كتاب عالقون في المؤخرة!

المرأة والابتذال الإعلامي السعودي

فريد أيهم

أن تصنع أجندة إعلامية في مملكة آل سعود، فذاك أمر لا يحتاج إلى أكثر من (إثارة) تستدرج طيفاً من ردود الأفعال، وإذا ما قرّرت سلفاً مصادمة الرأي العام المحلي أو الخارجي، فذاك يعني أنك نجحت في اكتساب المزيد من (الزبائن ـ القرّاء).

مقالات عدد من كتّاب الحكومة السعودية تريد أن توحي للقارىء المحلي أو الأجنبي، أن البلاد باتت تتمتّع بهامش كبير من الحرية الإعلامية، وتنعم بشفافية قد تفتقر إليها دول ديمقراطية عريقة.. فقائمة (التابوات) تتقلّص، بحسب إيحاءات هذا الفريق من الكتّاب، وأن القلم بات متحرّراً إلى الحد الذي يجعله قادراً على تسييل قناعات محظورة سابقاً، وإخراج المكبوت منذ عقود.

ولكن ما يدعو للغرابة غالباً، أن هؤلاء الكتّاب يصابون بعمى الألوان، أو بالأحرى يعيشون مرحلة متأخرة عن النقطة التي وصل إليها وعي القرّاء، فيعتقدون بأنهم يقودون قاطرة التغيير، والحال أنهم عالقون في مؤخرة آخر مقطورة. فوتيرة التغيير في مستويات الوعي لم تعد تنتظر مماحكات طفولية لا تهدف إلى أكثر من كبح جماح الوعي للحيلولة دون انتقاله إلى مرحلة الفعل.

موضوعات محلية بلغت درجة عالية من السخونة بإرادة غير شعبية، لكونها تعبيرات أو قل تمظهرات لأزمة الدولة السعودية التي تعيش على جدالات رثّة (كما تعكسها بعض مقالات هذا العدد). فالمشاغلات الثقافية التي تندلع بين فترة وأخرى، لا تنطوي على رغبة في إشراك الرأي العام في تنضيج الوعي بالتغييرات المأمولة، بقدر ما هي محاولات لاختطاف إرادة التغيير من الناس، ووضع المزيد من المكابح على حركة الشارع الذي بات متأهّباً للدخول في مرحلة متقدّمة في التغيير تفوق قدرة استيعاب الحكومة. هناك سعي دؤوب من أجل اعتلاء سنام حركة التغيير، لناحية ضبط إيقاعها والسيطرة عليها قبل خروجها عن إرادة الحكومة، وهنا يمكن إدراك طبيعة الموضوعات التي تثار في صحف الحكومة، ومن أناس يتلبّسون زياً الليبرالية ولكن بشكل قبيح، من أجل التظاهر بأن كل شيء بات قابلاً للفحص والنقد.

موضوع قيادة المرأة للسيارة، الذي تنفرد فيه دولة آل سعود دون غيرها من دول العالم والذي يبعث على السخرية من كل أطياف الدنيا، يصبح تناوله في الإعلام شجاعة غير مسبوقة من قبل كتّاب السلّطة. وللمرء تخيّل حجم الفجوة التي تفصل بين هذا البلد ودول العالم قاطبة، حين نقرأ مشاغبة طفولية بين كتّاب يتبادلون قذف حفنة مكوّمة من التراب، فكاتب يقول المرأة لن تقود السيارة، فيردّ عليه آخر بل ستقود، ويستجيب ثالث بشرح الأسباب، لتعيش الساحة المحلية جولة من المشاغلة الثقافية الهابطة، بانتظار مشاغلة أخرى تبقيها تحت وطأة مراوحات إعلامية مجذومة.

في مقالة عبد الرحمن الراشد (لن تقود المرأة السيارة في السعودية!) التي نشرت في صحيفة (الشرق الأوسط) في 26 مايو الماضي ثمة ما يثير الشفقة. بدأ المقالة بحكم براءة للحكومة السعودية من أي مسؤولية لها في قرار حظر قيادة المرأة السيارة، وقرّر بملء إرادته، وإرادة ما معروفة، أن المرأة لن تجلس (خلف المقود قريباً).

