ترحيب سعودي بالإنفصال في السودان

انفصال الجنوب وتداعياته على السعودية

محمد قستي

السعوديون هم أول من روج لإنفصال الجنوب السوداني وشجّعوه ووضعوا له تبريراته. إقرأوا مقالات عبدالرحمن الراشد وطارق الحميد في (الشرق الأوسط) وكذا تغطية الصحيفة عن الشأن السوداني، حيث سنجد أنها ـ كما بقية الإعلام السعودي المحلي والخارجي ـ لم تنفك تهاجم السودان وحاكميه منذ سنوات طويلة ولم تتوقف حتى الآن، ولا يبدو أنها ستتوقف إلا بعد أن تصبح دارفور مملكة أو جمهورية هي الأخرى، وهو ما يروّج له الإعلام السعودي أيضاً.

إذا كان السودان قد تمّ تجميعه ليصبح دولة قطرية، فالسعودية في أساسها دولة مختلقة، لم توجد في التاريخ أصلاً، وهي صناعة بريطانية كما يعلم الجميع حيث قضي على دولة الحجاز واحتلالها سعودياً، ومسحت إمارة الأحساء والقطيف المستقلة من الخارطة، واقتطعت اجزاء من الجنوب لتلصق بالدولة النجدية. وللسعودية تشابه كبير مع السودان الذي يشتم السعوديون قادته، ويبررون تمزيقه.

الحقد السعودي أعمى آل سعود وإعلامهم عن حقيقة أن الإنفصال قد يجرّ الى انفصال آخر داخل الدولة نفسها التي انفصلت وقد يشجع آخرين خارج اطار الدولة على طلب الإنفصال (secession leads to a secession).

السعوديون توقعوا منذ مدّة طويلة ان الهدف النهائي هو الإنفصال، وأن السودان سيتقسم لا محالة. آخر ما كتبه الفطحل طارق الحميد! عن السودان كان بعنوان (السودان.. بكاء على اللبن المسكوب) وذلك في 28/9/2010، شتم فيه وزير الخارجية السوداني الذي تساءل: لماذا يعادي الغرب السودان؟ وانبرى الحميد وبالنيابة عن أميركا يعدّد ما فعله حاكم السودان وبالتالي صار من المبرر ان يقوم الغرب بتقسيم السودان. وتابع الحميد فقال: (الانقسام، أو الانفصال، في السودان أمر قادم والكل يعلم ذلك، ليس اليوم، بل منذ أمد؛ فالاستعدادات لذلك قائمة على قدم وساق).. وبعد ان يبين ما يجري، يلوم النظام في السودان الذي لم يبذل جهداً لمنع الإنفصال حسب قوله، وليس الغرب وأتباعه الذين يشجعون الإنفصال وبينهم حكام الرياض، الذين سبق لهم ان حاولوا فصل جنوب اليمن بعد توحده في حرب 1994 كما هو معروف.

الأكثر من ذلك عاب الحميد على وزير الخارجية السوداني حين قال بأن هناك جماعات في اميركا (لاحظ قال ان هناك جماعات): (يريدون التشفي من العرب والمسلمين بتقسيم السودان). واعتبر الحميد ذلك القول بأنه حديث لا يقدم ولا يؤخر. وزاد بأن أبدى أسفه لأن الوزير السوداني تحدث عن مؤامرة أميركية لتقسيم السودان، واعتبر الحميد ذلك (هروباً للأمام كالعادة، ومحاولة لتجاهل حقيقة واقعة). وخلص الحميد الى أن السودان سيتقسم لا محالة: (لا أمل في حلول تحافظ على وحدة السودان، فالشق أكبر من الرقع).

إذا كان التحليل بأن السودان سيتقسم، وهو ما نراه أيضاً، فذلك لأن الغرب استفرد بالسودان ودعمه في ذلك السعوديون بالذات لتمزيقه. ومعلوم أن الرياض اعتادت على دعم جون غارانغ قبل وفاته نكاية بالنظام في الخرطوم. ولا يبدو أن الرياض ستشفي غيظها حتى ولو تقسم السودان الى ثلاث دول، ما لم يسقط البشير ومن معه من كرسي الحكم.

تشابك وانفصال!

عبدالرحمن الراشد له مقالات عديدة هو الآخر في الموضوع السوداني وتقسيمه، وقد كتب مقالاً في (19/7/2010) تحت عنوان (السودان للبيع!) افتتحه بشيء أقسى مما كتبه الحميد. فهذا الأخير قال بأن حاكم السودان لم يفعل ما يجب عليه فعله لمنع تقسيم بلده، أما الراشد فقال بأن البشير باع السودان بالقطعة والمفرد!. يقول الراشد في مطلع مقاله: (أعرف أن الرئيس عمر البشير قد باع نصف السودان عندما وقع اتفاق حق تقرير المصير للجنوب، الذي يعني تلقائيا انفصاله، مهما جمله بألوان وماكياج، مثل الكونفيدرالية والاحتفاظ بالعلاقات الاستثنائية. ومستعد أيضا لبيع ربع أرض السودان، إقليم دارفور، من أجل أن يخرج من قفص الملاحقة الدولية)!

إن حارب البشير انفصاليي الجنوب شتمه السعوديون وإعلامهم لأنه يستخدم القوة والعنف وهذا لا يحل المشكلة.

وإذا ما استخدم السياسة وأوقف الحرب وسعى للشراكة وتقاسم المصالح، قيل له بأنه باع السودان.

وهذا هو دأب آل سعود عامة لا يجدون في سياسة خصومهم شيئاً صحيحاً، ويحمّلون كما هي عادتهم دائماً في السودان وغيره، يحملون الضحايا المسؤولية، وينسون المعتدين الأميركيين والصهاينة وبعض الساسة الغربيين.

