هل تقطع السياسة رقبة العدالة؟

السعودي فيصل أكبر واغتيال الحريري

عبدالحميد قدس

قبل أكثر من عامين أورد تقرير للجنة التحقيق الدولية الخاصة باغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري معطيات حول هوية المنفّذ المباشر لعملية الاغتيال. وكان أعضاء من اللجنة زاروا منقطة قريبة من الطائف لرفع عيّنات بهدف تحليلها، كما أشار تقرير اللجنة آنذاك الى سحنة ولون بشرة الإنتحاري، ومدة إقامته في المنطقة القريبة من مسرح العملية، ولكن فجأة وبدون سابق توضيح أسدل الستار على هذا المشهد ولم تصدر توضيحات سواء من قبل رئيس لجنة التحقيق الدولية القاضي البلجيكي سيرج برامرتز أو القاضي الحالي بلمار أو رئيس المحكمة الخاصة بلبنان القاضي انطونيو كاسيزي.

وفي 7 مارس الماضي صرّح رئيس المحكمة الخاصة بلبنان القاضي كاسيزي أن التحقيق في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري أحرز (تقدّماً ملموساً)، ولفت إلى (شبكة محددة) نفذت عملية الاغتيال بالتعاون مع (مجموعة أكبر). وتحدث كاسيزي عن (عناصر ترابط) بين اغتيال الحريري والاغتيالات الأخرى التي شهدها لبنان خصوصاً بين العامين 2005 و2007، موضّحاً أن المحكمة تمكّنت من (حصر الأصل الجغرافي) للإنتحاري الذي نفّذ اغتيال الحريري.

وقال القاضي الإيطالي في التقرير السنوي للمحكمة الخاصة بلبنان المكلّفة بمحاكمة الضالعين في اغتيال الحريري، والذي نشر في 6 مارس الماضي على الموقع الالكتروني للمحكمة، إن (مكتب المدعي العام حقق تقدماً ملموساً في تحضير القضية التي سوف تقدم مرتكبي الجريمة إلى العدالة. وتحقق ذلك على الرغم من انضباط من يقفون وراء الاعتداء وتطورهم الواضحين).

وعرض في تقريره الذي تسلّم نسخة منه كل من الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون ورئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري، مؤشرات تتّصل بالتقدّم الذي أحرزه التحقيق، وأبرزها (زيادة الاقتناع في أن مرتكبي الاعتداء هم الذين استخدموا الشبكة المحددة، والحصول على معلومات إضافية لتأييد واقعة أن مرتكبي الاعتداء نفذوه بالإشتراك مع مجموعة أكبر).

هذه الفقرة المطلقة والمفتوحة على أطراف عدّة يمكن أن توجّه لها أصابع الإتهام، تمّ تقييدها بفقرة أخرى وهي (الاقتراب من تحديد هوية الانتحاري المشتبه به من خلال حصر أصله الجغرافي، وإعادة بناء ملامح وجهه جزئياً، ومواصلة التوسّع في التدقيق في الأدلّة المتّصلة بعناصر الترابط بين الإعتداء على الحريري والاعتداءات الأخرى). وهذه العبارة ذات الدلالة البالغة تومىء الى حقائق خطيرة وكبيرة لأن الحديث عن الأصل الجغرافي وملامح الوجه يفتح أفق البحث عن مرتكبي الإعتداء بالإشتراك مع مجموعة أكبر. لابد من التذكير هنا بما ظهر من معطيات خلال السنوات الماضية سواء بضلوع بعض الجماعات المرتبطة بتنظيم القاعدة في اغتيالات داخلية، ودور تنظيم (فتح الإسلام) في دوامة الاغتيالات والتفجيرات بما فيها عملية (عين علق) ضد عناصر من الجيش اللبناني.

قصة مجموعة الـ (13)

بدأت تفاصيل قصة مجموعة الـ (13) مع نشر إفادات شخص سعودي حمل إسم (فيصل أكبر)، من رأس تنورة بالمنطقة الشرقية. وكنا قد أشرنا حين نشرت اعترافات المدعو فيصل أكبر بأن الإسم قد يكون هو الآخر وهمياً، وأن عملية تزوير وثائق قد تكون جرت لإخفاء الهوية الحقيقية للشخص السعودي. قد تكون مهمة أعضاء لجنة التحقيق في العام 2007 برفع عينات من منطقة (ظلم) القريبة من الطائف تكشف عن الأصل الجغرافي لفيصل أكبر.

القاضي بلمار: سعودة العدالة

ما تلفت إليه إفادات فيصل أكبر أنها سبقت النتائج التي توصل الى معرفتها المحققون بمدة تصل إلى أربعة أشهر، ولكنه تراجع عن اعترافاته، دون أسباب معلنة ما أثار تساؤلات جمّة حول الدافع وراء تراجعه، والجهة التي أرغمته على فعل ذلك، والأهم من ذلك كله لماذا أهملت اللجنة افاداته، وانصرفت للاشتغال على خطوط تحقيق لا توصل، بالضرورة، إلى الحقيقة، أو على الأقل لا تنطوي على دلائل قوّية تشير الى ضلوع هذه الجهة أو تلك في الجريمة.

