة التغيير، تتحوّل الخصوصية إلى أم العقد والعقبات في مسار الانتقال الى مرحلة تكون فيها الدولة قادرة على هضم شروط التحوّل العصري المتسارع.

فرض العقل الرسمي مفهوماً محدّداً، وفي الغالب سلبياً، للخصوصية، سيما حين وضع في سياق الممانعة للإصلاح السياسي. كانت النتائج وخيمة، لأن الخصوصية التي أريد لها تبرير الإصلاح التدرّجي أفضى إلى عطالة تامة، فقد توقّف الحديث عن الخصوصية فور توقّف نوايا الإصلاح، ما جعل للخصوصية وظيفة أخرى تعطيلية وليست تفسيرية، فالذين غمروا الفضاء الثقافي والإعلامي بكميّة هائلة من النظريات حول الخصوصية لم يدركوا في لحظة ما أنهم قد تحوّلوا إلى جزء من قوات مكافحة التغيير في البلاد. قلة من رفضت الإنضواء في لعبة ساخرة كهذه، لاعتقادها بأن الخصوصية غدت شمّاعة النظام لتعطيل الاستحقاق التاريخي والثقافي والسياسي للدولة. شعرت هذه القلّة بأن ثمة من يريد توظيف إمكانياتها الثقافية والإعلامية لمجابهة إرادة التغيير في المجتمع والدولة تحت ذريعة الخصوصية.

حين تثار مسألة الخصوصية تستدعي معها الهوية، التي تطرح في ظل تنامي تيار العولمة. لا ريب أن هناك من يهجس بالهوية الخاصة سياسية أو إيديولوجية أو حتى إجتماعية بما يبرر التعاطي بحذر مع منتجات العولمة، وقد يسوّغ تصعيد الخصوصية كمصدر حماية. ولكن ما لا يمكن قبوله أن ثمة في هواجس أولئك ما يستوجب الرفض، لأن التوسّل بالخصوصية لحفاظ الهوية ينطوي على مناهضة للإصلاح، وهنا على وجه التحديد تنفتح كوّة تتسلل منها فايروسات أهل الحكم لتعطيل الإصلاح.

في اللقاء الفكري الأخير الذي نظّمه مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني بالرياض في الأول من يونيو الجاري، وبالرغم من فقدانه البريق السابق، شارك 70 مثقفاً وعالماً من الجنسين لمناقشة مسألة الخطاب الثقافي تحت عنوان (الهوية والعولمة في الخطاب الثقافي). ودارت جلسات اللقاء حول أربع محاور: خصوصية المجتمع السعودي، المواطنة في الخطاب الثقافي السعودي، العولمة في الخطاب الثقافي السعودي، مستقبل الخطاب الثقافي السعودي.

وكما في كل اللقاءات السابقة تقريباً، كانت هواجس الدولة حاضرة بضراوة، وكأن المشاركين مندوبون في مهمة إسعافية لإصلاح أعطاب طالت البنى السياسية والثقافية والإجتماعية بما يهدد مصير الكيان. وحين يبدأ الكلام عن الخصوصية وعن مجتمع سعودي نكون أمام حفلة تكاذب حيث تفتتح الجلسات على قلق ثقافي لتختتم على توفير اطئنانات كاذبة، بأن كل شيء تحت السيطرة، وأن لا خوف من العولمة على المستقبل.

