تاريخ الموسيقى والغناء في الحجاز

حظي الغناء في تاريخ العرب قبل وبعد بزوع فجر الاسلام باهتمام المؤرخين امثال ابو الفرج الاصفهاني الذي خصص أجزاء كبيرة من كتابه الشهير (الاغاني) لأخبار المغنيين والمغنيات، كما أفرد ابن عبد عبد ربه الاندلسي في (العقد الفريد) ياقوتة عن الغناء واختلاف الناس فيه اشتمل على اخبار الغناء في صدر الاسلام، كما نال الغناء اهتماماً خاصاً من قبل عدد من مشاهير المؤرخين امثال الطبري والمسعودي والسيوطي وابن خلدون وغيرهم، فيما أخضع عدد من الفقهاء موضوع الغناء للتحقيق الفقهي مثل النابلسي والشوكاني، حيث ناقش الاخير دعوى الاجماع على تحريم السماع.

ويعود أصل الغناء الحجازي الى العصر الجاهلي، رغم تباين الاجتهادات بشأن الفترة المحددة التي ظهر فيها الغناء. وقد أشار بعض المصادر الى ان جرهم لعبت دوراً مركزياً في نشوء حركة ثقافية ودينية واقتصادية نتجت عن تحول مكة المكرمة الى مركز استقطاب لهجرات بشرية من اجزاء مختلفة من الجزيرة العربية، فانتقلت عبرها فنون الغناء من اليمن والحيرة ومن بلاد الغساسنة ومن فارس والروم وغيرها الى الحجاز. فاتصال مكة ويثرب بالحضارات المجاورة ساهم بلا شك في انتقال كثير من الفنون بما في ذلك فن الغناء والموسيقى.

ويشير ابن عبد ربه الاندلسي في (العقد الفريد: ج6 ص 28) أن ''أصل الغناء ومعدنه في أمهات القرى من بلاد العرب ظاهراً فاشياً وهي: المدينة، والطائف، وخيبر، ووادي القرى، ودومة الجندل، واليمامة''. ولعل من نافلة القول، فإن معظم الطقوس الدينية التي كانت تمارس في العصر الجاهلية كانت مترافقة مع وصلات غنائية تؤدى امام الانصاب، وقد اشتهر عن أهل الجاهلية انشادهم عندما يفيضون الى منى:

أشرق ثبير كيما نغير

فالسحر والعرافة في عصر الجاهلية اعتمدتا بشكل أساسي على أهازيج انشادية وغنائية، وكانت نساء القبائل تسهمن في الغناء للاحتفاء بأعياد العشائر، حتى اصبحت مساهمتهن جزءاً مهما من حياة المجتمع الجاهلي في طوري السلم والحرب. وكان من شدة اهتمام أهل الجاهلية بالغناء احتفائهم بشعرائهم غناءً وطرباً كما يومىء الى ذلك السيوطي في (المزهر:ج2/ص236):

''قال ابن رشيق: كانت القبيلة من العرب اذا نبغ فيها شاعر، أتت القابل فهنأتها بذلك، وصفت الاطعمة، واجتمع النساء يلعبن بالمزاهر كما يصنعن في الأعراس''.

وكان أكثر شعر الجاهليين ينشد بأفواه القينات (جمع قينة أي المقابل اللغوي للعبد) وهن طبقة من النساء اشتهرت منهن جرادتا عبد الله بن جدعان وكانتا تجذبان الناس بغنائهما في العصر الجاهلي:

ألا يا قين ويحك قم وهينم لعل الله يصبحنا غماما

وكنا يؤدين هذه الابيات بطور غنائي استخدمت فيه آلات القرع كالطبل والدف والقضيب والصنج والجلاجل وهي الآلات الموسيقية المعروفة في بداية الموسيقى بالحجاز. ثم تطور فن الغناء الحجازي حول مكة ويثرب تدريجياً في العصر الجاهلي باستخدام الآت موسيقية وترية كالبربط والمزهر والكيران والمعرفة والربابة والطنبور، والات هوائية بالنفخ كالقصابة والشبابة والمزمار وزمارة القرب كما ساهم الجاهليون في الحجاز بابتداع أدوات موسيقية.