السعودي المدعو فيصل أكبر (أوقف في نهاية عام 2005) أقرّ بأنه شارك في التنفيذ المباشر للجريمة، ضمن خلية تبين أن لها صلات تنظيمية وفكرية مع تنظيم (القاعدة). خضع لجولات تحقيق منتظمة مع فرع المعلومات، وصدر بحقه قرار إتهامي ونشرت الصحف اللبنانية محضر التحقيق بعد صدور القرار الاتهامي بحققه وذلك في أكتوبر 2007. من هنا بدأت قصة مجموعة الـ13 التي ينتمي إليها فيصل أكبر وقد أوقف أفرادها خلال الأيام الأخيرة من عام 2005 والأيام الأولى من عام 2006. وبحسب محاضر التحقيق مع أفراد المجموعة، فإن أميرها، اللبناني حسن نبعة، كان يشغل موقع (أمير تنظيم القاعدة في بلاد الشام)، أي في لبنان وسوريا، وكان على صلة مباشرة بأمير التنظيم في العراق، أبو مصعب الزرقاوي.

من الجدير بالذكر أن السياق الذي تمّ فيه توقيف المجموعة كان بحث القوى الأمنية اللبنانية عن أحمد أبو عدس، الشاب الذي تبنى في شريط مصوّر عملية اغتيال الرئيس رفيق الحريري بعد ساعات قليلة على وقوع الجريمة يوم 14 فبراير 2005، ولم يظهر له أثر منذ ذلك الحين. وبحسب محاضر التحقيقات مع أفراد المجموعة، فإن بعض أفراد المجموعة يعرفون أبو عدس (يلّقب بأبي تراب) معرفة وثيقة، فيما تربط بعضهم صلة قوية بخالد طه، مفتاح سر أبو عدس في الاغتيال وهو في الوقت ذاته صديقه وتلميذه. وكان خالد طه قد دخل قبل نحو شهر من وقوع الجريمة الى الأراضي اللبنانية وتحديدا (15 يناير 2005) قادماً من دمشق، عاد خالد طه إلى سوريا، واختفى أبو عدس.

فيصل أكبر هو من كشف سر المجموعة، بدءً بأميرها حسن نبعة الذي تمّ توقيفه من طريق الصدفة. وتعود قصة توقيفه الى مطاردة محققي فرع المعلومات لأحد أفراد المجموعة المدعو طارق الناصر، عندما كان يتصل من هاتف عمومي قرب صيدلية في منطقة كورنيش المزرعة وسط العاصمة اللبنانية. تنبّه المحققون أثناء المراقبة إلى وجود شخص يقف على مسافة قريبة نسبياً من كشك الهاتف. وعندما باغتت الدورية طارق الناصر، إتّجه أحد المحققين صوب الرجل المجهول (أي نبعة) وأوقفه، قبل أن يصل رئيس الدورية ليسأله عما يفعله في هذا المكان. فأجاب نبعة بأنه في طريقه إلى منزله. وقدّم هوية مزوّرة تحمل إسماً لبنانياً بمهنة مهندس، تبين لاحقاً أنه قتل في العراق. وبعد تفتيشه، عثر بحوزته على بخاخ من الغاز، وادعى بأنه يستخدمه للدفاع عن النفس، ولكن المحققّين تنبّهوا الى أن مصدر الانتاج هو قوات حلف شمالي الأطلسي، فصدر قرار بايقافه واقتيد إلى مقر فرع المعلومات. وفي مركز التوقيف وضعت صورته على الحائط بما يتيح لبقية الموقوفين رؤيتها أثناء التحقيق. وعندما شاهد فيصل أكبر صورته تفاجأ وقال: الأمير هنا؟ عندها تنبه المحققون إلى أن الموقوف ليس سوى أمير هذه المجموعة، وهو اللبناني حسن نبعة، قبل أن تتكشف تفاصيل كثيرة تخص هويته ودوره وموقعه.

ابو عدس

رغم أن بطلي قصة مجموعة الـ 13 هما أحمد أبو عدس وخالد طه باعتبارهما العنصرين الناشطين في الخلية، وكانت لهما أدوار رئيسية خلال فترة عملية تنفيذ الاغتيال، وأن خالد طه انتقل نهاية عام 2005 من سوريا الى لبنان، بعد أن قامت المخابرات السورية بملاحقة عناصر تنظيم القاعدة في سوريا، وأن عدداً من عناصر مجموعة الـ 13 ساعدوا خالد طه على التواري عن الأنظار في مخيم عين الحلوة شرقي مدينة صيدا، نقول رغم ذلك كله إلا أن إفادة فيصل أكبر تبدو هي مفتاح الحقيقة الذي جرى اخفاؤه في لحظة ما لأسباب تبدو في السياسة معروفة ولكنها مجهولة من الناحية القضائية.

تكشف إفادة فيصل أكبر أمام محققي فرع المعلومات بأنه كان أحد أفراد المجموعة التي اغتالت الحريري، والتي كان يرأسها جميل السوري، نائب أمير تنظيم القاعدة في بلاد الشام (يتولى أيضاً منصب المسؤول الأمني للتنظيم). هذه الحقيقة العارية مالبث أن ارتدت أردية داكنة تاهت فيها حقائق كثيرة، فقد أظهرت محاضر التحقيق وعلى نحو عاجل أن فيصل تراجع عن إفادته، مدعياً أنه كذب في كل ما قاله، رغم أنه ذكر معلومات لا يعرفها غير المحققين، إضافة إلى بعض الوقائع التي لم يكن المحققون أنفسهم قد توصلوا إليها حينذاك.

وكانت صحف لبنانية نقلت عن مصادر مقربة من فرع المعلومات رواية تفصيلية لما جرى في إحدى غرف التحقيق. وتقول الرواية إن محققي فرع المعلومات، عندما كانوا يستجوبون أفراد مجموعة الـ13 (ابتداءً من يوم 3/1/2006، المحضر الرقم 17/302) أوهموا فيصل أكبر بأن خالد طه صار في قبضتهم. تضيف الرواية إن فيصل انهار وقال للمحققين: سأخبركم بكل شيء.

