الإحتفالات في الحجاز

إبراهيم الأقصم

حَفَل القوم واحتفلوا: اجتمعوا واحتشدوا، والمحفل: المجلس والمجتمع. وتدخل الإحتفالات ضمن المظاهر الإجتماعية عند العرب، وتشمل الألعاب والأعراس والأعياد، والمناسبات الإجتماعية، والزيارات الموسمية وغيرها. وقد حفلت المصادر بوصف هذه المظاهر دون أن يقف الباحث على مصدر أو مرجع يتحدث عنها بإفراد. وتكمن صعوبة البحث في موضوع الإحتفالات في أنها تمتد لحقب طويلة، وتتباين من جيل الى جيل، وتتأثر بالمتغيرات الثقافية. والمعروف أن بلاد الحرمين (ونقصد الحجاز) كانت محط هجرات لكثير من القبائل والأجناس، مما يجعل مهمة الحديث عن هذه الإحتفالات أمراً صعباً. لذا سنحاول تناول كل حقبة تاريخية بإجمال، بدءاً بالجاهلية وصدر الإسلام والى وقتنا الحاضر.

كان لأهل مكة والمدينة احتفالات في الجاهلية والإسلام. فقد عنون الفاكهي في (تاريخ مكة) عدة عناوين يتعلق مضمونها بالإحتفالات مثل: (ذكر قول أهل مكة في السماع والغناء والأعراس والختان).. وذكر أن أهل مكة كانوا يحتفلون بالأعراس والختان ويستمعون للغناء والشعر في الجاهلية والإسلام.

الإحتفالات في العصر الجاهلي

كانت الإحتفالات العامة في العصر الجاهلي تقام بمكة المكرمة، فتضرب فيها الدفوف وتعزف المزامير خاصة في الأعراس، وقد اشتهر المكيون بالغناء منذ وقت مبكر، وكان للمترفين بمكة مجالس سمر، ينصبون لها الأٍرائك، ويمدون فيها الموائد، ويتفكهون بما طاب من ثمار الطائف، وكانوا يتخذون مجالس الشراب، ويستمعون فيها للشعر والقصص والغناء. وقد حفلت العديد من مصادر الأدب بهذه الأخبار مثل (العقد الفريد) لابن عبد ربه، و (الأغاني) للأصفهاني.

كانت هناك عدة احتفالات تقام في الأسواق الموسمية المشهورة. ففي مكة كان هناك سوق عكاظ، وسوق مجنة، وذي المجاز، حيث يجتمع الناس من الأعيان والشعراء للمفاخرة، فكانوا يتفاخرون بالنسب أو بالشرف أو بالخصال الحميدة كالكرم والجود والنجدة والمروءة. كما كان العرب يجتمعون في تلك الأسواق للمنافرة، أي أنهم يتحاكمون في النسب كما حدث بين بني أمية وبني هاشم من منافرات مدونة في مصادر الشعر العربي الجاهلي.

وكانت دار الندوة التي أسسها قصي بن كلاب زعيم قريش، تمثل مركزاً سياسياً واجتماعياً يجتمع بها أعيان مكة للتشاور حول قضايا سياسية واجتماعية، بل كانت تجري بها عقود الزواج أحياناً، ويحتفلون بها في المناسبات، حيث كان يدعى فيها الأهل والأقارب والأصحاب، وكانوا يحتفلون بزواجهم ليلاً، وقد يكون الإحتفال أحياناً في اليوم السابع، وتقام الولائم عادة في النهار. وكانوا في الجاهلية يقدمون مع اللحم الشراب أحياناً. ولم تكن هناك دور خاصة تقام فيها الإحتفالات، سوى أن بعض رجال قريش كانوا يعقدون لبناتهم في دار الندوة.

وكانت لأهل مكة في الجاهلية احتفالات بقدوم المولود، فيقيمون له حفلاً في يوم ختانه، ولم يكن الختان مرتبطاً بيوم معين، فهناك من يختن في السابع، وهناك من يختن قبيل البلوغ. وكانت حفلات الختان تقام وتستمر أكثر من يوم، وقد تستغرق لثلاثة أيام أو سبعة، وفي تلك الحفلات يحضر المغنون والمغنيات ويحضر أصحاب الألعاب والصبيان، وتقدم الحلوى ومختلف أصناف الطعام التي تعكس الجوانب الإقتصادية لكل أسرة.

