من وثائق الحجاز المعاصر

بيان شريف مكة

الشريف حسين بن علي

تحوّلت الحجاز في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين الى ملتقى الضباط والقادة العسكريين والمناضلين العرب الذي جاءوا من أقطار عربية شتى للدخول في حركة نضالية ضد تركيا الاتحادية التي انحرفت عن مسار الدولة العثمانية، واعتمدت سياسة التتريك الشاملة، وبذلك وضعت حداً فاصلاً بينها وبين العرب على أساس النزوع القومي لدى جميعة الاتحاد والترقي التي تسلم أعضاؤها الحكم في نهاية الدولة العثمانية. لقد شنّت الحكومة الاتحادية في تركيا حملة تصفيات ضد القادة العرب من عسكريين وسياسيين وأدباء ومفكرين على أمل اخماد بؤر السخط والتوتر المضطرمة في أرجاء مختلفة من البلاد العربية.

ولجأت الحكومة الاتحادية الى القوة العارية لفرض ارادتها على المناطق الخاضعة تحت سيطرة الدولة العثمانية، ولكن مالبثت ان جوبهت تلك القوة القاهرة بقوة رفض عربية مضادة قادها الشريف حسين بن علي، أمير مكة الذي قاد الثورة العربية وقد عرف عنه قوة إرادته وصلابته ورجاحة فكره حتى ان أحد التقارير المرفوعة الى السلطان عبد الحميد وصف الشريف الحسين بأنه (ذو تفكير أصيل مستقل وهذا أمر خطير). فقد اختير من قبل المناضلين العرب القادمين الى الحجاز للانضمام الى الثورة العربية الكبرى كيما يلعب دوراً سياسياً يتجاوز مجرد تامين استقلال الحجاز. وبعد ان تلقى الشريف عام 1914 ضمانات من بريطانيا بتقديم الاخيرة للدعم من أجل تحقيق الاستقلال العربي، بدأ الشريف يولي اهتماماً خاصاً بالداخل العربي والاسلامي في محاولة منه لتحصيل الدعم الشعبي والجماهيري وللتعرف على حجم المساندة الفعلية لشعب الشام والعراق في حالة نشوب الثورة.

لقد كتب الشريف الحسين رسائل وخطابات عديدة ولكن من اهمها البيان الشهير الذي بثّه عام 1914 الى الامة الاسلامية يستحثها على مساندة المطالب العربية العادلة ضد الاتراك ودعم مشروع الاستقلال العربي. وهذا البيان يمثل مانيفستو شريفي يشتمل على شرح مكثف للقضية العربية ونقد للسياسة التركية الاتحادية وما هو الموقف منها والاليات التي سيعتمدها من اجل تغيير الواقع السياسي آنذاك. وفيما يلي نص البيان:


بسم الله الرحمن الرحيم

منشور عام من شريف مكة وأميرها، الى جميع إخوانه المسلمين: (ربَّنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين) الاعراف: 89

كل من له إلمام بالتاريخ يعلم أن أمراء مكة المكرمة هم أول من اعترف بالدولة العليّة من حكام المسلمين وأمرائهم رغبة منهم في جمع كلمة المسلمين وإحكاماً لعرى أخوتهم لتمسك سلاطينها من (آل عثمان) العظام طاب ثراهم وجعل دار الخلد مثواهم، بعروة الايمان بكتاب الله ورسوله صلوات الله وسلامه عليه، ولبناء أحكام دولتهم على الشريعة الغراء ولنفس تلك الغاية السامية الرفيعة، مازال الأمراء المشار اليهم، يحافظون عليها، حتى أنني حملت بالعرب على العرب بذاتي في سنة سبع وعشرين وثلثمائة وألف، أثناء حصار أبها محافظة على شرف الدولة وفي السنة التي تلتها كان مثل هذه الحركة تحت قيادة أبنائي الى غير ذلك مما هو في هذا المعنى وكما هو مشهود ومعهود ـ الى ان نشأت في الدولة جمعية الاتحاد، وتولت الى القبض على ادارتها وجميع شؤونها بقوة الثورة، فحادوا بها عن صراط الدين ومنهج الشرع القويم ومهدوا السبل للمروق منه واحتقار أئمته وسلبوا شوكة السلطان المعظم ما له من حق التصرف الشرعي والقانوني أيضاً وجعلوه هو ومجلس الأمة ومجلس الوكلاء منفذين للقرارات السرية لجمعيتهم الثورية وأسرفوا في أموال الدولة وحملوها الديون الفاحشة التي لا يخفى أمر خطرها وخامة عاقبتها على أحد وأضاعوا عدة ممالك كبيرة من ممالكها ومزقوا شمل الأمة العثمانية بمحاولة جعل شعوبها كلها تركية بالقوة القاهرة فأوقعوا بينها وبين العنصر الذي أرادوا تسويده عليها وإدغامها فيه العداوة والبغضاء وخصوا العرب ولغتهم بالاضطهاد.