كان في غرفة التحقيق ستة عاملين في فرع المعلومات، ثلاثة ضباط وثلاثة رتباء. روى فيصل أكبر وعلى وجه السرعة الرواية كاملة. تحدّث عن عملية اغتيال الحريري والإعداد لها. قال إنه استقبل أحمد أبو عدس وخالد طه في دمشق يوم 18/1/2005 (بعد يومين على اختفاء أبو عدس)، وإن الفيلم الذي تبنى فيه أبو عدس عملية التفجير صُوِّر في إحدى الشقق التي يستخدمها تنظيم القاعدة في حي ركن الدين بدمشق. حدّد شقة في الضاحية الجنوبية لبيروت (المريجة) استُخدمت خلال الإعداد للجريمة. قال إنه رافق جميل (نائب أمير تنظيم القاعدة في بلاد الشام) يوم اغتيال الحريري إلى منطقة عين المريسة، حيث كان جميل يتلقى اتصالات من فريق مراقبة مكوّن من 5 أشخاص. أضف إلى ذلك أن محاضر التحقيق تنقل عن فيصل قوله إن شاحنة الميتسوبيشي التي فخخت وفجرت بموكب الحريري اشتُريت من منطقة شمال لبنان.

عند الخامسة فجراً من اليوم التالي لبداية التحقيق، كان الرجل قد أنهى الرواية كاملة. خرج إثنان من الرتباء إلى منطقة الضاحية الجنوبية لبيروت، ليُحضروا (السودة ـ أي الكبدة ـ النية) من المسلخ الذي يقع أول برج البراجنة (نزلة العاملية) بالقرب من مطار بيروت الدولي. بعد عودتهما، جلس الرتباء الثلاثة والضباط الثلاثة ليتناولوا الطعام داخل الغرفة التي يجلس فيها فيصل أكبر. دعا أحد الرتباء النقيب وسام عيد لمشاركتهم تناول الطعام. لكن عيد خرج من الغرفة. لحق به الرتيب قائلاً: لماذا غضبتَ سيدي؟ ألا تريد تناول الطعام معنا؟ أجابه عيد: (كلا، لقد قرفت منه. هل تريدني أن أتناول الطعام مع من قتل الرئيس الشهيد؟)

فيصل أكبر لم يأكل. يكاد يكون أكل اللحم النيء محرماً بالنسبة إليه. لكنه قال للمحققين: الآن فهمت ماذا كان يعني قول زبائن أبو أحمد (صاحب مطعم صغير في منطقة كورنيش المزرعة): نريد سندويش رجالي!

كان التحقيق الأولي قد انتهى. اتصل وسام عيد بأحد الأشخاص، ثم عاد وقال لأحد الرتباء: حُلت مشكلتك. اشترينا لك شقة. فُتح نقاش بين الرتباء والنقيب عيد، عن أحقية كل منهم بالحصول على مكافأة. كان الحديث في إطار المزاح، لكنه لم يخل من الجدية، وخلاصته أن جميع الموجودين في غرفة التحقيق مقتنعون بأنهم تمكنوا من كشف جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري.

وسام الحسن: إبعاد التحقيق عن السعودية

كان الأمنيون بانتظار وصول رئيس الفرع، الرائد سمير شحادة، من أجل أن يتصل الأخير بالقاضي سعيد ميرزا لنيل إذنه بالتوجه إلى الضاحية الجنوبية بهدف تحديد الشقة التي ذكرها فيصل. عندما حضر سمير شحادة، أبلغه المحققون بتفاصيل ما جرى. سريعاً، بدأت الحركة تتغير داخل مبنى فرع المعلومات. حضر وسام الحسن وتوجه إلى مكتب سمير شحادة. وبعد قليل أُدخِل فيصل أكبر إلى المكتب ذاته. دام اجتماع شحادة والحسن بفيصل أكثر من 6 ساعات، أحضروا خلالها الطعام من أحد المطاعم البيروتية الشهيرة. لم يعرف أحد ماذا دار خلال تلك المدة بين الضابطين والموقوف. لكن ما جرى بعد ذلك يخلّف وراءه أسئلة من دون أي جواب مقنع. فبعد خروج وسام الحسن من مبنى فرع المعلومات، أرسل سمير شحادة خلف عدد من المحققين قائلاً لهم: فيصل يريد التراجع عن إفادته. أسقط في أيدي رجال الأمن الذين قضوا الليلة السابقة مقتنعين بأنهم أمسكوا بالخيط الأول الذي سيوصلهم إلى كشف من قتلوا الرئيس رفيق الحريري. فإفادة فيصل لا تزال في بدايتها. ورغم ما تحويه من ثغر كبيرة لا بد من توضيحها، يبقى فيها من المتانة ما يمكن الاستناد إليه لفتح مسارات تحقيقية جدية.

سأل أحد المحققين الموقوفَ، بحضور شحادة، قائلاً: لماذا ستتراجع؟ رد فيصل: أُخِذت أقوالي مني تحت الضغط. وعبارة (تحت الضغط) توقف عندها عدد من الحاضرين. فهي لا يستخدمها عادة الموقوفون، بل يستخدمها رجال الأمن والتحقيق اللبنانيون.

تراجع فيصل أكبر عن اعترافاته

دار نقاش طويل بين فيصل والمحققين، ولكن فيصل أصرّ على التراجع عن كل إفاداته، وبذلك أخفق المحققون في التوصل الى تحديد مكان أحمد أبو عدس، أو الحصول على معلومات ذات قيمة حوله وحول المجموعة بكاملها. أما خالد طه، فكل ما عُرِف بشأنه أنه توارى عن الأنظار في مخيم عين الحلوة خلال الشهر الأخير من عام 2005.