وضمن احتفالات المكيين في الجاهلية، كان الناس يخرجون الى بعض الأماكن لمشاهدة الألعاب التي يمارسها فتيان مكة، كما أنهم كانوا يجتمعون لمشاهدة السبق، وهو ما يكون بين الأفراس في حلبات السباق، ومنها ما يكون بين الناس كالجري، واستمر معظم ذلك في الإسلام. لقد كان أهل مكة والمدينة يخرجون الى عدة أماكن، يحتفلون بالسبق. والسبق أو سباق الخيل رياضة جاهلية، كانت سائدة عند العرب، وفي روايات، أن أول من ذللت له الخيل بعد أن كانت وحشية هو إسماعيل عليه السلام في أجياد بمكة.

وأهل المدينة كانوا في الجاهلية يحتفلون بيومين عندهم، كما كان يوم السبت معظماً عند يهود المدينة، وهو بمثابة عيد اسبوعي. فعن أنس رضي الله عنه قال: (قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: قد أبدلكم الله تعالى بهما خيراً منهما: يوم الفطر والأضحى). وكذلك عندما قدم النبي المدينة وجدهم يحتفلون بيوم عاشوراء. عن ابن عباس رضي الله عنه قال: (قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال: ما هذا؟ قالوا: هذا يوم صالح، وهذا يوم نجى الله بني إسرائيل من عدوهم، فصامه موسى. قال: فأنا أحقّ بموسى منكم، فصامه، وأمر بصيامه). وهذا اليوم كان اليهود بالمدينة يجعلونه كالعيد، وكان أهل خيبر يُلبسون أبناءهم ونساءهم أحسن اللباس في ذلك اليوم.

الإحتفالات في صدر الإسلام

تغيرت مفاهيم المسلمين نحو اللهو والإحتفالات، وأصبحت محاطة بسياج فقهي شرعي، كما ألغى الإسلام بعض الأعياد الجاهلية. فالإسلام أجاز اللهو المباح، وجعل له ضوابط، وراعى العادات والجِبِلات والأعراف، فتغيرت أفكار الناس الدين أسلموا، وبقدوم الإسلام، أصبح المسجد الحرام بمكة والمسجد النبوي بالمدينة المركزين الدينيين اللذين كان يجتمع فيهما المسلمون لأداء الصلوات والجمع والجماعات وإقامة الإحتفالات بالأعياد والمناسبات. فقد كان يحدث بالمسجد النبوي، تبادل القصائد والشعر والمدح والرثاء، واستقبال وفود العرب.

حدثت في المجتمع المدني في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم عدة احتفالات. أولها تلك الصور الجميلة التي نقلتها مصادر السيرة عندما هاجر النبي من مكة الى المدينة، وأخذ الناس في يثرب ينتظرون وصول الركب المبارك الميمون، فكانوا يخرجون خارج يثرب ينتظرون قدومه صلى الله عليه وسلم، وعندما بدا لهم محياه قامت الإحتفالات، وصدحت الأناشيد، وضربت الدفوف، وأنشد الصبيان، وامتلأت الطرقات بالرجال والنساء محتفلة بهذا الحدث الذي غير كل شيء في حياتهم، حتى إسم مدينتهم القديم (يثرب) أصبح (المدينة، طيبة).

من جهة أخرى، جاء الإسلام باحتفالات لمناسبات تعبدية رغّب فيها الشارع، وجاءت أحكام فقهية كضوابط لها. وفي الإسلام كانت رياضة السبق محل اهتمام النبي وصحابته، فكان عليه السلام يعقد السبق بين لاصحابة في الخيل، فيحتفل الناس بتلك الرياضة ويتنافسون فيها. وقد عقد البخاري أبواباً متعددة في السبق بين الخيل، وذكر عدّة أحاديث في ذلك. ولم يكن السبق مقتصراً على الخيل، بل كانت هناك عدة سباقات، منها: الترامي بالسهام، واستعمال الأسلحة، والتسابق بالإبل، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسابق مع الصحابة، كما ورد في قصة الإعرابي الذي سبق ناقة النبي العضباء. والمهم هنا أن السبق كان ضمن احتفالات المسلمين بالمدينة منذ عهد النبي وظل مستمراً الى عصرنا الحاضر.