ولم يكتفوا بذلك كله حتى خاضوا بالدولة والأمة غمرات هذه الحرب الأوروبية الساحقة الماحقة فوقفوا بالدولة موقف الهلكة وألقوا بأيديهم الى التهلكة واستنزفوا بإسمها ثروة الامة كما استنزفوا قبله ثروة الدولة ثم اتخذوها ذريعة للفتك بجميع المخالفين لرأيهم في سياستهم الخرقاء وإدارتهم الظالمة وللتنكيل بالعرب خاصة، حتى إن حرم الله سبحانه وتعالى، وحرم رسوله الاعظم (صلى الله عليه وسلم) لم يسلما من شرهم فإنهم عرضوهما للخوف والجوع والخراب.

الملك فيصل بن الشريف حسين

أما انحرافهم عن صراط الدين، فلا نأخذ فيه هنا بمجرد ما اشتهر عن زعمائهم من الكفر والالحاد في الصحف الاسلامية والأوروبية، ولا بما نعلم من سوء اعتقاد جمهور علماء الأستانة وغيرهم فيهم. بل نأخذ فيهم بأقوالهم وأفعالهم، فمن باب الأقوال ما نشروه في دار السلطنة من الكتب والصحف التي جاهرت في الطعن بالإسلام وانتقاص ما عظم الله تعالى من قدر خاتم رسله وقدر خلفائه الراشدين الكرام، ككتاب (قوم جديد)، الذي اشتهر بما فيه من الكفر والضلال والإضلال، وتحريف نصوص الكتاب العزيز، والسنة السنيّة، ومجلة (اجتهاد) التي شوّهت أجمل سيرة في الخلق وأشرفها، وهي سيرة المصطفى صلوات الله عليه وسلامه، ولا يمكن أن تنشر أمثال هذه المطبوعات في دار السلطنة على مرأى ومسمع من شيخ إسلامها وعلمائها، ومن رجال السلطنة ووزرائها، لولا ان الجمعية هي الناشرة لها، وما بالنا نرى من ينتقد جمعيتهم، ولو بحق يعاقبونه، بالقتل أو النفي أو السجن المؤبد ومن يطعن في دين الله وصفوة خلقه يعزز ويكرم.

ومن باب الافعال، أنهم أبطلوا ما كان محتماً على تلاميذ المدرسة الحربية وغيرها، وعلى جميع العسكر من التزام الصلاة، فجعلوا الصلاة في نظامهم العسكري اختيارية غير واجبة، توسلاً بذلك الى إبطالها بالفعل، وقد جعل كتاب (قوم جديد) لدينهم أركاناً لا صلاة فيها ولا صيام ولا حج، ثم جاءت أوامرهم في أثناء هذه الحرب الى الجنود المقيمين في مثل المدينة المنورة، أو مكة المكرمة، او الشام تحتم عليهم الافطار في رمضان بعلة المساواة بينهم وبين الجنود الذين يقاتلون في حدود الروس ولفقوا أقاويل لمعارضة النصح الصحيح الذي لا يقبل التأويل وهو قوله عز وجل: (فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدّة من أيام أخر) البقرة: 184، بل شرعوا في إبطال أحكام الشريعة المنصوصة في القرآن الكريم المجمع عليها المعلومة من الدين بالضرورة، وقد يعد هذا من القبيل ما ورد أخيراً الى قاضي محكمة مكة الشرعية، بأن لا يحكم الا بالشهادة التي تحررت في محكمته وبين يديه، وإلا يلتفت الى الشهادات التي يكتبها المسلمون في ما بينهم غير مبالين في آية سورة البقرة، ومنه استحلالهم لقتل المسلمين والذميين بغير محاكمة شرعية ولا حكم، أو بأحكام عرفية ما انزل الله بها من سلطان واستحلال مصادرتهم وسلب اموالهم وإخراجهم من ديارهم وسيأتي شيء من شواهد ذلك في المنشور، ولا يمكن هنا إحصاء جرائمهم ولا بدعهم واحداثهم في الاسلام، ومن أغربها مشروع سجلات المستشفعين الذي قرره شيخ إسلامهم السابق وأصدر به إرادات سنيّة وقصاراه ببيع الشفاعة النبوية لطالبها بليرة عثمانية وكتابة اسماء المشترين للشفاعة في سجلات تودع في الحرم النبوي الشريف.