وبعد تراجع أكبر عن اعترافه بالمشاركة في اغتيال الحريري، ترك أمام المحققين باباً مفتوحاً لم يحسنوا استغلاله. قال لهم، بحسب محضر التحقيق، إنه سمع أميره حسن نبعة يوصي عدداً من أفراد المجموعة بألا يبوحوا بمعلومات عن أحمد أبو عدس إذا أوقفتهم القوى الأمنية.

ثمة أكثر من رأي لتبرير ما جرى. المقربون من فيصل أكبر، وعلى رأسهم حسن نبعة الموجود في سجن رومية، يقولون إن فيصل لم يعترف، ولم يتراجع، بل إن المحققين الذين عرّضوه لأبشع أنواع التعذيب الجسدي والنفسي، هم الذين دوّنوا كلاماً لم يقله، ثم دونوا كلاماً مناقضاً، وأجبروه على توقيع المحضر. وعندما يُسألون عن السبب، يجيبون بالقول: نحن لا نعرف الدافع الحقيقي لذلك، بل لدينا تحليل يدلنا على ثلاثة أسباب. ربما هي رغبة المحقق في تسجيل إنجاز، وربما هو تأثره المذهبي بما يجري في العراق (يقصدون الملازم أول ر. ف.). وقد تكون ثمة رغبة في إحدى الدوائر بتقديم أوراق للمساومة، وإبقاء ملف التحقيق مع مجموعة الـ13 جاهزاً لتقديمه ككبش فداء في أي لحظة تصل فيها الصفقة السياسية إلى خاتمتها.

هذه خلاصة رواية المجموعة. أما في المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي وفرع المعلومات، فالمسؤولون الذين كانوا مشرفين على التحقيق (وخاصة اللواء أشرف ريفي والعقيد وسام الحسن) يؤكدون أن فيصل لم يتعرض لأي ضغط أو تعذيب، سواء خلال الاعتراف أو عند التراجع. ويقول المعني الأول بهذا الملف إن فيصل أكبر اعترف باغتيال الحريري لتضليل التحقيق، وكان (يريد إلهاء المحققين بهذا الحدث الكبير للتهرب من الإجابة عن أسئلة عن عمل تنظيمه). لكن أيعقل أن يعترف إنسان ما باقتراف جريمة بهذا القدر من الخطورة لتضليل التحقيق؟ يجيب المسؤول ذاته: نعم، هكذا هم جماعة تنظيم القاعدة.

ثم يعطي المسؤول دليلاً على كلامه بالقول: عندما اعترف الرجل واتصل سمير شحادة بوسام الحسن ليخبره بتطورات التحقيق، قال له الحسن: دوّنوا الإفادة. وفي الصباح، حضر وسام الحسن إلى مبنى فرع المعلومات ليقابل شحادة. وفور وصوله، أخبره شحادة بأن فيصل تراجع، فقال له وسام الحسن: دوّنوا الإفادة. وينفي الحسن أن يكون قد التقى فيصل أكبر في ذلك الصباح. يضيف المسؤول: كان بإمكاننا، لو كانت لدينا نية سيئة، أن نتجاهل الإفادة الأولى وألا ندونها. لكننا دوّناها رغم معرفتنا بأنها ستتحول إلى إفادة علنية بعد إحالتها على القضاء.

القاضي سعد ميرزا

إلا أن تبرير المشرفين على التحقيق تنقضه التفاصيل التي أوردها فيصل أكبر في إفاداته، والمطابقة لمضمون التحقيقات الدولية والمحلية باغتيال الحريري، مثل تاريخ دخول خالد طه إلى لبنان وعودته إلى سوريا وتاريخ اختفاء أحمد أبو عدس وتفاصيل التفجير، إضافة إلى عدد الهواتف الخلوية التي يعتقد أن المجموعة التي اغتالت الحريري استخدمتها خلال مراقبته حتى الدقائق الأخيرة السابقة لاغتياله. فمن أين استقى فيصل هذه المعلومات التي تطابق ما هو وارد في التحقيقات الأولية بجريمة اغتيال الحريري؟ يقول المشرفون على التحقيق في فرع المعلومات إن التفاصيل التي أوردها فيصل في إفادته مستقاة بكاملها من التقريرين الصادرين عن لجنة التحقيق (الأول والثاني) اللذين كانا قد نُشرا قبل توقيفه. يضيف هؤلاء إن حاسوب فيصل أكبر يحوي نسخة عن كل واحد من التقريرين. ويقول الأمنيون ذاتهم إن فيصل أكبر، عندما استمعت إليه لجنة التحقيق الدولية بعد أكثر من عام على التحقيق معه في فرع المعلومات، لم يتعرف إلى الصور التي عرضها عليه المحققون الدوليون، والتي تظهر فيها شوارع تحدّث عنها وربطها بجريمة اغتيال الحريري، كأحد شوارع منطقة ركن الدين في دمشق. ويلفت أحد الأمنيين اللبنانيين المعنيين بالتحقيق مع فيصل أكبر قائلاً: عندما أنهى المحققون الدوليون استجواب فيصل، قال لهم ضاحكاً: هل صدقتم أنتم أيضاً ما قلته في التحقيق عن المعلومات؟

ولكن ثمة مصادفات عجيبة تكشف عنها رواية فيصل أكبر والتي تثير أسئلة كبرى حول الدافع من وراء تراجعه. فثمة في رواية المعنيين في فرع المعلومات تجد من يفندها ويرد عليها بسهولة. يقول أحد المعنيين بالتحقيق: في البداية، لم تكن دائرة القرار عند آل الحريري وفي فرع المعلومات قادرة على تجاهل تدوين الإفادة، وخاصة أن اعتراف فيصل جرى بحضور ستة محققين، بينهم أمنيون غير مأموني الجانب، من الناحية السياسية على الأقل.