ورغم إقراره بأن الحظر يعتبر خطئاً، فإنه يخرج الحكومة من دائرة المسؤولية، ويرى بأن ذلك عائد إلى عدم وجود (قبول شعبي واسع جداً للفكرة)، ويلزم وضع خطّين تحت (جداً) هذه لأن الرجل لابد أن يكون قد نظر مليّاً في العبارة، وحين تبيّن له بأن ثمة قبولاً شعبياً واسعاً، شعر بأن الواقع لا يسعفه كثيراً في البرهنة على حجّته، فتطلّب إضافة كلمة أخرى مساعدة. يتوضّح الأمر تدريجاً حين يربط قرار الرفض بأمرين: التمترس الرسمي والتبليغ الديني والإجتماعي. إذن هنا تكمن الإجابة، وتتكشّف حقيقة (جداً) هذه، فالقضية برّمتها مرتبطة بمنطقة جغرافية، وبفئة إجتماعية وكلها تنحصر في نجد وفي المؤسسة الدينية الوهابية، ولا شأن للأغلبية الساحقة بقرار الحظر.

ما يحاول الراشد تفاديه، هو وضع النقاط على الحروف، فالتعميم أسهل في الهروب من المسؤولية، خصوصاً في قضايا يمكن بسهولة بالغة تحديد الجهات الضالعة فيها. يزعم الراشد بأن من الصعوبة بمكان على الآخرين خارج السعودية (أن يستوعبوا أنه يوجد رفض واسع بين الرجال والنساء لقيادة المرأة للسيارة)، ولا ندري من أين جاء بهذه النتيجة، رغم أن هناك أموراً كثيرة مرفوضة رفضاً واسعاً ولم تكترث بها الحكومة السعودية، ومتى كانت الأخيرة تتوقف عند رفض أو قبول الناس لتقرير ما هو صحيح وما هو خطأ، فهل استئثار آل سعود بالسلطة والثروة مقبول قبولاً واسعاً، وهل وجود (هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) بكل اقترافاتها مقبول قبولاً واسعاً، وهل الفساد المالي والإداري، وترّدي الخدمات العامة (الصحة والتعليم)، وتكفير الكتّاب والصحافيين، وسرقة الأراضي العامة، ومصادرة الحقوق والحريات وغيرها تحظى بقبول واسع. إذا لم يكن يحظى كل ذلك بقبول واسع، فهل قبول السكّان هو مرتكز لقرارات الحكومة، ومنذ متى كان ذلك، أم أن الأمر على علاقة حصرياً بطبيعة التحالف بين المؤسستين السياسية والدينية؟.

الموضوعية المفتعلة فرضت على الراشد أن يحجم عن تقديم نتائج قاطعة، فهو يتوقّف بين فترة وأخرى ليجعل كل نتيجة مشروطة بأمر، فإن قال بأن الحكومة ليست هي مصدر الحظر، يعقب ذلك بأن هذا الحظر ليس ثابتاً حتى الآن، وإن قال بأن الرفض شعبي أقرّ بحقيقة (عدم وجود استطلاعات توضّح أين يقف الرأي العام المحلي).

مقاربة الراشد تحوم حول السؤال القديم: من يعلّق الجرس؟ فهو حين يسقط المراهنة على اقتناع الحكومة بإنهاء الحظر، والتي يعتبرها مراهنة غير ذكيّة، بل يعتبر أن رفع الحظر يندرج في قائمة (المغامرات)، ولذلك هو يراهن على اتّساع قاعدة التأييد الشعبي كيما تستجيب الحكومة لقرار رفع الحظر على قيادة المرأة للسيارة، على غرار أمور أخرى من بينها (الصحون اللاقطة ـ الدش)، أو كاميرات الهواتف الجوّالة، التي رغم الحظر المنصوص، يتمّ تداولها بعد أن أصبحت واقعاً وفرضت على الحكومة التعامل معها باعتبارها من المباحات. يبدو أن الراشد اختار هذه الأمثلة للنجاة من الوقوع في المحظور، ولعله أخفق في استيعاب الأبعاد الأخرى، لأن إقرار معادلة من هذا القبيل قد يؤول إلى سقوط الدولة نفسها، التي تستجيب لإرادة الشارع بما يجعلها فاقدة للسيادة، ولإرادة الحكم، أو بتعبير غرامشي للهيمنة التي تجعل منها قوة ضبط علوية.

يفترض الراشد بأن الحكومة حائرة بين مؤيّد ورافض ومشكك وقلق من موضوع قيادة المرأة للسيارة، وليتها تسلك هذا السبيل دائماً، ولكن حقيقة الأمر غير ذلك. ينقل عن الأمير نايف وزير الداخلية والنائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء في إحدى جلسات مجلس الوزراء في نهاية السعبينات قوله بأنه لن تقود المرأة السيارة طيلة بقائه على قيد الحياة.

