محاكمة دعاة الإصلاح بتهمة:

قلب نظام الحكم دفعة واحدة!!

فريد أيهم

بدأت العائلة المالكة تضيق ذرعاً بحرية التعبير والنقد، فلم يعد هناك تدرّج في لوائح الإتهام، بل هي تهمة واحدة تلاحق الجميع المخالفين لسياساتها في صغيرة أو كبيرة، وهي محاولة قلب نظام الحكم. نتذكر الأمير الليبرالي، زعماً، سعود الفيصل في 16 آذار (مارس) 2004 في مؤتمر صحافي مع نظيره الأميركي كولن باول كيف أراح نفسه وضيفه ووسائل الإعلام من حوله بأن الاصلاحيين كانوا يهددون الوحدة الوطنية ويتعالون مع جهات أجنبية، بل اعتبر اعتقال الإصلاحيين
الاصلاحي المعتقل القاضي سليمان الرشودي
بداية الإصلاح.

في يوم السبت بتاريخ 25 كانون الأول (ديسمبر) الماضي وجّهت هيئة الإدعاء العام إتهامات ضد 16 إصلاحياً بدعم (الإرهاب) ومحاولة قلب نظام الحكم في السعودية. وكان المتّهمون قد اعتقلوا في 2 شباط (فبراير) 2007، خلال اجتماع في منزل المحامي عصام بصراوي في جدة لتداول فكرة تقديم عريضة تشتمل على المطالب بإصلاحات سياسية وحقوقية بما فيها إنشاء جمعية للحقوق المدنية. كما جرى اعتقال أشخاص آخرين في مواقع مختلفة من بينهم سعود مختار الهاشمي المتّهم بالسفر الى العراق عقب سقوط نظام صدام حسين ومساعدة الارهابيين، والقاضي السابق سليمان الرشودي، أحد مؤسسي لجنة الدفاع عن الحقوق الشرعية في العام 1992. وقال باسم عبد العليم، محامي المتّهمين، إن موكليه هم ضد تنظيم القاعدة ويسعون الى الإصلاح وفتح عقول الناس، وأضاف (هذه الاتهامات خطيرة والبعض منها غير منطقي لأنها تقوم على نيات مستقبلية أو افتراضية لدى المتهمين). ولفت إلى أن ثلاثة من المتهمين قد أفرج عنهم من بينهم المحامي البصراوي الذي سيمثل أمام المحكمة.

كل الذين استمعوا الى اتهامات هيئة الإدعاء العام، أو الذين قرأوا عنها في وسائل الإعلام أصيبوا بصدمة، واستغربوا كيف أن مطالبة بالإصلاحات تتحوّل الى تهمة بقلب نظام الحكم. وقد فسّرت هذه الاتهامات على أنها رسالة الى كل من يحمل مطالب مماثلة بأن التهمة التي تنتظرهم هي قلب نظام الحكم، ما يقطع السبيل على أي حوار ناجح بين الحكومة والقوى السياسية والإجتماعية، ومن شأنه توتير العلاقة بين الطرفين، خصوصاً حين تفقد هذه العلاقة معايير واضحة ونزيهة.

وجد إصلاحيون كثر في الإتهامات تدميراً لفرص اللقاء مع الحكومة في نقطة ما، وحرقاً لآمال الحل لمشكلات مزمنة، لا سيما حين توضع قضية المتّهمين والإتهامات الغاشمة التي ألصقت بهم والعقوبات المنتظرة بحقهم، في مقابل قضية المئات الضالعين في أعمال عنف موصوفة وواضحة، من عناصر القاعدة في الداخل، والذي جرى التعامل معهم ضمن برامج الاستيعاب والمناصحة وما تشتمل عليه من مغريات لم تقدّم قط لأي سجين رأي في هذا البلد، وإن أغلب المعتقلين في السجون السعودية يقعون في خانة سجناء الرأي.