ويعد الحداء أقدم نمط للغناء في الحجاز، وهو كما قيل مساوقاً لوقع أقدام الجمال، وقد تطور الحداء فيما بعد وتهذب بلون الركباني، حتى قيام غناء النوح والنصب الذي ساد الحجاز باستعمال آلة القضيب لتنظيم ايقاعاته. ثم ظهر شكل الغناء الحجازي المتمثل في غناء الهزج والسناد وقيل بأنه دخل على يد النضر بن الحارث، وهو ما شكل نمط الغناء في آخر العصر الجاهلي.

اما صورة الغناء الحجازي في عصر صدر الاسلام فقد استمر تأثيره في الناحية الاجتماعية، حيث شكل الغناء بالنسبة لمجتمع الحجاز جزءا حميمياً من المناشط الاجتماعية والدينية والثقافية في العصر الجاهلي، وكان من الصعب محو تلك التقاليد بصورة قاطعة ونهائية، فضلاً عن وجود شواهد دينية واجتماعية على استحسان الاصوات العذبة المطربة.

فقد روى ابن حجر العسقلاني في (فتح الباري:ج8ص 711): أن رسول الله (ص) قال لأبي موسى الاشعري وقد أعجبه حسن صوته ''لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود'' كما روي عن رسول الله (ص) قوله لعائشة ''أهديتم الى بعلها ؟ قالت: نعم. قال: وبعثتم معها من يغني؟ قالت: لا قال: او ما علمتم ان الانصار يعجبهم الغزل؟ الا بعثتم معها من يقول:

أتيناكم أتيناكم
ولولا الحبة السمراء
نحييكم نحييكم
لم نحلل بواديكم

وفي استقبال الرسول الكريم (ص) صعدت فتيات بني النجار يضربن الدفون وينشدن:

طلع البدر علينا
وجب الشكر علينا
من ثنيات الوداع
ما دعا لله داع

وجاء في (فتح الباري) حديث أنس رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر وكان غلام يحدو بهن يقال له أنجشه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم رويدك يا أنجشه سوقك بالقوارير، وجاء في صحيح مسلم عن أنس ''رويداً يا أنجشه لا تكسر القوارير.

وقد علق أنور عشقي في ''الركب المكي: الرياض/1423 ص 12):

''فكأنه عليه الصلاة والسلام يشير الى أنجشه ألا ينشد بالمقام المتسارع، حتى لا تتأثر النساء، فقد كانت أم سليم في الثقل (أي حامل في أشهرها الاخيرة)، فكان عليه الصلاة والسلام يرغب الى أنجشه أن يحدو بلحن بطىء ممدود كما هو لحن الصبا المعروف اليوم، وهو لون من ألوان الرصد''.

ولعل في ذلك ايماءة الى تفسير مجموعة النصوص الواردة حول الغناء، حيث تفيد الاحاديث هذه بضرورة تهذيب ممارسة الغناء بما لا يتعارض مع القيم الدينية، وتعديل اغراض الغناء وغاياته وتحريرها مما كان يؤطرها من عادات جاهلية مرفوضة.

وقد أورد الاصفهاني وابن عبد ربه اسماء عدد من المغنيين الحجازيين، فهذا طويس (تصغير طاووس) ذكره الاصفهاني وابن عبد ربه وابن خلكان وغيرهم وقد ضرب به المثل الشهير ''أشأم من طويس'' لموافقه مولده وختانته وزواجه بأحداث توفي فيها رجال بارزون. وقد رويت اخبار كثيرة عن المنافسة بينه وبين مغني مكة ابن سريج الذي قدم المدينة وغنى فيها مما أثار حماسة الناس ، ولما مر طويس بالمكان وغنى ضارباً على الدف:

تناهي فيكم وجدي
وصدع حبكم كيدي
فقلبي مسعر حزناً
بذات الخال في الخد

فما أن سمعه ابن سريج تقدم نحوه صائحاً: والله هذا أعظم مغني عرفته الناس. وكان طويس استعمل اسلوب الايقاع الخفيف في غنائه مستخدماً آلة الدف.