الإحتفال بالعيدين

عروس من مكة المكرمة في ثوب العرس

احتفل المسلمون في مكة والمدينة ومنذ صدر الإسلام وحتى الآن بالعيدين: الفطر والأضحى. ومظاهر الإحتفالات كانت تظهر في لبس أجمل الثياب، ورفع الصوت بالذكر والتهليل والتسبيح والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. وقد ذكر الفاكهي ما كان يفعله أهل مكة من احتفالات في عيد الأضحى وأيام الحج تحت عنوان (ذكر التكبير بمكة في أيام العشر، وما جاء فيه والتكبير ليلة الفطر وتفسير ذلك). وذكر أن الناس كانوا يكبرون الله في الطرقات والأسواق وبمنى. كما ذكر البخاري (باب: التكبير أيام منى) أن عمر رضي الله عنه كان يكبر في قبته بمنى فيسمعه أهل المسجد فيكبرون ويكبر أهل الأسواق حتى ترتج منى من التكبير. كما كان المسلمون يحتفلون في عيد الأضحى بذبح الأضاحي تعبّداً لرب العالمين، وابتهاجاً بقدوم العيد.

من خلال الأعياد، احتفل المسلمون بالمدينة في عهد رسول الله بإقامة بعض الألعاب، والحفلات الغنائية المباحة، وتجملوا وذبحوا الذبائح. أخرج البخاري حديث عن عائشة رضي الله عنها، قالت: دخل عليّ النبي صلى الله عليه وسلم وعندي جاريتان تغنيان بغناء بُعاث، فاضطجع على الفراش وحوّل وجهه، ودخل أبو بكر فانتهرني وقال: أمزمار الشيطان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأقبل عليه صلى الله عليه وسلم فقال: دعهما. فلما غفل غمزتهما فخرجتا. فكان يوم عيد يلعب السودان بالدرق والحراب. فإما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإما قال: تشتهين تنظرين؟ فقلت: نعم. فأقامني وراءه، خدّي على خدّه وهو يقول: (دونكم يا بني أرفدة). حتى إذا مللت قال: حسبك؟ قلت: نعم، قال: فاذهبي.

والغناء في الحديث، كان من الغناء المباح وهو المصاحب بالدف، وليس من الغناء المحرم. كما أن إعراض النبي عن السماع بتحويل وجهه فيه دلالة على ترفعه صلى الله عليه وسلم وتنزهه عن السماع بالرغم من إباحته. أما في مكة، فقد ذكر الفاكهي (في القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي) أن الناس في الأعياد كانوا يجتمعون لمشاهدة بعض الألعاب وكان هو ممن شهدها.

الإحتفال بالعرس

حث الإسلام على الإحتفال بإعلان النكاح وعلى إقامة الولائم، كما أباح للنساء الغناء بالدف، وجعل ذلك من الرخصة. وكانت هناك أنماط عديدة من الإحتفالات أقيمت في المدينة، ذكر البخاري عدة أبواب تتعلق بما كان يجري فيها بين الناس في عهد رسول الله في باب (كتاب النكاح) وباب (ضرب الدف في النكاح والوليمة). وذكر أن الجواري كن يضربن بالدف ويغنين. كما حث النبي صلى الله عليه وسلم على الوليمة في احتفال النكاح، إذ قال لعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: (أولم ولو بشاة).

كان الناس بالمدينة المنورة يحتفلون بوليمة العرس في يوم أو يومين أو ثلاثة وأحياناً سبعة. كما كانت النسوة والصبيان يذهبون للعرس ويقدمون الهدية للعروس، كان النبي صلى الله عليه وسلم يمتن لمن يقوم بهذا العمل لما فيه من الأجر والثواب، كما كان يقدم في حفلة العرس أنواع من الشراب الذي لا يُسكر في العرس.

الإحتفال بالعقيقة

احتفل المسلمون بالعقيقة وهي ما يذبح عن المولود، فعندما يولد المولود حث الإسلام على تسميته، وتحنيكه، وحلق رأسه، ثم يذبح عن الأنثى المولودة شاة وعن الذكر شاتان، وكان الناس يحضرون تلك المناسبات ويباركون للمولود وتقام الإحتفالات بالمناسبة.