المتحدّث بإسم وزارة الداخلية منصور التركي الذي حاول عبثاً الإيحاء لضيوفه الإعلاميين بأن لا علم لديه عن تفاصيل قضية الإصلاحيين المتّهمين بمحاولة قلب نظام الحكم، وأنه سيسعى (لاحقاً) للحصول على معلومات حول القضية تعينه على تقديم جواب مباشر بخصوص الإتّهامات الموجّهة إلى المعتقلين. ولكن التركي لم يتردد في تقديم إجابة واضحة وقاطعة (إن المظاهرات غير قانونية في المملكة)، والسؤال: متى كان القانون دليلاً على أعمال ونشاطات الاصلاحيين، بل وعلى أداء وسلوك الأمراء، ولكّنه القانون المقصود هنا هو الحكم، أي حكم آل سعود، وكأن فحوى الكلام أن الاعتراض على حكم آل سعود مهما بلغت انحرافاته مرفوض على الإطلاق.

ولذلك، لم يكن مستغرباً أن ينال أكاديميون، وناشطون حقوقيون، وإعلاميون عقاباً عسيراً دون وجه حق، لمجرد أنهم جهروا بآراء لا تروق للعائلة المالكة أو أنهم أخلصوا في النصح بما لا يرضي الأمراء فأطلقوا عليهم خفافيش الليل ليقتادوهم الى حيث يقبع الأحرار من الذين لم يبيعوا ضمائرهم من أجل حفنة مال أو هدايا السلطان الغاشم. في السادس من كانون الأول (ديسمبر) الماضي، أعتقل الأستاذ المساعد في الشريعة الاسلامية في جامعة الإمام محمد بن سعود ، محمد العبد الكريم، بعد أن نشره مقالاً على صفحته في الفيس بوك بعنوان (أزمة الصراع السياسي بين الأجنحة الحاكمة في السعودية)، حدّد فيه مطلباً جوهرياً للشعب وهو (حكم راشد تتحقق فيه المساواة والمشاركة السياسية، وقسمة عادلة في الحقوق والواجبات ومسارعة في حفظ المال العام بدل نهبه وتبذيره). واعتبر العبدالكريم ذلك ضمانة كافية لاستقرار الدولة والشعب، وانتقد الطريقة التي يتم التعامل بها مع مسألة تداول السلطة وتوارث العرش. وأثار العبدالكريم سؤالاً مركزياً عن غياب الحق الطبيعي للناس في اختيارهم قادتهم، وربط ذلك الحق بمصير المملكة، كما أضاء على العلاقة بين صراع الأجنحة في العائلة المالكة ووحدة المملكة، حيث أن الصراع في ظل عدم وجود قاعدة شعبية تؤيّد الدولة، بسبب غياب أي دور لهذه القاعدة في اختيار شكل الحكم وشخص الحاكم،
إدانات دولية لاعتقال الاصلاحيين
يفضي بصورة طبيعية الى تفكك الدولة في لحظة ما غير بعيدة.

وفي يونيو (حزيران) 2010، أقدمت أجهزة الأمن التابعة لوزارة الداخلية على اعتقال الناشط الحقوقي مخلف الشمري، ووجهت إليه تهمة (إزعاج الاخرين). وعلى الرغم من أن المحكمة رفضت الإتهام، إلا أن الشمري لا يزال معتقلاً. إن استعمال عبارة (إزعاج السلطات)، في لغة القرارات الإتهامية تعكس حالة تردي خطير في أوضاع حقوق الإنسان، إذ أن مثل هذه العبارة قد تنطبق على كل النشاطات الحقوقية باعتبارها نشاطات مزعجة للآخرين (=الحكومة). ما هو أخطر من ذلك، أن تهمة(إزعاج الآخرين) هي تهمة من لاتهمة له، حيث أن الحكومة حين تعجز عن توصيف جريمة ما حقيقية أو حتى افتراضية، تلجأ الى مثل هذا النوع من الإتهامات بحيث تصبح تهمة (إزعاج الآخرين) مرنة الى حد كونها تستوعب كل شيء وكل شخص.