تركّزت كلمات المشاركين على موضوع مستقبل الخطاب الثقافي وتأثيرات العولمة، وكان التعامل مع ظاهرة العولمة التي أقرّ عدد كبير من المشاركين بأنها باتت واقعاً لا مفرّ منه من منطلق دفاعي، ولذلك وضعت الخصوصية الثقافية والاجتماعية كعنصر ردعي للحد من التساهل مع الظاهرة هذه. نائب رئيس اللجنة الرئاسة بالمركز الدكتور راشد الشريف، عبّر في افتتاح الجلسة الثالثة للقاء عن هواجس أهل الحكم أكثر ما عبّر عن تطلعات الجمهور، ولذلك أسهب في استعلان المخاوف وليس الآمال المعقودة على ظاهرة العولمة، فقال (أن العولمة أصبحت ظاهرة عالمية، وأن مجتمعنا له خصوصيته التي يحرص عليها ضمن ثوابته الوطنية، وهي العقيدة الإسلامية، والوحدة الوطنية، والمرجعية السياسية للبلاد). ليس من بين العناصر التي وردت في كلمة الشريف ما يعبّر عن خطاب ثقافي حقيقي، ولذلك لم تكن كلمة تأسيسية بأي حال، وهذا ما كشفت عنه كلمات المشاركين الآخرين من بينهم الدكتور منية القاسم التي تحدّثت عن خطاب ثقافي يكون متواشجاً مع المتغيرات الكونية، وقالت (يجب أن ندرك أننا لا نعيش بمعزل عن العالم)، ولكّن القاسم لم تتخلَّ عن هاجس الهوية الثقافية، التي وضعت في إطار حمائي.

الكلمات اللاحقة بقيت متحفّظة في التعاطي مع خطاب ثقافي يستعين بالعولمة على تطويره وترسيخه، فقد اعتبرت نورة الشارخ العولمة ظاهرة تاريخية وإن الجديد فيها هو آلياتها الحديثة، فيما صعّدت وفاء العمر من خطورة العولمة الثقافية باعتبارها ظاهرة سيطرة، وأن التقدّم التكنولوجي في بعده الإتصالي يمنح ما وصفته (الآخر) قدرة على الهيمنة الثقافية في ظل ضعف حضور الخطاب الثقافي المحلي.

قد تكون مقاربة الدكتور عيسى الغيث مختلفة إلى حد ما، وربما كانت الخاتمة اللافتة في الجلسة الثالثة. فقد حدّد الغيث المشكلة في سلطة الجماهير التي تؤثّر في الخطاب الثقافي وتدفع بالمثقفين للسكوت والتوقّف عن المبادرة. مشكّلة أخرى أضاء الغيث عليها تتمثّل في ما أسماه (فوبيا العولمة والتغريب والمواطنة عند بعض المبالغين بالأميّة).

بدت ريم الباني نمطية في موضوع غير نمطي، حين ركّزت في كلمتها على دور الإسرة في تشكيل هوية الخطاب الثقافي، وفي صون الهوية لمواجهة العولمة، على أساس أن الأخيرة تحمل مخاطر ثقافية تهدّد كينونة الأسرة وقيمها، ولابد من (التشديد على أهمية دور الأسرة القيادي لمواجهة رياح العولمة والتغريب العاتية..).

أما الدكتور علي الخشيبان فبدا واثقاً الى حد ما في صوغ خطاب ثقافي محلي متماسك ومتين دون الإنحباس في هواجس العولمة، وقال أن الوقت لا يزال مؤاتياً لإدارة علاقة الخطاب الثقافي السعودي بمهنية واحترافية، مؤكّداً على (أن العولمة تعني الشراكة مع العالم..). وقد يبدو هذا الرأي نابعاً من نزعة تحرّرية من قيود وهواجس ثقافية وإيديولوجية محلية، إلى جانب الثقة المبالغة الى حد ما في إمكانية عقد شراكة مع العولمة، بحيث يكون التأثير متبادلاً وليس في اتجاه واحد. وهو على وجه التحديد ما أرادت الدكتورة دلال الحربي البناء عليه في كلمتها حين أكّدت على (أن العولمة ليست شارعاً باتجاه واحد، وأن المجتمع المحلي لديه فرصة جيدة لطرح ثقافته وهويته على العالم، والاستفادة من مظاهر العولمة).