وأما سلبهم ما للسلطان المعظم من حق الإشراف الشرعي وكذا القانوني فهو لا يجهله أحد من اهل العاصمة واهل المعرفة في جميع أقطار المملكة ولا من الأجانب أيضاً حتى انه لا قدرة له على اختيار رئيس الكتاب (المابين) في سلطته الشريفة ولا رئيس خاصته بالمبجلة المنيفة، فضلاً عن اختيار الصدر الأعظم وشيخ الاسلام فضلاً عن النظر في أمور المسلمين ومصالح العباد والبلاد وقد أسقطوا بهذا بقايا شروط الخلافة التي يطالب بها المسلمون كافة. إذ يجب على المسلمين ان يكون لهم إمام (خليفة) شرعي مستقل، قادر على التصرف في إقامة الشرع ورفع لواء العدل.

وأما إسرافهم في اموال الدولة، وإرهاقها بالقروض الفاحشة، فأمره معلوم للخاصة والعامة وكذلك إضاعتهم لعدة ممالك من الدولة كمملكتي البوسنة والهرسك والممالك الألبانية والمقدونية وطرابلس الغرب وبرقة وكذلك إثارة الأحقاد الجنسية الممزقة لشمل الأمة العثمانية، وبهذه السياسية السيئة أضاعوا المملكة الألبانية، وفقدوا الشعب الأرنؤوطي الباسل الذي كان سياجاً للدولة امام البلقان. وهذه حملتهم على ما اشتهر خبره في هذه الأيام من الفتك بالأرمن من رجال ونساء وأطفال وأين هذا إن صح عشر معشاره من قول الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم (من آذى ذمياً، فأنا خصمه، ومن كنت خصمه خصمته يوم القيامة) وراه الخطيب في التاريخ من حديث ابن مسعود. وفي التوصية يحفظ حقوق اهل الذمة والعهد، احاديث في الصحاح والسنن، ومن الأحاديث المخيفة في هذا الباب ما رواه الطبراني من حديث جابر:(إذا ظلم اهل الذمة، كانت الدولة دول العدو)، وإن كان في سنده ضعف فإن متنه في غاية القوة تؤيده السنن الاجتماعية.

واما ما خصوا به العرب ولغتهم من الاضطهاد، فهو أعظم ما جنوه على الدين والدولة من الفساد: حاولوا قتل اللغة العربية في جميع الولايات العثمانية بإبطالها من المدارس ومنعها من الدواوين والمحاكم وأصدروا في ذلك أوامر كثيرة لقيت من مبعوثي العرب معارضات شديدة ونفروا عنها في كتبهم الجديدة، وألفوا لذلك الجمعيات الكثيرة، ولا يخفى ان قتل اللغة العربية قتل للإسلام نفسه، فالإسلام في الحقيقة دين عربي بمعنى أن كتابه أنزل باللغة العربية، وجعل متعبداً بتلاوته وتدبّره وفهمه، لا بمعنى أنه خاص للعرب، فمن المعلوم من الدين بالضرورة أنه عام لجميع الأمم، وقد قال الله في سورة الرعد: (وكذلك أنزلناه حكماً عربياً) (الرعد:27).