الإحتفال بالختان

سطرت المصادر المكية والمدنية على مر الأزمان بعض الصور التي لاتزال قائمة في حفلات العقيقة أو يوم الختان. فقد وصف لنا العز ابن فهد حفلة ختان تمت لابن أحد الأعيان سنة 913هـ/ 1507م فذكر أن المختون زُفّ من جهة المروة الى سكنه على فرس، لابساً عمامة مدورة وخلعة مخملة وفرو سنجان، وكان يمشي قدامه بعض المغنين المكيين بالطبل والزمر، فإذا وصلوا الى السكن قاموا بختنه. وكان مؤرخون آخرون قد ذكروا صوراً أخرى مثل الطواف بالمختون في شوارع مكة، والطواف به حول الكعبة سبع مرات، وتقام الحفلات وتمد بها الأسمطة التي لا تخلو من أطايب الطعام كحلويات اللوزية والمضروب.

وفي المدينة المنورة يتشابه حفل الختان بما كان عليه بمكة، فقد كان المختون يركب على حصان ومعه موكب يسير عبر الشوارع، وتقرع له الطبول، وتعلو الأناشيد حتى غروب الشمس، وفي ليلة الختان تجتمع النساء للرقص والغناء، ويلبسن اللباس الجميل.

الإحتفال بيوم الجمعة

يوم الجمعة يعد عيداً اسبوعياً، فهو خير أيام الأسبوع، يجتمع فيه المسلمون للإستماع في المسجد لخطبة الجمعة، وفي يوم الجمعة يلتقون ويتواصلون ويتراحمون فيما بينهم، وقد وردت أحاديث عديدة في فضل يوم الجمعة، والحث فيه على الغسل والتطييب والسواك ولبس أحسن الثياب، فالمسلمون يفرحون بالجمعة ويبخرون المساجد ويذكرون الله كثيراً. ولم تكن الجمعة معروفة عند العرب في الجاهلية بهذا الإسم بل كانت تسمى عُروبة، ولم يكن لها قيمة عندهم.

الولائم

بالعموم كانت للمسلمين ولائم عديدة تقام فيها احتفالات. منها: الإعذار للختان، والعقيقة للولادة وهي في اليوم السابع، والخُرس لسلامة المرأة من الطلق، والنقيعة لقدوم المسافر وهي مشتقة من النقع أي الغبار؛ والوكيرة للسكن المتجدد، مأخوذ من الوكر أي المأوى والمستقر. وهناك وليمة تحمل اسم الوضيمة لما يتخذ عند المصيبة، والمأدبة لما يتخذ بلا سبب. وهذه الولائم كانت معروفة عند العرب قبل الإسلام، وقد ذكر جواد علي في (المفصل) أن العرب كانت لديهم ست عشرة وليمة.

الإحتفالات في العصرين الأموي والعباسي

استحدثت في العهدين العباسي والأموي صور من الإحتفالات، منها خروج الناس لاستقبال الخليفة عند قدومه للحج، وهو يمثل جزءً من إعلان الولاء، ناهيك أن الخلفاء كانوا يأتون بالعطايا والهبات عند قدومهم الأماكن المقدسة. ويلاحظ في العصر الأموي التوسع في الإحتفالات الغنائية بمكة والمدينة، وظهر بشكل لافت مقارنة بالعهد النبوي والعهد الراشدي. وقد ذكر العديد من الأدباء والمؤرخين أسماء المغنين والمغنيات في العصر الأموي، وأشاروا الى أن بعض الخلفاء كعمر بن عبد العزيز وسليمان بن عبدالملك كانوا يأمرون بنفي المغنين وتغريبهم وسجنهم، في دلالة أن الأمر كان موجوداً عند المترفين من القوم. وفي العموم استمرت الاحتفالات الأخرى في العرس والختان وغيرها ولكن بعض أثرياء أهل المدينة أضفوا عليها طابع الإسراف والتبذير.