إنفردت الجلسة الرابعة التي ترأسها فيصل بن عبد الرحمن بن معمر، الأمين العام للمركز، بالحديث عن مستقبل الخطاب الثقافي السعودي من خلال الإضاءة على مفاهيم (الخصوصية، المواطنة، العولمة). جاءت مداخلة طارق المبارك مطرّزة بشحنة فزع من خلال التركيز على الدور السلبي للإنترنت الذي قال عنه بأنه (أصبح يهدد مستقبل الخطاب الثقافي ودور المثقف..)، كونه أصبح مصدراً أساسياً في تشكيل وعي النشء. المبارك بدا أشدّ وضوحاً حين نعى سلطة النخب الثقافية التي صادرها مارد الإنترنت وقال بأن الشباب (يجدون فيه فرصة لطرح أفكارهم بكل حرية وبعيداً عن سلطة النخب الثقافية). بخلاف المبارك، بدا هزّاع العبدلي متسامحاً في التعامل مع المنجزات الإنسانية بل طالب بالاستفادة من تجارب الآخرين، رغم انه لم يتحرر من نمطية المحذور الثقافي/السياسي (عدم التعارض مع الثوابت الوطنية والدينية). أدرك محمد المشوح رسالة العبدلي فتفتّقت ذهنية المحذور عن اقتراح بإعداد (مدوّنة) لتكون بمثابة دليل إرشادي لتشكيل وتوجيه الخطاب الثقافي المحلي، وأنحى باللائمة على وسائل الإعلام التي قال بأنها (تمارس حالياً دوراً مبتوراً في صياغة الخطاب الثقافي)، رغم مايمكن أن يثيره هذا الرأي من جدال طويل حول مفهوم الخطاب الثقافي بدرجة أساسية، خصوصاً وأن ما تظهره كلمات المشاركين أن ليس هناك معنى محدداً لمفردة الخطاب، وما إذا كان يعنى به خطاباً ثقافياً بمواصفات محدّدة يراد تعميمه محلياً أم يعنى به خطاباً ثقافياً يراد تصديره للخارج، ولكن ما هو أهم من ذلك كله هو من يصوغ الخطاب الثقافي، وهل سيمثّل السكّان بكل أطيافهم، أم سيمثّل فئة محدّدة هي الأقرب الى الطبقة السياسية، وإذا كان كذلك، فإن الحديث عن الخصوصية والمواطنة لكونهما هاجسين يبدو صحيحا، لأن من يشعر بالتهديد هو الأولى بالحديث عن مخاطر العولمة، ولكن الأغلبية الساحقة التي لم تشعر بهاجس الخصوصية لا تشعر بالضرورة بتهديد العولمة، مالم تصل إلى حد التظافر مع مصادر محلية لتؤول الى تهديد مصالحها وحقوقها.

هناك بطبيعة الحال من تنبّه إلى خطورة الاستعمال المفرط لمفهوم الخصوصية التي تحوّلت الى ما يشبه (التعويذة)، التي تستعملها الطبقة السياسية للخلاص من قدر الإصلاح الذي بات ساكناً في ثقافة الجمهور، ويفرض نفسه كخيار لا بديل عنه. بالنسبة لمشاركين آخرين أن الخصوصية تحوّلت الى ما يشبه لعنة تلاحقهم، ولابد من التحرّر منها لأنّها من جهة أوحت الى الآخرين بأن ثمة نفحة ملائكية قد مسّت هذا المجتمع فجعلته متميّزاً عن بقية شعوب العالم، ولكّنها على الأرض حرمته من أبسط حقوقه الآدمية ومنها حق الإختيار الحر كما الاعتناق الحر، ولم يعد قادراً حتى على تقرير من يحكمه وكيف يحكمه، بحجة هذه الخصوصية الملعونة.