وما يقوله المشرفون على التحقيق مع فيصل أكبر تعتريه ثُغر عدة، أبرزها اثنتان. الأولى أن ثمة في رواياته (مصادفات) غريبة، لناحية تزامن بعض المحطات في إفادته مع التوقيت الذي ظهر في بيانات الهواتف الخلوية التي استخدمها مراقبو تحركات الحريري. وفي إفادته، قال فيصل أكبر إن مجموعة المراقبة مؤلفة من خمسة أشخاص، وإنهم كانوا يتواصلون مع جميل، مساعد أمير تنظيم القاعدة في بلاد الشام الذي كان فيصل يرافقه يوم الجريمة. وعندما سئل فيصل عن عدد الهواتف الخلوية المستخدمة، قال إنها سبعة: خمسة للمراقبين، وسادس مع جميل والسابع في حوزته هو (فيصل). وقال فيصل إن جميل كان يتلقى الاتصالات من المراقبين. ولم يذكر ورود اتصالات إليه هو (فيصل) من مجموعة رصد الحريري. بل أكد أن جميل أوصاه بعدم الاتصال به إلا في الحالات الطارئة. نتيجة لذلك، يصبح عدد الأرقام الهاتفية التي تحدث عنها فيصل مطابقة للعدد الحقيقي الذي استخدم لمراقبة الحريري حتى يوم اغتياله. فرغم أن لجنة التحقيق الدولية تحدثت في تقريريها الأول والثاني عن استخدام 8 هواتف خلوية لمراقبة الحريري، فإن التحقيقات التي أجرتها مديرية استخبارات الجيش وفرع المعلومات (قبل لجنة التحقيق الدولية) أظهرت أن المجموعة التي يعتقد أنها راقبت الحريري استخدمت 8 خطوط خلوية هي: 03129893 ـــــ 03129678 ــــــ 03129652 ـــــــ 03127946 ـــــــ 03125636 ـــــــــ 03123741 ــــــ 03478662 ــــــ و03292572.

وتظهر التحقيقات ذاتها أن الرقمين الأخيرين لم يستخدما إلا لإجراء 13 اتصالاً من أصل 432 اتصالاً أجراها أفراد المجموعة في ما بينهم وبخدمة التشغيل في شركة ألفا. ويعتقد الأمنيون الذين عملوا في هذا المسار التحقيقي أن الرقمين الإضافيين أُبقيا احتياطاً، وخاصة أنهما لم يستخدما مطلقاً خلال الأسابيع الثلاثة السابقة لاغتيال الحريري.

ما ذكر عن إفادة فيصل بخصوص عدد الخطوط الخلوية هيّن وضعه في خانة المصادفات. وتزداد المصادفة غرابة عندما يتحدث عن الوقت الذي ترك فيه، مع جميل وخالد طه وأحمد أبو عدس، شقة الضاحية الجنوبية. فهو يقول إنهم عادوا للنوم بعدما صلّوا الفجر، واستيقظوا عند العاشرة صباحاً، وخرجوا لتنفيذ العملية. هذا في إفادته. أما بيانات الاتصالات، فتظهر أن أول اتصال أجرته المجموعة التي يعتقد أنها كانت تراقب الحريري صباح اغتياله، جرى عند الساعة 11:00:55 قبل الظهر، من منطقة تشملها محطة إرسال في شارع كاراكاس.

الحريري الإبن أضاع دم الحريري الأب

ذلك كله، يضعه المشرفون على التحقيق في خانة المصادفات. إلا أن ما لا يجدون جواباً له هو المعلومات التي أدلى بها فيصل، رغم أن المحققين أنفسهم كانوا يجهلونها، ولم يتمكنوا من الحصول عليها إلا بعد مضي أربعة أشهر على ختم التحقيق معه، كقصة شاحنة الميتسوبيشي التي استخدمت في اغتيال الحريري. فطوال عام 2005، والثلث الأول من عام 2006، لم يكن لدى فريق التحقيق اللبناني أو الدولي أي معلومات عن الشاحنة سوى أنها سرقت من اليابان في تشرين الأول 2004. ولم يتمكن المحققون من تحديد المسار الدقيق الذي سلكته قبل إدخالها الأراضي اللبنانية، ولا كيفية عبورها الحدود.

لكن فيصل أكبر، في الشهر الأول من عام 2006، قال خلال التحقيق معه لدى فرع المعلومات إن جميل أخبره بأن الشاحنة اشتُريت من طرابلس! وبعدما تراجع عن اعترافه، أُهمل هذا الجانب من إفادته، وخاصة أن الفكرة التي كانت تسري كحقيقة مطلقة بين المحققين هي أن الشاحنة أدخلت إلى لبنان بطريقة غير مشروعة. كان على المحققين أن ينتظروا حتى يوم 24 نيسان 2006 حتى تثبت لهم الوقائع أن ما قاله فيصل أكبر بشأن الميتسوبيشي صحيح. ففي ذلك التاريخ، نظم فرع المعلومات محضراً ظهر فيه أن الشاحنة دخلت لبنان براً محمولة على مقطورة كبيرة، مع شاحنة أخرى. وقد استقدمت من الإمارات العربية المتحدة براً عبر السعودية ثم الأردن فسوريا، واستقرت في معرض للسيارات قرب طرابلس، حيث اشتُريت بطريقة شرعية، لكن باستخدام أوراق ثبوتية مزورة. وهذه الحقيقة لم تظهر إلى العلن إلا عندما أعلنتها لجنة التحقيق الدولية بعد أكثر من عام، أي في التقرير الثامن الصادر يوم 12 تموز 2007 (الفقرة 24).