التفلسف الديمقراطي لدى الراشد يبعث حقاً على الإزدراء، خصوصاً في موضوع تافه مثل (قيادة المرأة للسيارة)، فقد استعار من مبادىء الديمقراطية ما يثير الضحك لإثبات القضية، فهو يريد تأييداً شعبياً كبيراً للمرأة كيما تقود السيارة. ويشرح ذلك (وعندما نقول "تأييد شعبي" لا نعني به المفهوم الديمقراطي، أي الأغلبية البسيطة، النصف زائد واحد، بل المطلوب غالبية ساحقة). في بلد لا يعرف معنى الديمقراطية، ولم يمارسها قط، يراد في هذا الموضوع حصراً تطبيق مفهوم ديمقراطي (الأغلبية الساحقة). فالموضوع لا يستحق كل هذا العناء من الفذلكات المثيرة للسخرية، وثانياً هذا الأمر اختياري فمن شاءت أن تقود السيارة فلتفعل، وإن لم تشأ فلها الخيار، فهذا حق وليس واجباً. ييدو إغراق الراشد في الحديث عن أغلبية ساحقة وقياس الرأي العام ممّلاً ولا صلة له بالموضوع، اللهّم إلا كونه محاولة لإخراجه في شكل ديمقراطي، رغم أن موضوعاً كهذا لا يستأهل كل هذا التنظير الحداثوي المقرف.

زبدة مقالة الراشد تلخّصت في السطرين الأخيرين بإفصاحه عن قناعته بأن الرأي العام المحلي وحده القادر على تحويل قيادة المرأة للسيارة أمراً واقعاً، من أجل إرغام الحكومة على إقراره، وهذا ينطوي على دعوة مفتوحة على التمرّد نتمنى أن تقود إلى أشكال تمرّد أخرى.

لم يتأخر مشاري الذايدي طويلاً في الإسهاب والمراكمة، فكتب مقالاً بعنوان (ستقود السيارة) في نفس الصحيفة في 28 مايو الماضي، فقد اعتبر مقالة الراشد مفتتحاً لنقاش حي في الداخل. اقتفى الذايدي خطى أقدام صديقه في تبرئة ذمة الحكومة من حظر قيادة المرأة للسيارة، وأضاف الى المناقشة الديمقراطية مبدأ الإجماع الوطني، الذي يغيب في كل هموم الناس السياسية والإقتصادية والثقافية، ولكنه يحضر بكثافة في هذا الموضوع على وجه الخصوص.

مرافعة الراشد في الدفاع عن الحكومة، لم ترق كثيراً للذايدي، ولذلك وجد نفسه (على غير العادة) حسب قوله، في حالة تفارق مع مقاربة الراشد، في الإتكّال على المساندة الشعبية لقرارات الحكومة. وتساءل، بصدق، عن كيفية إجراء قياس دقيق و(علمي) ونزيه للرأي العام، وعقّب على ذلك بأسئلة أخرى مماثلة، حول هوية الرأي العام، وكيفية بنائه، ومن هم المعبّرون عنه. وأورد أمثلة على الفئة المعارضة لكل تغيير: (هل هم فئة معروفة بنشاطها الدائم والمحفوظ إزاء كل تغيّر لا يعجبهم في السعودية من فتح مدارس في عهد الملكين سعود وفيصل، إلى فتح التلفزيون، إلى دمج رئاسة تعليم البنات بوزارة التربية والتعليم، إلى اقتناء أطباق البث الفضائي). يبدو واضحاً من كلام الذايدي أن الجهة الرافضة للتغيير ليست مجهولة، وهي وحدها المهجوسة بمسألة حظر قيادة المرأة للسيارة، وهي من تقود حملة التهويل الإجتماعي والديني، وهي جهة لا تمثّل سوى أقلية صغيرة، في مقابل أغلبية شعبية ساحقة تراودها أحلام كثيرة بما فيها حلم رفع حظر قيادة المرأة للسيارة، وصولاً الى تطبيق مبدأ الانتخابات، وتداول السلطة، والفصل بين السلطات، وإقرار دستور فاعل وملزم، والحد من صلاحيات الملك والأمراء.