من وجهة نظر الاصلاحيين والحقوقيين، أن الحديث عن الاصلاح يشبه الى حد بعيد العلاقة السلبية بين الجعجعة والطحن، فلم يتغير شيء حقيقي في مؤسسات وسياسات الدولة، فمازالت فئة المستأثرين حاكمة، ومازال الفساد يأكل في جسد الدولة، حتى بلغت أرقاماً قياسية ومفزعة، ومازالت أجهزة القمع تعمل دون رقيب ولا حسيب، والأنكى ما ظهر في اتهامات هذه الأجهزة للإصلاحيين بقلب نظام الحكم، من أجل ترويعهم والتهويل على من يليهم ممن لديه نوايا إصلاحية أو أفكار في الإصلاح لم تتحول بعد الى مشروع عمل. صحيح أن منسوب وعي المواطنين الحقوقي والسياسي قد ارتفع بصورة ملحوظة بفضل تكنولوجيا الإتصال والتواصل ذات الطابع العولمي، ولكن الصحيح أيضاً أن ملف الانتهاكات لحقوق الإنسان، ومستويات الفساد، ونسبة الحرمان والفقر، مازالت في تصاعد وبوتيرة متسارعة وكأن السلطيون في سباق مع الزمن، أو أنهم يدركون بأن عمر الدولة قصير ولابد أن يحصدوا ما استطاعوا من مال وعقار قبل أن تحين لحظة لا يغني فيها عن عقاب الشعب سوى التسليم بمطالبه أو الاختباء بعيداً عن الأنظار، إن قدّر لهم النجاة.

تتلطى وزارة الداخلية اليوم وراء الحرب على الإرهاب لممارسة القمع في أبشع أشكاله ضد الناس الذين لم يحملوا سلاحاً ولا يؤمنون به وسيلة للتعبير عن مواقفهم، فصارت تهماً من قبيل (قلب نظام الحكم)، و(تهديد الوحدة الوطنية) و(تهديد الأمن الوطني) وأخيراً وليس آخراً (إزعاج الآخرين) لائحة اتهامات معلّبة يجري استعمالها بإفراط وأمام مرأى وسمع دول حليفة لها مثل الولايات المتحدة والغرب عموماً، لإسكاتها طالما أن (الداخلية) بلغت مستوى الرضا لدى الكبار في مجال التعاون في الحرب على الإرهاب، وبعد ذلك ليكن ما يكون من إتهامات ضد كل الأشخاص المصنّفين في قائمة المعارضين لآل سعود.

فإلى جانب لعبة (بيانات) الداخلية التي تجرد فيها فاتورة العمليات الأمنية التي تقوم بها ضد عناصر القاعدة، في سياق بيع تلك الانجازات الأمنية داخلياً وأميركياً، لأهداف باتت مفضوحة، وخصوصاً بالنسبة لشخصية مازالت غير قادرة على حسم موقعها من العرش، أي الأمير نايف، وزير الداخلية..نقول إلى جانب ذلك، بدأت لعبة أخرى، وهي نشر أسماء المطلوبين السعوديين (في الخارج) والذي يراد استعماله في صراع الرياض وطهران، حيث سيظهر في لحظة ما أن تلك الأسماء موجودة في إيران، الى جانب العشرات من عناصر القاعدة التي تحاول الداخلية تارة بيعهم الى الغرب والولايات المتحدة، وتارة توظيفهم في حربها ضد إيران، وتارة إقحامهم في مشاريع الفتنة في لبنان والعراق وسوريا ومصر وغيرها..