عريس من مكة يجلس في الركاح

وفي العهد الأموي أيضاً، كان وادي العقيق الذي يتمتع بطيب الهواء وجودة المياه مكاناً للتنزه لدى بعض أهل المدينة، واتخذ مكاناً للسمر وسماع الشعر والغناء والإحتفالات. وقد أشارت دراسات عديدة الى مظاهر الترف في الإحتفالات في ذلك العهد. لكن هناك مبالغات في قضية الإحتفالات والغزل والغناء سطرتها كتب الأدب، بناء على قراءة شعر ما لشاعر ماجن أو موقف سلبي لحالات شاذة ونادرة. وبالرغم من كل هذا، فمكة والمدينة ظلتا في العصر الأموي مصدر إشعاع ديني، وكان بها مئات الفقهاء والعلماء وطلاب العلم.

غير أن الحجاز كان في العصر العباسي متوتراً، حيث حدثت عدة صراعات سياسية وعسكرية، وثورات محلية، وحركات الأعراب، فأحدثت اضطرابات أمنية أثرت على الوضع الإقتصادي وحلت المجاعات والقحط الشديد، فتغيرت أوضاع الناس، ولم تكن الإحتفالات في ذلك العصر تقارن بما كانت عليه في العصر الأموي.

الإحتفالات في العصر الفاطمي

ظهرت في العهد الفاطمي أعياد جديدة، واحتفالات متنوعة لم تكن موجودة سابقاً، مثل: عيد المولد النبوي، وعيد مولد السيدة زينب، ومولد السيدة خديجة، ومولد السيدة آمنة، والإحتفال بيوم عاشوراء، والإحتفال بآخر أربعاء من صفر. وهذه الأعياد يرجع سببها الى التشييع كما يقول المرحوم أحمد السباعي. وكذلك الحال بالمدينة، فقد ظهرت فيها احتفالات دينية مبتدعة عندما كانت تحت الحكم الفاطمي.

الاحتفال بقدوم بعض الشهور

كان أهل مكة والمدينة يحتفلون بقدوم بعض الشهور، ومن ذلك شهر رمضان. وقد رصدت كتب الرحلات كيفية احتفالات المكيين بقدوم الشهر، حيث وصف ابن جبير الذي عاصر أواخر العهد الفاطمي، احتفالات أهل مكة بقدوم شهر رمضان عام 579هـ/ 1183م، فذكر أن الشموع والقناديل تُضاء وتدق الدبادب إيذاناً بدخول الشهر، وتضرب الفرقعات عند الفراغ من أذان المغرب والعشاء، وتضرب الفرقعات للسحور، وتوضع على المآذن قناديل، تطفأ إذا حان وقت الإمساك. ويجتمع الناس لأداء التراويح في جماعات مختلفة، حسب المذاهب الفقهية. ووصف ابن جبير حال المقامات في صلاة التراويح برمضان، وذكر أن كل إمام كان يصلي بجماعته عشرين ركعة، أما إمام الشافعية فكان له وضع خاص، فإنه كان يطوف حول الكعبة سبعة أشواط قبل البدء في أداء صلاة التراويح، وبعد فراغه من الطواف تضرب الفرقعة إيذاناً ببدء الصلاة، ثم يصلي ركعتين ويطوف بعدها سبعاً وهكذا الى أن يتم عشرين ركعة، ثم يصلي الشفع والوتر.

والإحتفال برمضان استمر الى العهد المملوكي، فقد وصف الرحالة ابن بطوطة احتفالات أهل مكة بقدوم رمضان، حيث كانوا يستقبلونه بالطبول والدبابات ووصف كيفية صلاة التراويح وختم القرآن على نحو ما وصفه ابن جبير.

كما ذكر ابن فرحون (693-769هـ/ 1293-1367م) المعاصر للعهد المملوكي احتفالات أهل المدينة بقدوم رمضان، وكان ممن حضرها وأنكرها، إذ قال: (إني أدركت قراء الإمامية ـ إحدى فرق الشيعة ـ وأئمتها إذا دخل شهر رمضان، وأخذوا من القبة شمعاً وشمعدانات على عددهم ينصبونها بعد صلاة العشاء الآخرة في مجالسهم ويدعون في كتبهم ويرفعون أصواتهم حول الروضة والناس في الصلاة لا يعلمون صلاتهم من رفع أصواتهم، ولا يسمعون قراءة إمامهم لكثرة قرّائهم، ويجتمع عليهم من الناس خلق كثير، ويتخللون تلك الأدعية بسجدات لهم مؤقتة، ولم يزالوا كذلك الى أن اجتمعت الكلمة، وظهر الحق، فمنعوا من ذلك إلا في بيوتهم ومجالسهم، فانحسمت المادة وزالت تلك العادة).