وبعيداً عن التحليل والاستنتاج، ثمة ثغرة في التحقيق باغتيال الحريري، مرتبطة بإفادة فيصل أكبر، لا تجد من يسدها. فصحيح أن لجنة التحقيق الدولية إستمعت إلى إفادات عدد من أفراد مجموعة الـ13. وقد استدعي بعضهم لنحو ست مرات، فيما اكتفى المحققون الدوليون باستجواب أحد أبرز أفراد المجموعة مرتين اثنتين فقط، مدة كل واحدة منهما ساعتان، بينها الوقت الذي استهلكه الشاب في الوضوء والصلاة. كل ذلك يمكن تبريره. لكن ما لا يمكن أن تعثر على تفسير منطقي له، هو أن لجنة التحقيق الدولية والمحكمة الدوليّة من بعدها، لم تستمعا إلى أي من المحققين الستة الذين استجوبوا فيصل أكبر، والذين شهدوا تراجعه، لمعرفة ملابسات ما جرى خلال التحقيق معه. كذلك، فإنها لم تستمع إلى إفادة كل من سمير شحادة أو وسام الحسن.

رسالة إلى خالد طه بتسليم نفسه..عدم تسليم!

خلال التحقيق مع فيصل أكبر، لجأ فرع المعلومات إلى خطوة شديدة الغرابة. فبناءً على أوامر قيادة الفرع، طلب أحد المحققين من الموقوف هاني الشنطي كتابة رسالة إلى خالد طه يطلب منه فيها تسليم نفسه إلى القوى الأمنية اللبنانية! وقد سُمح للموقوف بنشر هذه الرسالة على موقع (الحسبة) الإلكتروني، الذي كان يعدّ في تلك المرحلة أحد المنابر التي يستخدمها تنظيم القاعدة لإعلان إنجازاته. الرسالة التي يذكر فيها الشنطي أحمد أبو عدس (مستخدماً لقبه، أي أبو تراب) بقيت منشورة لأيام عدة قبل أن يحذفها المشرفون على الموقع.

في تلك الرسالة، يقول هاني الشنطي (اسمه الأمني مروان المهاجر):

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحابته الأخيار، أما بعد، فهذه يا أخي الحبيب خالد طه رسالة من أخيك مروان المهاجر (هاني)، أطلب فيها أن تسلم نفسك للسلطات، لا على أنك متهم، بل لتجيب عن بعض الملابسات والمساءلات التي تخص موضوع أبي تراب. فهم لا يريدون منك تراجعاً عن فكرة ومنهاج وتوجه تعتقده وتقتنع به، فأنا بحمد الله على فكري ثابت. فالأمر بإذن الله هين وسهل، ولا داعي لتعقيده. فالاستمرار على إصرارك على عدم تسليم نفسك يمثّل تعقيداً للموضوع واتهاماً لك على أنك تخفي شيئاً ولا تريد إظهاره. ولا تستهن بأي معلومة قد تعلمها تجعلك متهماً، لكن هي في الحقيقة قد تكون خيطاً يدل على المجرم الحقيقي، وخيطاً يدل على براءتك من تهم تكون قد ظنت بك بسبب إصرارك على عدم المجيء والإدلاء بشهادتك، وهذا ما تمنيت لو أني فعلته. فلو أني جئت وأدليت بما أعلمه وما اختفيت لما أصبحت الآن موقوفاً ومتهماً بأني أخفي معلومات والله يشهد أني لا أخفي شيئاً، فلا تضع نفسك في هذا الموقف المحرج، فلا تتأخر ولا لحظة وسارع بالأمر، فالأمر هيّن فلا تعقّده كما كان يوماً من الأيام هيناً عليّ وعقّدته بسبب تشبثي كما أنت اليوم متشبث، لكن مع الفارق وهو أن الأوان لم يفتك، فهلمّ وأرح إخوانك أراحك الله دنيا وآخرة، ولا تظن بذلك أني أطلب ما يتناقض مع ما تآخينا عليه من الجهاد وحب الشهادة، فالله وحده يشهد كم تتوق نفسي إلى ساحات الجهاد ونيل الشهادة ورضوان الله، وإنما كلامي على أمر لا يناقض الشريعة، فالصحابة عندما هاجروا إلى الحبشة وقفوا وأجابوا بكل صراحة عن معتقدهم وما يدينون به، وبرأوا أنفسهم من الاتهامات فاستخر الله عز وجل ولا تستصعب الأمر، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أخوك المحب ورفيق عمرك مروان المهاجر

ملاحظة: أطلب من مشرفي المنتديات تثبيت الموضوع، وعدم حذفه وإني سائلهم أمام الله على إيصال هذه الرسالة وإبقائها حتى تصل إلى أهلها وإني خصيمه يوم الحساب إن حذفها أو ساعد على عدم إيصالها وجزاكم الله خيراً.

الفقير لعفو ربه

مروان المهاجر

(انتهت رسالة هاني الشنطي).

رسالة هاني الشنطي إلى خالد طه، إن دلت على شيء، فإنما تدل على خفة بالتعامل مع هذا الملف، من جانب فرع المعلومات. ويرى أحد الأمنيين المتابعين لقضايا تنظيم القاعدة أن هذه الرسالة، بمجرد وصولها إلى خالد طه، فإنها ستدفعه إلى الحذر، هذا إن لم تكن قد تضمنت رسالة مبطنة له يقول له فيها الشنطي إن فرع المعلومات لا يعرف شيئاً عنه أو عن أحمد أبو عدس.