والسعوديون لا يؤمنون بنظرية المؤامرة ما دامت تخدم مصالح الغرب، ومادام المبتلى بها خصومهم. أما إذا وجه لهم النقد من الغرب ـ وهو قليل وجاء بعد أحداث سبتمبر ـ فيعتبرون ما يقال ضدهم تعريضاً بالإسلام (هكذا دفعة واحدة!) وأن (الغرب يتآمر على المسلمين) وما أشبه. من شاء فليقرأ أدبيات آل سعود وإعلامهم في مرحلة ما بعد أحداث سبتمبر وكيف تعاملوا مع بعض المقولات التي دعت الى تقسيم السعودية حينها.

الآن يقول لنا الراشد بأن الإنفصال في السودان سببه البشير (الجلاد/ حرفياً). (الجلاد الذي يهرب منه الجنوب والغرب سام كل السودانيين، عربهم وأفارقتهم، سوم العذاب، حتى صار الانفصال بابا للهروب للكثيرين أيضا، من مسلمي غرب السودان، أي دارفور).. أي ان الراشد يدعو الى إنشاء دولة دارفور أيضاً، فتفكيك البلاد هو (خلاص من السلطة).

إذا كان القمع مبررا للإنفصال، وهو كذلك بلا شك، ولكنه ليس العامل الحاسم فقراءة الموضوع بالطريقة السعودية تسطيح كبير. لكن لنقل إن كان القمع هو السبب، فهل يسمح الراشد بتقسيم السعودية، لأن نظامها النجدي البائس المتطرف والمكفراتي والأقلوي يهدد الشعب في الحجاز وفي المنطقة الشرقية وفي الجنوب؟ هل يجوز لمن تعرض للمجازر والقتل والتمييز أن يطالب بالإنفصال عن حكم نجد الطائفي المناطقي؟ نعلم ان أهل الحجاز لا يريدون آل سعود، والشيعة في الشرق لا يريدونهم أيضاً ويبحثون لهم عن دولة، وكذلك اهل الجنوب، فهل هذا جائز مثلما يقول الراشد أنه جائز في السودان؟

أكثرية المسعودين في المهلكة السعودية يبحثون عن خلاص من آل سعود وسلطة الوهابية التكفيرية المتطرفة، فلماذا لا تكون لهم دولهم الخاصة بهم التي محاها آل سعود من الخريطة. لماذا لا يستعيدوا دولهم وإماراتهم المستقلة؟

السودان متنوع كما السعودية ثقافياً والى حد ما عرقيا.

وهو متنوع دينياً وطائفياً.

ولكن السودان غير محتكر لطائفة تحكمه مثل نجد المناطقية الوهابية.

الحكم في السودان رغم كل ما يقال فيه أوسع من الحكم السعودي.

ومشكلة السودان في حقيقتها لم تتضخم إلا بدعم الغرب وإسرائيل وآل سعود، والى حدّ ما مصر.

إن رفض الخرطوم الخضوع للإستعلاء السياسي المصري والسعودي دفعهما بالتعاون مع الغرب لإضعاف الحكم المركزي. لكن الغرب وسّع الأمر فدعم حركة الإنفصال وغطاها سياسياً ولازال بشكل صريح وعلني. والسبب هو: المسحة الإسلامية لنظام الحكم في السودان، وعدم خضوعه لكل ما يشتهيه الغرب فيماشي سياساته.

يمكن أن يقال الكثير عن الحكم في السودان من جهة دكتاتوريته وعنفه وقمعه. لكن للنظام انجازات. ولا يمكن أن يكون البشير سبب الإنفصال، فموضوع الإنفصال سابق بعقود على وصول البشير الى السلطة. وموضوع الإنفصال أعمق من أن يكون القمع وحده محركاً ومحفزاً له.

لا انفصال بدون دعم إقليمي وخارجي. وقد توفرت كل أدوات إنفصال الجنوب اليوم، خاصة قبول ودعم دول الجوار؛ والغطاء الدولي الذي وفره مجلس الأمن واعضاؤه الذين زاروا الجنوب مؤخراً، والخبرة في إدارة الوضع المحلي الجنوبي منذ الشراكة مع الحزب الحاكم؛ والهوية الخاصة مستكملة البناء التي يمكن لها ان تضحي بالمنفعة الإقتصادية إن كان ذلك يرضي كبرياء معتنقيها قومياً في دولة تؤسس. والأكثر من هذا، هناك الإستفتاء لأهل الجنوب، وقد كان النظام في الخرطوم قد أصلح علاقاته مع شريكه الجنوبي كيما يختار الوحدة، ولكنه اختار الإنفصال بلا مبالاة. وإذا ما تقرر الإستفتاء فنتائجه ستكون حاسمة، وهي على الأرجح قيام دولة في الجنوب، لا يعرف ما هو اسمها، ولكنها متنوعة هي الأخرى من عشرات الأثنيات والأقليات، ما قد يغري بتفتت الدولة الجديدة، او قيام مثيل لها في دارفور.

كثير من مقومات الإنفصال موجودة في السعودية. لكن ما يجعل السودان مختلفاً عن السعودية، هو ان الغرب يحمي الوحدة السعودية وبثمن يدفع باستمرار من قبل آل سعود. وهؤلاء لا يهمهم الوحدة وإنما السيطرة الأقلوية على الأكثرية المقموعة.

لربما يأتي يوم ليس ببعيد يجد فيه آل سعود أنفسهم في وضع مشابه للسودان.

من حفر لأخيه حفرة أوقعه الله فيها! وسيقع آل سعود في شرّ أعمالهم.

الصفحة السابقة