الإحتفال بختم القرآن

من الإحتفالات المشهورة بمكة والمدينة والتي ترتبط بشهر رمضان: ختم القرآن. فقد ذكر الفاهكهي أن أهل مكة كانوا يحتفلون بختم القرآن، لكن هذا الإحتفال بالختمة لم يكن مستمراً فقد كان يترك زماناً، ثم يعاود مرة أخرى. لكن الإحتفال بالختمة استمر عدة عصور عند المكيين، ولايزال حتى الوقت الحاضر، وقد شاهده ابن جبير ووصفه في رحلته أواخر القرن السادس الهجري، حيث ذكر أن كل إمام من أئمة المذاهب الأربعة كان يصلي بجماعته في المسجد الحرام، ويقرأ في كل ليلة جزءاً من القرآن. وأول من يختم القرآن من الأئمة الإمام الشافعي وذلك في ليلة سع وعشرين، ويتم إقامة حفل لذلك، وتبدأ الإستعدادات لإقامة ذلك الحفل قبل يومين، بحيث تنشر المشاعل والشموع في أرجاء الحرم. وفي تلك الليلة يتقدم الإمام الشافعي فيصلي العشاء الآخرة ثم يصلي التراويح... وفي تلك الساعة كان جميع الأئمة يتوقفون عن الصلاة تعظيماً لختمة المقام ويحضرونها متبركين، فيختم الإمام الشافعي في تسليمتين، ثم يقوم خطيباً مستقبلاً المقام والكعبة المشرفة، فإذا فرغ من ذلك عاد بقية الأئمة الى صلاتهم وانفض الجمع. أما ختم بقية الأئمة فيكون عادة ليلة التاسع والعشرين من رمضان، ويلقي كل منهم عند الختم خطبة، ويكون أول المختتمين في هذه الليلة الإمام المالكي، ثم يقام احتفال أقل من احتفال الشافعية، ثم يتلوه بقية الأئمة.

ولم يختلف الإحتفال بختم القرآن في المدينة عما كان عليه بمكة، فقد وصف النابلسي في رحلته عام 1105هـ/ 1694م، أن أهل المدينة كانوا يحتفلون بختم القرآن، إذ كان ممن دُعي وحضر ذلك الحفل، فوصف مهابته وذكر أن الشافعية يختتمون قبل غيرهم ثم المالكية، وأن السادة العلماء والقضاة والمفتون يحضرون حفل الختم، ثم ذكر أن الناس كانوا يحتفلون بوداع الشهر بإنشاد القصائد النبوية المشتملة على مديح النبي صلى الله عليه وسلم، فيضجّ المجلس بالخشوع والبكاء، وتوقد المشاعل والشموع الكثيرة خاصة بالروضة الشريفة، وتنتشر مباخر الطيب بالعنبر والعود.

أما البتنوني فأشار في رحلته للمدينة سنة 1327هـ/ 1909م، مظاهر الإحتفال بختم القرآن، وقال: (بعد ختم التراويح تخرج الشمعدانات الذهبية والفضية من خزائن الحجرة الشريفة، ويقيمون حفلاً كبيراً يحضره الأمراء والأعيان).

وهناك ختم آخر للقرآن، يقام له احتفال معين، وهو خاص بالأسر التي ينتهي أبناؤها من حفظ القرآن، فقد كان من عادة أهل مكة والمدينة الإحتفال بختمة المصحف للولد أو البنت. فإذا أكمل الولد أو البنت ختم القرآن تقام له حفلة يحضرها المعلم الدي علمه القرآن مع الأهل والأقارب. ويقوم الطفل بقراءة ما تيسر من القرآن الكريم في الحفل، ثم توزع الحلوى، ويتناول الجميع الطعام، ويسمى هذا الإحتفال (الإقلابة). أما اذا اتم الطفل جزءاً معينا من القرآن، فإن أهله يقومون بعمل حفلة صغيرة أيضاً تسمى (الأصرافة) ولايزال هذا الأمر معمولاً به.