وقد اشتهر ايضاً ابو الخطاب مسلم بن محرز (ت.714م) ويعد من اعلام الغناء المكي في صدر الاسلام، وقد نقل خلال رحلته فارس وبلاد الشام الانغام الفارسية والرومية واقتبس منها في صناعة الحانه المكية ولقب بصناج العرب لاجادته العزف على الصنح. ويعتبر ابو الخطاب أول من غنى في الحجاز على ايقاع الرمل، كما أنشد رملاً فارسياً.

وهناك معبد بن وهب (ت.743م) من موالي بني مخزوم ومن أعلام الغناء في المدينة، وكان يلقب بأمير المغنيين، وقد درس الغناء على سائب خاثر ونشيط الفارسي وجميلة،. قرّز أداؤه فقيل:

أجاد طويس والسريح بعده وما قصبات السبق الا لمعبد

وقد وردت روايات عن المنافسة بينه وبين معبد وابن سريج مما ينبىء عن المنافسة التي كانت تجري بين المدينة ومكة في فنون الغناء في صدر الاسلام.

وكان لمعبد محاولات ابداع ما يعرف بفن المقامات، فله سبع الحان تقابلها سبع قصائد عرفت بـ ''حصون معبد'' لجودتها ومتانة صياغتها.

ينضاف الى ما سبق عدد من المغنيين الكبار مثل ابو جعفر سائب ابن يسار والمعرف بسائب خاثر وكان بارعاً في العزف على العود، ومن المغنيين المدنيين يونس بن سليمان الكاتب قد غنى اشعاراً سميت بالزيانب تغزلاً بزينب بنت عكرمه مما أثار عليه حقد أهل المدينة، كما برز في الغناء المكي في صدر الاسلام سعيد بن مسجح وقد أخذ عن الفرس والروم اجمل الحانهم وصاغها صياغة مكية، وبرز ابن سريج كمعلم بارز في الغناء المكي وهو ابو يحي عبيد بن سريج واشتهر بلبس الجمة (الشعر المصطنع). ويعتبر ابن سريج أحد اعمدة الغناء الاربعة في الحجاز وهم: مكيان، ابن سريج، ابن محرر، ومدنيان، معبد ومالك الطائي. وهو أول من استخدم العود في مكة وغنى به للنوع وابدع في نوحه على يزيد بن عبد الملك على قمة أبي قبيس:

يا عين جودي بالدموع السفاح وابكي على قتلى قريش البطاح

ومن اعلام الغناء المدني في صدر الاسلام ابو الوليد مالك بن ابي السمح (ت 754م) وقد غنى في مجالس يزيد بن عبد الملك والوليد بن يزيد وغنى من شعر الحسين بن عبد الله بن العباس:

لا عيش الا بمالك بن ابي السمح فلا تلمني ولا تلم

وهناك عدد آخر من اعلام الغناء الحجازي امثال احمد بن يحي بن مرزوق المكي ومحمد بن عباد ويحي المكي وابن جامع وعمر الوادي وخالد صامة وفليح وابو وهب عبد الله بن وعب والذي عرف بسياط، وعبادل بن عطية وفليح ابن ابي العوراء وابو طالب عبيد الله بن القاسم والبردان وابن ابي عتيق وابن عائشة وقند والدلال وبذل ودنانير وعشرات غيرهم ممن بلغت شهرتهم الآفاق.

وقد اشتهرت المدينة بمجالس غنائها التي جمعت المشاهير من المغنيين المكيين والمدنيين من امثال معبد وابن سريج وابن مسجح والغريض وغيرهم..وغنى من شعر الاحوص وعمر بن ابي ربيعة وأمرىء القيس وزهير وفطاحل شعراء صدر الاسلام.