ويربط الأمني ذاته بين رسالة الشنطي والرسالة التي ضبطت في حوزة حسن نبعة، والموجهة من شقيقه مالك إلى خالد طه. فبعد استدعاء مالك نبعة للتحقيق في تموز 2005، ثم إطلاق سراحه، كتب مالك رسالة إلى خالد طه يقول له فيها إن ما يعرفه المحققون عنه وعن أبو عدس ليس سوى (اجتهادات وظنون). وعندما سئل مالك نبعة خلال التحقيق الثاني معه عن سبب بعثه بهذه الرسالة، قال للمحققين: أردت إقناع خالد طه بالمثول أمامكم!

بين مضبوطات المجموعة، عثر الأمنيون على رسالة موجهة من أبو مصعب الزرقاوي إلى حسن نبعة في منتصف عام 2005، يطلب منه فيها التوجه إلى لبنان، مستخدماً عبارة (اذهب إلى الضيعة). وخلال التحقيق مع بعض أفراد المجموعة، أفادوا بأن الزرقاوي نحّى حسن نبعة عن الإمارة، لأنه غضب منه بسبب الصراع الذي وقع على الأراضي السورية بين المجموعات التابعة لنبعة وتلك التابعة لتنظيم جند الشام (غير التنظيم الموجود في مخيم عين الحلوة)، محملاً إياه المسؤولية عن تقصير المجاهدين. وبناءً على رسالة الزرقاوي، توجه فيصل أكبر في حزيران 2005 إلى العراق لمقابلة أبو مصعب.

عوداً الى سياق التحقيق في اغتيال الحريري، تبين لاستخبارات الجيش اللبناني وتحديداً لوسام عيد والفريق العامل معه، بعد إجراء تحليلات للاتصالات المواكبة لهذا المسار، وجود ثمانية خطوط خلوية تمثّل مجموعة مقفلة (لا تجري اتصالات إلا في ما بينها)، هي ذاتها التي كانت الاستخبارات قد توصلت إليها سابقاً.

نصر الله: المحكمة الدولية مسيّسة

وكرّر فرع المعلومات الخطوات التحقيقية ذاتها التي أنجزتها الاستخبارات. استجوب عشرات الأشخاص، قبل أن يوقف، بناءً على إشارة النيابة العامة التمييزية، أربعة عاملين في تجارة الخلوي، هم رائد فخر الدين وماجد الأخرس وأيمن طربيه ومصطفى مستو. والاثنان الأخيران، أبقيا قيد التوقيف حتى بداية شهر آب عام 2008، من دون مسوّغ قانوني، سوى تضارب إفادتيهما مع إفادة رائد فخر الدين، إذ قال مستو وطربيه إنه هو من اشترى منهما عشرة خطوط خلوية، وإنه هو من باع ثمانية منها للمجموعة التي يعتقد أنها راقبت الحريري حتى لحظة اغتياله. فالتحقيقات التي أجراها فرع المعلومات مع الموقوفين جرت بعد نحو تسعة أشهر على بيع الخطوط، وكانت بعض التفاصيل قد غابت عن ذاكرتهم، وخاصة أنهم قاموا بعملية البيع على نحو اعتيادي، ولم يتوقفوا عند أي من تفاصيلها. وبحسب مسؤولين أمنيين متابعين للقضية، فقد تعرّض عدد من الموقوفين للضرب المبرّح خلال التحقيق معهم.

في النهاية، تبنّت لجنة التحقيق الدولية التنائج التي توصلت إليها مديرية استخبارات الجيش، ثم فرع المعلومات. والأخير، بعدما عجز عن إحداث خرق يمكنه من تحديد هويات أفراد المجموعة التي يعتقد أنها راقبت الحريري، لجأ إلى (حيلة) تحقيقية بُنيت عليها لاحقاً استنتاجات نظرية أدّت إلى نقل التحقيق باغتيال الحريري إلى مسار جديد، ظهر في صحيفة لو فيغارو في آب 2006، قبل صحيفة دير شبيغل بداية عام 2009.

معطيات ظهرت لاحقاً تعزّز من صدقية افادات السعودي فيصل أكبر، منها اغتيال اللواء فرانسوا الحاج في 12 ديسمبر 2007، حيث تبين من التحقيقات ان الشخصين المتّهمين بالتورط في عملية الاغتيال على ارتباط بمجموعة من تنظيم القاعدة وفتح الاسلام في مخيم عين الحلوة.

في المعطيات الأخيرة ما يسترعي الانتباه، فقد ذكر الزعيم الدرزي وليد جنبلاط بحسب صديق الأسرة الجنبلاطية محسن دلول في محاضرة له في أغسطس الماضي بأن جنبلاط (يعرف من كتب تقرير «دير شبيغل» عن تورّط حزب الله في اغتيال الرئيس رفيق الحريري). يقول دلول (وقال، أي جنبلاط، لي: لقد كتب هذا التقرير في بيروت، ونحن ذاهبون إلى كارثة). هذه الكارثة المحتملة لا يمكن تفاديها الا في حال تدخّلت السعودية التي تدرك تماماً هوية من نفّذ جريمة اغتيال الحريري، وأن فيصل أكبر الذي قدّم افادات دقيقة جرى طمسها في وقت لاحق لابد أن يعاد لواجهة التحقيق إن أراد آل الحريري معرفة الحقيقة.

بعد خروج وليد جنبلاط من معسكر 14 آذار، يبدو المشهد مختلفاً الى حد كبير حيث أن جنبلاط يمسك بأوراق قوية في يده، وهو دون شك مطلّع على تفاصيل التحقيق وأسرار المحكمة الدولية، وأن كلامه سيكون فصلاً في حال اقتربت ساعة الصفر في أي مواجهة محتملة على خلفية القرار الظني.