ويختلف مظهر الإحتفال بختمة المصحف باختلاف الطبقات. فالأثرياء والأغنياء يبالغون في الحفل إذا أتم أولادهم ختم المصحف. أما العلماء والقضاة وأئمة المقامات فيحصل بينهم تنافس في تحفيظ أبنائهم القرآن، ليحصل لهم شرف الإمامة، فعندما يختمون يقوم الأبناء بقراءة ذلك في صلاة التراويح بالمسجد الحرام بمكة، ويصلي الواحد منهم أحياناً بدلاً من الإمام في مقام أحد الأئمة. ويحدث ذلك أيضاً بالمدينة، فقد ذكر عطية سالم أن الغلام الذي يُتم ختم القرآن يذهب به أهله الى الحرم، في رمضان ليصلي التراويح ببعض الناس من أهله وجماعته ومعه شيخه الذي حفظه القرآن، وبعد الإنتهاء من ختمه يقوم والد الغلام بإقامة حفلة توزع فيها الهدايا الثمينة للشيخ، والطعام والحلويات للحاضرين، ثم يُلبس الغلام حلة وعمامة تُشعر أنه ختم القرآن، وهذا العمل لازال معمولاً به الى الوقت المعاصر.

الإحتفال بشهر رجب

احتفال مكي في حارة الشامية عام 1907

من الإحتفالات المشهورة بمكة والمدينة الإحتفال بشهر رجب، فقد نقل لنا ابن جبير، وصفاً دقيقاً لاحتفالات المكيين في عهد الأمير الشريف مكثر بن عيسى (تولى إمارة مكة من 571-597هـ/ 1175-1200م) فذكر أن أهل مكة كانوا يحتفلون بقدوم شهر رجب، ويبدأون ذلك بالعمرة، فتخرج النساء بالهوادج الى التنعيم ميقات المعتمرين، وتكون هذه الهوادج مزينة ومزركشة بالألوان الجميلة والحرير الذي ينساب عليها حتى يصل الى الأرض، وينسحب عليها انسحاباً وتقود الشموع. ويخرج أمير مكة في صباح أول يوم من رجب للعمرة في حشد عظيم، ويخرج المعتمرون قبيلة قبيلة، وحارة حارة، فرساناً ورجالاً، يتواثبون ويتثقفون بالأسلحة حراباً وسيوفاً في حذق عجيب، وكانوا يرمون السيوف في الهواء ثم يتلقونها قبضاً على قوائمها، كأنها لم تفارق أيديهم. فإذا عاد الأمير من العمرة هرع الى المسجد وشرع يطوف في حشده العظيم، ثم يطوف الناس، ويزدحم الحرم في مرأى عجيب لا مثيل له، كما يقول ابن جبير.

وكانت الطبول تقرع عند ثبوت دخول شهر رجب، وتطلق الأبواق، وتنشد القصائد الشعرية في ليلة الموسم، ويحتفل الناس ويتصافحون ويتسامحون ويلبسون أفخر الثياب. وبالجملة كما يقول ابن جبير: هذا الشهر يكون معموراً بالعبادات من العمر وسواها، ويختص أوله ونصفه من ذلك بحظ متميز، وكذلك اليوم السابع والعشرون من رجب 579هـ. واستمرت هذه الإحتفالات في العهد المملوكي كما يتوضح من وصف مشابه لابن بطوطة. وفي شهر رجب كان يكثر الخير وترخص الأسعار بمكة، لأن العديد من القبائل المجاورة كانت تأتي للعمرة ومعها الحبوب والسمن والعسل والزيت واللوز والزبيب خاصة قبائل زهران.

واستمر الإحتفال بالرجبية عصوراً متعددة، فقد صور لنا المستشرق الهولندي سنوك هورخرونيه الذي زار مكة في 1291-1292هـ/ 1884-1885م، احتفالات المكيين بالرجبية فذكر أنهم كانوا يؤدون العمرة في يوم 27 رجب، وأنه منذ ظهر يوم 26 تطلق المدافع طلقاتها وتبدأ الإحتفالات التي تركز على سرد قصة الإسراء والمعراج وتوزع الحلوى والأطعمة. وذكر سنوك أن أهل المدينة يفعلون ما يفعله أهل مكة، إلا أن لديهم عادة غريبة في أثناء قراءة المعراج وهي أن الخطيب أو القارئ اذا انتهى من خطبته انهال عليه البدو ومزقوا جبته الى قطع صغيرة، وأن أكثر سعادتهم كانت تكمن في الإحتفاظ بتلك القطع لا ستخدامها في التعاويذ او كتمائم.