وقد أمكنتهم فرصة إعلانهم الأحكام العرفية في البلاد من تنفيذ كل ما يريدون في العرب فطفقوا يقتلون ويصلبون كبراء ونوابغ رجال النهضة العربية، الذين اشتهروا بغيرتهم على الامة والدولة من أرباب المعارف والأفكار وحملة الأقلام وبارعي الضباط، وآخر ما وصل إلينا من بلاغاتهم الرسمية في ذلك، أنهم صلبوا في الشام (21) رجلاً في آن واحد منهم شفيق بك المؤيد والسيد عبد الحميد الزهراوي والضابط الكبير سليم بك الجزائري والأمير عارف الشهابي وعبد الغني العريسي وشكري بك العسلي وعبد الوهاب بك الانكليزي وتوفيق بك البساط، وإنه ليصعب على كثير من ذوي القلوب القاسية إزهاق مثل هذا العدد الكبير من الأنفس لأجل الانتقام ولو كانت من الدواب أو بهيمة الأنعام وانما يقتلون أمثال هؤلاء جهراً ويصلبونهم في الشوارع العامة صلباً حتى لا يطمع عربي بأن يقول بعدهم ان لغتنا لغة الاسلام فيجب على الدولة الاسلامية الكبرى مساعدتنا على حفظها وان لنا في المملكة حقوقاً شرعية وقانونية يجب علينا المطالبة بها وأما من يقتلون رمياً بالرصاص بعلل عسكرية ومن يقتلون اغتيالاً في السجون والشوارع فلا سبيل الى العلم باخبارهم الا إجمالاً، وإنه ليعز على كل إنسان أن يرضى لقومه أو لغيرهم من أبناء جنسه بأن تكون دماؤهم مهينة غير محترمة الى هذا الحد. وقد عظم الاسلام أمر احترام الدماء، وجعل من يتعمد القتل خالداً في النار.

جيش الحجاز في العشرينيات

ثم انهم صادروا أموال عدد لا يحصى من الناس، وعمدوا الى كثير من الأسر (العائلات) الغنية أو المغضوب عليها لأسباب سياسية، فأخرجوهم من أموالهم وديارهم وعقارهم، وأبعدوا نساءً واطفالاً الى بلاد الاناضول، بلا كافل شرعي، فهتكوا حرمة المخدرات من النساء المؤمنات اللواتي لا يعرفن السياسة وعرّضوا أطفالهن للهلاك بين أيديهن في الطريق الطويل الذي لا يجدن فيه من القوت والأسباب الواقية من البرد او الحر والله تعالى يقول (ولا ترزوا واوزرة وزر أخرى) (فاطر: 18)، والظاهر ان الغرض من هذا ان يكون من يسلم من الهلاك من هؤلاء النساء والأطفال كالإماء والعبيد للأتراك في الأناضول، ولابد من ان ينسى الاطفال لغتهم هناك، فيكونوا اتراكاً تعمر بهم بلاد الترك، ولعلهم يريدون أن يأتوا بأتراك يحلون محل هؤلاء المنفيين، فيسهل جعل البلاد السورية كلها تركية.

ولم يكتفوا بالتنكيل بالأحياء، تقتيلاً وتصليباً، ومصادرة ونفياً بقساوة على الاطفال والمخدرات تنفطر لمجرد تصورها القلوب، وتذهب الأنفس حسرات بل وصل حقدهم على العرب الى إهانة الأمراء فتجرأوا على قبر الأمير الأبر المجاهد النقي الزاهد، مولانا الشريف القادر الحسني بإهانته وتحقيره.

وأي مسلم بل أي بشر يرضى لقومه، بمثل هذا الظلم والخسف وقد جعل الله تعالى أمر نفي المرء من وطنه مقارباً لأمر قتاله ليرتد عن دينه وسبباً لمشروعية القتال فقال تعالى في تعليل الإذن بالجهاد (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وأن الله على نصرهم لقدير. الذين اخرجوا من ديارهم بغير حق) (الحج: 39 ـ 40) الآية وقال في شأن معاملة غير المسلمين بالعدل والبر والإحسان: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين. إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولّهم فأولئك هم الظالمون) (الممتحنة: 8ـ9).

وأما نصيب الحجاز، وسكان الحرمين الشريفين من هذه الأرزاء، فلو سكتنا على ما كان من بوادره وأوائله، لطفى مدة حتى لا يعلم الا الله أين يكون حده، وساقوا إلينا الألوان الكثيرة من جنودهم المنظمة مستكملة الأسلحة والذخائر، وهم يعلمون كما نعلم أن الحجاز لا يهاجمه احد من الدول المتحاربة حتى يحتاج الى قوة مدافعة، وأنهم في أشد الحاجة الى هؤلاء الجنود في ميادين القتال، فلم يبق الا انهم يريدون أن يفعلوا في الحجاز ما فعلوه في سوريا والعراق ليتم لهم القضاء على الامة العربية في دارها وموطن منعتها وعزها وفخارها، ويذيقوا هذا الحرم الذي جعله الله أمناً، تجبى إليه ثمرات كل شيء ما أذاقوا جنة الدنيا، (الشام) من الجوع والخوف ويسلبوه ما منّ الله عليه به، وامتن به على سكانه في كتابه العزيز، فكان وجود هذه الجنود سبباً لمنع ورود الأقوات على الثغور الحجازية، وعليها مدار معيشة البلاد، وسبباً لمنع ورود الحجاج إليها، ولا كسب لأهلها إلا منهم، فاشتد الضيق حتى اضطر كثير من أبناء الدرجة الثانية من الأهالي إلى بيع أبواب بيوتهم، وخشية أسباب الهلاك، عن قوم جعلني الله راعياً مسؤولاً عنهم، وسبب منع سواد المسلمين الأعظم من إقامة ركن من أهم أركان دينهم ولو كان ذلك البلاء، في سبيل الدفاع عن الأوطان او المصلحة الراجحة للاسلام، لتحملته البلاد بالافتخار ولساوى فيه الشرفاء والموسرون غيرهم ولو بالاختيار، ولكنه كما اسلفنا ضد مصلحة الاسلام والمسلمين.