أما طلاّب الحرية والإصلاح في الداخل، فإن الداخلية قد صمّمت خططاً شريرة للجم أصواتهم، ووأد نشاطاتهم عبر الاعتقال، والتعذيب، والفصل التعسفي من الوظائف، ورسائل التهديد بأشكالها المختلفة. وطالما أن القضاء خاضعاً تحت سيطرة (الداخلية) تأمره فيطيع، وتملي عليه الأحكام فيتحول القضاة الى مجرد سعاة بريد، وليس عليهم سوى إيصال الأحكام، وإبلاغ العقوبات لمتّهمين لم تسمع مرافعاتهم ولا دفوعاتهم، حتى صارت (الداخلية) وأجهزتها الأمنية قناة التواصل بين الدولة والمجتمع، وكان ذلك سبباً كافياً لفقدان الناس
المعتقل د. سعود الهاشمي
الثقة في الدولة، ومبرراً لدى البعض للمصادمة معها وتمني زوالها ولو كان ذلك عبر الشيطان.

علاوة على ذلك، فقد نشط جهاز (المباحث السياسية) المسؤول عن الإعتقالات التعسّفية ضد أصحاب الرأي الحر، والمسؤول أيضاً عن كل ما يجري على المعتقلين من أضرار جسدية ونفسية في المعتقلات التي تفتقر إلى أدنى الشروط الصحية، في وقت يتم فيه منع منظمات حقوقية محلية أو دولية من زيارة المعتقلين، للتعرّف على أوضاعهم ومطالبهم. يضاف إلى ذلك قسط أشد من المعاناة وهو أحكام السجن طويلة الأمد، إلى جانب التعذيب النفسي والجسدي، لا يفرّق فيه بين عالم وأستاذ جامعي وشاب إنخرط في عصابة إجرام قتل أو مخدرات، فالدولة في التعامل مع مخالفيها سواء، وقد يجد المتورّطون في جرائم القتل والسرقة والمخدرات من العطف والعفو والرحمة ما لا يلقاه أي من سجناء الرأي، الذين لفرط اطمئنان الداخلية إزاء أية تداعيات خارجية على تصرّفاتها، صارت تتفنن في إطلاق الاتهامات الى حد إيصالها الى قلب نظام الحكم.

كيف يمكن الوثوق بمزاعم الإصلاح، بمافي ذلك إصلاح القضاء، ولا تزال المحاكمات تجري لعشرات بل مئات المعتقلين بصورة سرية ولا يعرف أحد عنها. كان مثيراً إعلان وزارة العدل في 9 كانون الثاني (يناير) الجاري عن أن المحكمة الجزائية نظرت في 442 قضية ضد القاعدة وأنها تواصل النظر في قضايا الموقوفين من عناصر الفئة الضالة، الأمر الذي يطرح سؤالاً عريضاً عن سيرورة المحاكمات، والنظر القضائي. فهل يعقل أن قضية تهم الوطن برمته لا يعرف أحد عن حيثياتها شيئاً، وإن عرفوا فمن خلال ما تنشره وزارتا الداخلية والعدل من بيانات، والتي تأتي غالباً مقتضبة. وبعيداً عن ذلك كله، هل من يخبر في العدل أو حتى الداخلية عن المسؤول عن موت العشرات تحت التعذيب بعد أن تعرّضوا لأشكال تعذيب وحشية على الرأس وأجزاء حساسة من الجسم حتى قضوا في سجون وزارة الداخلية ودفنوا خلسة أو سلّمت جثثهم الى عوائلهم بحضور جلاوزة الداخلية على أن تدفن بحضورهم أو يبلغوا عن إماكن الدفن في وقت لاحق.

لقد عثرت أجهزة (الداخلية) والأمير نايف وإبنه محمد على وجه الخصوص، في الحرب على الإرهاب على مكافأة غير مسبوقة، فكل من شاءت اعتقاله وتغييبه ألصقت به تهمة الضلوع في نشاطات إرهابية من تمويل ودعم الجماعات القاعدية، وأما للداخل فيكفي تهمة التآمر لقلب نظام الحكم كيما تكون رادعة لكل من يفكّر بمطالب الإصلاح، كما يفعل الآن بسجناء جدة أمثال الهاشمي والرشودي والقرني والشميري وسيف الدين الشريف آل غالب ورفاهم، فقد أصبحت الحرب على الإرهاب رسالة للخارج ولكنها حرباً على الإصلاح في الداخل.

الصفحة السابقة