كما برزت من المغنيات سلامة القس (ت130هـ/748م)، وقد أخذت الغناء عن جميلة، واشتهرت هي واختها ريا في مجالس الغناء بالمدينة حتى اشتراها يزيد بن عبد الملك.

ومن قينات المدينة كانت بصبص جارية بن نفيس. اشتهرت بغناء المجالس وفتن بغنائها كثيرون وقيل فيها:

بصبص انت الشمس مزدانة
اذا دعت بالعود في مشهد
غنت غناءً يستفز الفتى
فإن تبذلت فأنت الهلال
حذقاً وزان الحذق منها الدلال
وعاونت يمنى يديها الشمال

ومن القينات المغنيات في الحجاز ظهرت حبابة (ت105هـ) وكان اسمها العالية، ونالت عزة الميلاء (ت. نحو 115هـ) شهرة كبيرة في الغناء بالمدينة وهي اقدم من غنى الغناء الموقع في الحجاز حسب ما جاء عند الاصفهاني.

وخلافاً لما كان عليه الغناء في الجاهلية، شهدت القرون الثلاثة الاولى من صدر الاسلام نقلة نوعية في فنون الغناء في الحجاز، اذ أصبح الغناء مشتملاً على طابع فني فريد يستمد قوته من التسابق على انتخاب القصائد ذات الشكل الغنائي لفحول الشعر،وهكذا على الابداع الموسيقي وشكل الاداء اضافة الى التنوع الموسيقي الآلي.

ويقال ذات الشيء عن اغراض الغناء فهي الاخرى ايضاً شهدت تحولاً في عصر صدر الاسلام فأصبحت تنزع نحو فنون اللهو والترفيه الاجتماعي الذي انداح من مجالس عليّة القوم اولاً حتى بلغ أوجه في قصور بعض الخلفاء والامراء من بني امية وبني العباس. بيد أن زوال العصر العباسي قد أحدث انكساراً في فنون الغناء في مكة والمدينة سوى اشارات عابرة في وصف الحياة الاجتماعية ودور الغناء فيها كوسيلة للترفية والتسلية في المناسبات الاجتماعية المختلفة، كالاشارات الى الاغاني التي كانت تؤدّى ضمن حفلات الزواج وأهازيج الاعياد والاحتفالات الدينية المختلفة.

ومما اشتهر غناء في مدن الحجاز ما يعرف بالغناء العدني وهو كما تنبىء الكلمة لون من الغناء وافد من الجنوب وقد أدخل عليه شيء من التطوير، واشتهر في غناء هذا اللون علي ابو بكر با شراحيل وابراهيم الماس واحمد القعطبي وعلي الحراش ومحمد الماس وعلي الجمالي وصالح الغشري وعبد الله المسلمي.

ومما سبق يظهر ان الغناء في مكة والمدينة في العصور المتأخرة ارتبط بالحياة الاجتماعية التي كان الغناء يمثل جزءاً من تراثها ومخزونها الطقسي، وقد ارتبط بصورة مباشرة بالمناسبات الاجتماعية كالاعراس فكان المغني يختار كلمات تنسجم والمناسبة وذوق المستمعين. وقد تخرج جيل من الهواة الذي مارس الغناء مستوحياً من تراث جيل المغنيين الكبار من مكيين ومدنيين ويذكر من جيل الهواة محمد بن شاهين وعمرة اربعين وحمزة المغربي وعبد الله مكي وسعيد شاولى واحمد شيخو من مكة المكرمة ومحمد بناتي وحسين بخاري وعلي عويضة وعمر عبد السلام وعبد الستار غازي ومحمود النعمان من المدينة المنورة.

وقد مهدّ هذا الجيل لظهور وشياع الغناء الشعبي في الحجاز الذي انبثقت منه فرق موسيقية باستعمال آلات موسيقية كالعود والكمان والطبلة والقانون.

إطبع الصفحة الصفحة السابقة