صحيح أن لوليد بيك حسابات اقليمية، إذ إنه، حتى اللحظة، لا يزال، بحسب إبراهيم الأمين يرتبط بعلاقة خاصة مع السعودية، وهو لا يريد خسارة هذه العلاقة لأسباب مختلفة، أبرزها أن الرياض نفسها لم تعاقب جنبلاط على استدارته السياسية، وهي لا تزال تحفظ له مكانة متقدمة عن آخرين، ولو أنها تحاول الإمساك بكامل خيوط اللعبة. وهو يتّكل في هذا المجال على ما يسمّيه هو (الحكمة البدوية) لملك السعودية لكبح اندفاعة الأميركيين في لبنان، ولاحتواء أي دور مصري سلبي في هذا المجال، وخصوصاً أنه يتصرف على أساس أن الحريري نفسه لا يقدر على أيّ استدارة من دون توفير الغطاء له من السعودية. وهو يعتقد بقوة أن الرياض قابلة حتى بتجاوز ملف المحكمة عندما تشعر بأنه سيقضي على كامل نفوذها في لبنان.

ولكن لحزب الله المستهدف حالياً من لجنة التحقيق الدولية ومن فريق 14 آذار ودول الاعتدال جميعاً رأي آخر. وقد نقل فداء عيتاني من صحيفة (الأخبار) في 18 أغسطس الماضي رؤية حزب الله وهواجسه. يقول بأن العقل الجمعي لحزب الله يرى أن الكلام السعودي الذي رافق زيارة الملك عبد الله إلى لبنان غير ذي صدى، ولا يبرر موقف المملكة من ملف حساس كالمحكمة الدولية في جريمة اغتيال رفيق الحريري، وأن ما أعلنه بعض من رافق الملك أمام شخصيات لبنانية في جلسات جانبية من أن (الأمور أفلتت من أيدينا) في ما يتعلق بالمحكمة الدولية هو طرح غير مقبول، إذ لا يزال العقل السياسي الجمعي لحزب الله وقيادة المقاومة يريان أن المملكة السعودية هي أهم من يمكنه التأثير على المحكمة الدولية، أو على الأقل على آل الشهيد، وعلى رأسهم رئيس الحكومة سعد الحريري، ويمكن السعودية أن تعطي إشارة واضحة ليعمل بها لبنانياً سعد الحريري، لرفض أي قرار يمسّ المقاومة، بحسب التسريبات من داخل المحكمة ومن محيطها.

اتهام من خارج هذا السياق يجب تقويمه سياسياً فقط). أضف إلى أن ذاكرة حزب الله بدأت تنشط، مستعيدة ما أبلغ سعد الحريري الأمين العام للحزب به من أن (الجناة هم مجموعة الـ13، وقد اعترفوا بجريمتهم). وهذه الذاكرة للحزب بدأت تستعيد على دفعات ما سبق أن رصدته وعملت عليه وما يمكن أن يربط بعضه ببعض من معلومات ومعطيات يمكنها أن تؤدي إلى استنتاجات مهمة. وإن كان الموقف المصري، بحسب ما يراه البعض، لا يزال يعمل في مواجهة المملكة في لبنان وفي المنطقة، وخاصة بعدما تحولت المملكة من داعم مالي للمشاريع السياسية، إلى احتلال موقع من يقوم برد فعل سياسي (مع الحفاظ على الإمداد المالي) في لبنان كما في العراق وفلسطين وغيرها من دول النزاع، فإن مصر لا تزال تعمل من ناحية على مواجهة المملكة في دورها الجديد، ومن ناحية أخرى على تجميع أعداء أخصامها ومدّهم بالآمال والدعم المعنوي، فيما تسرّب بعض الأوساط معلومات عن وجود مستشارين عسكريين وأمنيين مصريين في المستشفى العسكري الميداني المصري الذي أُرسل إلى لبنان في مرحلة حرب تموز، وما تلاها من تجنيد لشبان في إطار ميليشيات الشركات الأمنية الخاصة.

وفي انتظار أن يحلّ سعد الحريري وفريقه الضيّق مجموعات الرسائل (البسيطة والمركبة) التي أرسلها له نصر الله في مؤتمره الصحافي، وخاصة لناحية تأثيرات بعض العملاء على فريق الحماية الخاص بوالده، وأسماء الذين كان العملاء يتواصلون معهم من ضمن فريق الحماية الحريري، وأسباب متابعة أمن المقاومة لبعض من في فريق الحريري، وغيرها، فإنه لا بد من الإشارة إلى أن تسريب معلومات عن اختراق إسرائيلي لكوادر من حزب الله كان للإشارة إلى أن إسرائيل قادرة على اختراق المقاومة، ما يعني إمكان أن تنفّذ مجموعة مخترقة عملية اغتيال الحريري دون معرفة قيادة الحزب. ولكن حين دقّقت قيادة المقاومة في الأسماء المتهمة بالتخابر، تبيّن أن الأسماء الثلاثة من قيادات الميدان في المقاومة، وأحدهم في قيادة وحدات الصواريخ، وأن الاختراق في الاتصالات يحصل عبر اختراق هواتفهم تقنياً من قبل الاستخبارات الإسرائيلية، وبالتالي يُتنصّت عليها كأنهم في وضع (كونفرينس).

وفي الخلاصة، فإن ما بعد صدور القرار الاتهامي لن يكون كما قبله، ولكن لن يُسمح باستخدام فتنة سنّية شيعية في الشارع. وفي حال الوصول إلى إصدار القرار، فإن الحكومة لن تكون أكثر من حكومة السرايا، فإما أن الحكومة سترفض، بناءً على طلب سعودي، قرار المحكمة الذي يلمّح أو يشير إلى اتهام حزب الله، وإما أن البلاد ستكون في مكان آخر تماماً.

الصفحة السابقة