فيا أيها الاخوان المسلمون...

إننا قد وصلنا الى حال من الخطر، لم يسبق لها في الاسلام نظير، كان لنا دول عزيزة قوية، أفضلها دول أسلافنا العربية، وقد ورثتها هذه الدولة العثمانية، فكنا نحن العرب أحرص الناس على حياتها، مع كونها هي التي خذلت اللغة العربية، وانتحلت لنفسها منصب الخلافة دون الدول التركية والكردية قبلها، وكنا نحن امراء مكة وشرفاءها أخلص زعماء العرب وغيرهم لها على حرمانها بلادنا، مهبط الوحي والعرفان من علوم الدين والدنيا، كل ذلك حرصاً منا ومن العرب كافة على ان يكون للاسلام دولة قوية تحفظ استقلاله وتنفّذ شرعه ولو في الجملة.

وقد صار أمر هذه الدولة إلى جمعية اغتصبت حق آل عثمان الكرام بقوة الثورة وجعلته في أيدي زعانف ليس لأكثرهم في الشعب التركي الاسلامي أصل راسخ، ولا في الاسلام علم صحيح، ولا عمل صالح كأنور باشا وجمال باشا وطلعت بك، وكان من سوء تصرفهم فيها وفينا، ما اجملناه لكم في هذا المنشور، وقد كانت مقاومة إخواننا الترك لهم، أشد من مقاومة العرب. أما نحن، فكنا كلما سمعنا أو رأينا شيئاً من هجماتهم على الاسلام ندفعه بالتأويل، الى ان أعيانا التأويل، وكلما علمنا منهم او على العرب ذنباً نقول لعله ذنب عارض يرجعون عنه بعد قليل، ولا نستغل مقاومتهم لأجله، لئلا يترتب عليه صدع في الدولة، يزيد له ما يزيد ويوقع التفرقة بين العرب والترك، حتى أنني ساعدتهم على مقاومة قومي ومقاومة أبناء أبي وامي، فلم يرضهم كل ذلك من العرب.