يبدو الذايدي أشد تركيزاً على نقطة الخلاف الجوهرية، فهو يدرك بأن من عارض تعليم البنات وفتح المدارس هو من يعارض قيادة المرأة للسيارة، أي هي نفس المؤسسة الدينية الوهابية التي تحظى برعاية العائلة المالكة، ولا شأن للأغلبية الساحقة بهذا الأمر، فهي تجاذبات لم تدخل فيها الأغلبية بل بقيت محصورة بين أفراد الأقلية سياسياً ودينياً. ومع ذلك، فإن الذايدي يخالف الراشد في رؤيته للرأي العام المحلي، الذي تطوّر كثيراً عن فترات سابقة، وأن الرأي العام المعني بهذا الأمر ليس بالضرورة من يحدّده الراشد، بل هو الناس في كل اتجاهات الرياح في هذا البلد.

يختلف الذايدي أيضاً في الجواب عن سؤال: من يعلّق الجرس؟ ويرى بأن الحكومة، في العالم الإسلامي حصراً، وليس الجمهور هي من تقع عليها مسؤولية اتخاذ القرارات، التي لا تنظر الى الثقافة العامة. وهنا يبدو الذايدي متوافقاً في النتيجة مع الراشد من حيث اعتبار الحكومة بريئة من أخطاء الجمهور، وعليها أن تتجاوز إرادة الجمهور لناحية الإرتقاء بوعيه. وليس الجمهور هنا سوى المؤسسة الدينية وتياره المتشدّد، كما أن الحكومة ليست بريئة من الحظر، لأنها قبلت به وأقرّته لأنه جزء من التزامات متبادلة مع حليفها، دع عنك الإعتبارات السياسية في هذا الشأن.

مقال آخر في هذا السياق للكاتب أشرق إحسان فقيه بعنوان (لهذا لن تقود المرأة السيارة السعودية؟) في صحيفة (الوطن) في 1 يونيو الجاري، إعتبرها المسألة (الرمز) رغم أنها ليست المسألة الأهم. توقّف فقيه عند عبارتي (الإرادة الشعبية) و(التغيير) ليبني عليهما نقاشاً جاداً حول مفاعيلما في الواقع، لأن الكلام عن الإرادة الشعبية ورأي المواطن يجرّ لصلب المسألة (لأنه يبدو من المستحيل أن تتحصل على قراءة حقيقية لرأي المواطن السعودي. ليست هناك آلية عادلة لتحصيل رأي الجمهور. ليس هناك إحصاءات رسمية معلنة)، حسب قوله. وهذا يوصل الى نتيجة مفادها أن رأي الجمهور غير معروف، وبالتالي فإن البحث في حجم التأييد وحجم الرفض متعذّر بالضرورة.

يرصد فقيه تطوّر الموقف من قيادة المرأة للسيارة: (في البداية كان هناك رأي شرعي قائل بالحرمانية.. ثم سقطت هذه الفتوى بعينها وبقي باب سد الذريعـة. بعد ذلك تمّ التمترس بالرأي السـياسي والنظامي قبل أن تثار المسـألة قبل خمسة أعوام تحت قبة الشورى. واتضح أنه لا النظام الرسمي يحدد جنساً لقائد المركبة، ولا صانع القرار عنده إشكالية.. وتم تعليق المسألة أخيراً في رقبة العرف الاجتماعي). وعند العرف مربط القرار الرسمي، حسب فقيه، والذي يفتح أفق النقاش على مفهوم العيب بطبيعته المواربة والضبابية، حيث يعيد إحياء مفهوم الخصوصية، ويجعله شمّاعة لسلسلة حظورات تبقي الحياة ساكنة حد الجمود.

يلخّص فقيه مسألة حظر قيادة المرأة للسيارة في بعدين أمني وتربوي، بما يقفل الباب لأمد غير معلوم، لأنه يفترض (خطة طويلة بطول سور الصين.. خطة رسمية تقوم عليها أجهزة الدولة المعنية بالأمن والتعليم والإعلام لخلق مواطن أكثر مثالية وتحضراً)، ليخلص إلى نتيجة نهائية بأن المسألة مسألة حكومية بامتياز.

مقاربات الراشد والذايدي وفقيه تبدو متقاربة في تبرئة الحكومة وتحميل المسؤولية للناس، وأن الحكومة وحدها من تستطيع حل المشكلة بتطوير وعي الناس وهي وحدها من يقرر متى تسمح ومتى تحظر..وإذا كان الحل يتوقف على خطة رسمية بطول سور الصين، فابشر بطول سلامة يا مربع.

الصفحة السابقة