ما هو لافت في كلمات المشاركين والمشاركات وكذلك المداخلات، أن مفهوم (الخصوصية) جثم بشدّة على جلسات اللقاء، وهذا يعكس الى أي حد شكّل هذا المفهوم قلقاً ثقافياً لفرط تداوله طيلة سنين من التجاذب الثقافي وخصوصاً خلال ذروة الحراك الإصلاحي في عامي 2003 ـ 2004. ما أراد أمين عام المركز فيصل بن معمر في الجلسة الثانية من اللقاء حول انصراف أغلب المشاركين والمشاركات الى البحث في مفردة الخصوصية كمفهوم وميكانيزم مستقلين عن الخطاب الثقافي، لم يكن غائباً عن أذهان الحاضرين، ولكن ثمة فرصة عثروا عليها لإخراج المكبوت الثقافي منذ طرح هذه (الخصوصية) قبل سنوات، ولحظوا نتائجها المفجعة أمام أعينهم، فقد تلطّى الأمراء الكبار وراء هذا المفهوم فعطّلوا العملية الإصلاحية برمّتها، ولذلك أراد المشاركون والمشاركات البوح بما أضمروه لسنوات من ردود، وحان الزمان والمكان لكي يعبّروا في إطار رسمي (مركز الحوار) ما كانوا يخشون التعبير عنه في زمان ومكان سابقين.

لأولئك الذي يراهنون على الخصوصية لحفظ مكانتهم ودورهم ووظيفتهم، لاشك بأنهم سيقاتلون بأسنانهم وأظافرهم من أجل الدفاع عن الخصوصية، وسيحسبونها الضمانة الأكيدة لبقائهم على قيد التميّز والفرادة الوظيفية والمادية، ولذلك لم يتردد البعض في إعادة سرد مصادر الخصوصية: وجود الحرمين الشريفين، والمنهج الفقهي الذي تسير عليه البلاد. هذه الخصوصية التي تعكس صورة فئة خاصة أيضاً، على الأقل في المصدر الثاني حصراً من هذه الخصوصية. ذهب آخر بعيداً في تصوير الخصوصية في بعدها الإجتماعي حين قال بأن (السعودية هي البلد الأوحد الذي لا توجد فيه أماكن تمارس فيها المحرمات..)، خصوصية حقاً تلك التي تطبّق المبدأ الساخر (النظيف هو من لا يقع في نهاية المطاف في قبضة الشرطة). مكابرة تعزّزت لدى وفاء العمر التي أصرّت على الخصوصية السعودية حين قالت بأن (خصوصيتنا فرضها الواقع وهي خصوصية التميز شاء من شاء وأبى من أبى..)، ماهو هذا التميّز؟.

على العكس من ذلك، دعا الشيخ فيصل العوامي إلى تخفيض مستوى التنظير في الخصوصية خشية أن تتحوّل الأخيرة إلى حالة صنمية أو جدار يحول دون التواصل مع الآخرين، وحسب قوله (هناك تخوّف من الحديث عن الخصوصية فيرتبط بالإنغلاق، فنحن لا نملك حضارة خاصة وليس لنا موروث خاص)، وقال بتواضع أن المجتمع (مايزال بحاجة إلى التطوير والتلاقي مع الآخر). وفي تطبيق أنثوي اعتبرت فاطمة القاسم أن الخصوصية المشدودة لخطاب مؤدلج هي المسؤولة عن إقصاء المرأة، وتحويلها الى ما وصفته (قرباناً) للتشدد، الذي ظهر في قضايا مثل منع الإختلاط، ومنع قيادة المرأة للسيارة..حظيت القاسم بدعم لافت من زميلتها نوري القحطاني التي طالبت بخطاب يؤسّس للحرية وليس للإنغلاق، وأن الخصوصية هي مصدر فكر انهزامي، وطالبت بالخروج من (متاهة الخصوصية إلى خصوصة تحافظ على القيم الثقافية والدينية، فالخصوصية عطّلت مشاريع تنموية كثيرة لدينا)، فيما اعتبرت عزيزة المانع الخصوصية بأنه تكاد تصبح (ديناّ آخر إلى جانب الدين الإسلامي). وفي حالة إنكار متواصلة أثارت زينب غاصب سؤالاً عمن اخترع الخصوصية، وقالت أن وجود الحرمين الشريفين ليست خصوصية بل هو تشريف من الله، ومضت في تفيند آراء الخصوصيين (نحن لسنا شعب الله المختار..)، فيما اعتبرت فوزية البكر هذه الخصوصية بأنها عبء كبير.

الصفحة السابقة