سكّة الحجاز تزيد من ترابط أهل الحجاز

ولما رأيناهم عرضوا استقلال هذه الدولة التي نحرص عليها للزوال، ولم يبقوا على كرامة الدين ولا على أحكام الشرع، ولا على استقلال السلطان، ولم يبقى من سبب نحتمل لأجله منهم هذا الخسف والهوان، ولما وصل سيل طغيانهم إلينا، في حرم ربنا الذي أكرمنا بخدمة بيته وإقامة دينه وحرم جدنا ورسولنا عليه الصلاة والسلام الذي نحفظ من حديثه الصحيح: (إذا ذلت العرب، ذل الاسلام)، اضطررنا الى مقاومة بغيهم من أسلم الطرق، وهي حصر جنودهم في معاقلها، من غير أن نبادلهم بقتال، فمن سلّم منهم سلم، ومن قاتلنا كانت جنايته على نفسه، فما كان من حاميتهم بمكة إلا أن فعلت ما يعد برهاناً على ما تكن صدورهم للدين والعرب، وهو رميهم للبيت العتيق الذي أضافته العزة الأحدية لذاتها العلية قوله تعالى: (وطهّر بيبتيَ للطّائفين) (الحج 26)، وهي قبلة المسلمين، وكعبة الموحّدين، بقنبلتين من مدافعهم بحصن (جياد)، عندما علموا بقيام البلاد بالمطالبة باستقلالها، وقعت إحداهما فوق الحجر الأسود بنحو ذراع ونصف، والثانية تبعد بمقدار ثلاثة اذرع، فالتهبت بنارهما أستار البيت حتى هرع الألوف من المسلمين لإطفاء لهيبه بالضجيج والنحيب، واضطروا الى فتح باب البيت والصعود الى سطحه للتمكن من إطفاء اللهيب، وما انتهى امرهم بهذا حتى عززوا الاثنتين بثالثة وقعت في مقام إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وهذا عدا ما وقع من القذائف في بقية المسجد الذي اتخذوه هدفهم الوحيد في غالب مقذوفاتهم بالقنابل والرصاص، ومازالوا يقتلون الثلاثة والأربعة في نفس المسجد كل يوم حتى تعذر على العباد التقرب من الكعبة المشرفة. وفيما هذا من الاستتباب بالدين، وازدهار بيت الله تعالى، والالحاد فيه ما نترك القول والحكم فيه أيضاً لملة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها بعد تذكيرهم بقول الله عز وجل: (ومن يرد فيه بإلحادٍ نذقه من عذاب أليم) (الحج:25)، وتذكيرهم بأن الجاهلي كان يرى قاتل أبيه في هذا المسجد فلا يمسه بسوء (نعم)، نترك الحكم في هذا الاستخفاف والازدراء للعالم الاسلامي، ولكننا لا نترك مشاعر ديننا وشعائره ألعوبة في أيدي الاتحاديين، و لانبيح لهم التصرف، في حرم الله ورسوله ما استباحوا في ديار الشام، ولا في الاستانة نفسها، ولا نسكت لهم على شيء من بغيهم على أحد من أبناء جنسنا، إذ لم يعد في السكوت مصلحة راجحة لا للدين ولا للدولة بل صارت المصلحة الاسلامية والعربية (وهما متلازمتان)، في مقاومة هذه الفئة الباغية.

ولما كان امر حماية الحجاز، من هذا البغي والعدوان وإقامة ما فرضه الله فيه من الشعائر الاسلامية، ووقاية العرب والبلاد العربية من الخطر الذي استهدفت له الدولة العثمانية بسوء تصرف هذه الجمعية الباغية، كل ذلك لا يتم تداركه إلا بالاستقلال التام، وقطع كل صلة بهؤلاء السفاكين للدماء الناهبين للأموال، وقد هبت البلاد بتوفيق الله تعالى للنهوض بأمر استقلالها، بعد ان ضربت على أيدي عمال الاتحاديين ورجال حامياتها، فاستقلت فعلاً وانفصلت عن البلاد التي لم تزل تئن تحت سلطة المتغلبين من الاتحاديين انفصالاً تاماً مطلقاً، بكل معاني الاستقلال الذي لا تشوبه شائبة مداخلة أجنبية ولا تحكم خارجي، جاعلة مبدأها وغايتها، نصرة دين الاسلام، والسعي لاعلاء شأن المسلمين، والمساواة الشرعية في الحقوق بينهم وبين جميع من يدخل في حوزة استقلالها من المخالفين، قائمة في كل اعمالها، على أساس حكم الشرع الشريف الذي لا يكون لنا مرجع سواه، ولا مستند الا إياه في جميع الأحكام وأصول القضاء وفروعه، مع استعدادها لقبول ما ينطبق على أصول الدين، ويلائم شعائره من أنواع فنون الترقي الحديث وأسباب النهضة الصحيحة، باذلة كل ما في الجهد والطاقة لإعزاز العلم وتعميمه بين الناس على اختلاف الطبقات، وعلى حسب الحاجة والاستعداد.

هذا ما قد قمنا به، لأداء الواجب الديني علينا، راجين من إخواننا المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، أن يؤدوا كذلك ما يرونه واجباً لنا عليهم من أحكام روابط الاسلام والتناصح على البر والتقوى، وليعلموا بأننا قد قمنا بما قمنا به ونحن نعتقد اعتقاداً راسخاً انه أفضل خدمة للاسلام، واذا لم تتحقق به أماني المسلمين الصادقين حتى الترك منهم، فإنه لا ضرر فيه يوازي عشر معشار الضرر في تركه وستظهر لهم الأيام حقيقة ذلك، فليصبروا إن الله مع الصابرين، والله نسأل وبحبه وحب رسوله نتوسل أن يتولانا بالتوفيق ويمدنا بالهداية الى ما فيه خير الاسلام والمسلمين، والاعتماد على الله العلي الكبير، وهو حسبنا ونعم النصير.

شريف وامير مكة/ الحسين

25 شعبان 1334هـ

الصفحة السابقة