وسبب اختيار أهل مكة شهر رجب للإكثار من العمرة محل خلاف بين المؤرخين والمعاصرين، بعضهم يرى أنه يرتبط بحادثة الإسراء والمعراج وقد وقعت في 27 رجب. وبعض آخر يقول أن العادة تعود لأن عبدالله الزبير اعتمر يوم 27 رجب بعد أن انتهى من بناء البيت، فيما قال آخرون أن المسألة تعود الى الأحاديث التي تؤكد على فضل العمرة بالعموم، وأن هناك فضائل لشهر رجب، كما أن إحدى عمرات الرسول قد تمت في رجب، وقد روي أن بعض الصحابة والتابعين كانوا يعتمرون في رجب فاعتاد الناس ذلك.

في المدينة سجل بعض الباحثين والرحالة أنه في بداية القرن الرابع عشر الهجري في العهد العثماني كانوا يقيمون في رجب احتفالات بينها أنهم كانوا يقيمون مولداً على قبر سيدنا حمزة في أول رجب، وأنه يكثر الزوار للمدينة من القرى المجاورة فتذبح الذبائح للضيوف وأرباب الطرق الصوفية وتزار المقابر. وقال كاتب متأخر أن اهل المدينة شيبة وشباناً ونساءً وأطفالاً كانوا يجتمعون الى سفح جبل أحد بمنطقة الشهداء حتى يصبح المكان أشبه بيوم عرفة، ويحدث في ذلك اليوم الفسحة والسرور والتوسع في المآكل والمشارب وتطلق فيه الطلقات النارية.

الإحتفال بشهر شعبان

كانت هناك احتفالات بشهر شعبان، خاصة ليلة النصف منه، وصور ابن جبير احتفالات أهل مكة ليلة النصف من شعبان فقال أنه إذا دخلت هذه الليلة ازدحم الحرم بالناس وهم يهللون ويكبرون، خاصة عند بئر زمزم لاعتقادهم أنه في تلك الليلة تفيض بئر زمزم فيأتون يتباركون بها، ويتفاذفون بمائها، ويحدث الصراخ والبكاء عند النساء ويكثر التهليل، فينشغل الناس بهم فلا يتم لهم طواف ولا تحدث لهم في الصلاة خشوع. وذكر ابن جبير أنه بعد صلاة العشاء يصلي بعض الناس جماعات كصلاة التراويح يصلون ويقرأون بفاتحة الكتاب ثم (قل هو الله أحد) عشر مرات في كل ركعة، ويصلون مائة ركعة بخمسين تسليمة، ويحصل خلالها إشعال المشاعل والشموع، وهناك من الناس من يصلي بجوار الحجر الأسود، وأناس يقومون بالإعتمار أو الطواف. وقد استمر الإحتفال بليلة النصف من شعبان حتى احتلال الحجاز على يد السعوديين.

الإحتفال بشهر شوال

كان أهل مكة يحتفلون بقدوم شهر شوال، في أوله عيد الفطر، وابن جبير يصف الإحتفال بذلك فيقول أن الشموع والمشاعل تضاء منذ ليلة العيد على منائر الحرم وأسطحه، ويكثر التهليل والتسبيح والتكبير في تلك الليلة. وفي الصباح يجتمع الناس بالحرم وهم يرتدون أجمل الثياب، يتقدمهم الشيبيون، سدنة الكعبة، ليفتحوا الكعبة. ثم يأتي الأمير فيستقبلوه ويطوف سبعاً ثم يعود ويجلس مع حاشيته في موقف مهيب، ثم ينشد الشعراء أعذب الكلمات بتلك المناسبة، بعد ذلك يأتي الخطيب لابساً ثياباً سوداء فيرقى المنبر، وبعد أداء الصلاة يخطب خطبة بليعة ثم يخرج الناس مسرورين مستبشرين مستغفرين فرحين، ويذهب بعضهم الى مقبرة المعلاة لزيارة الأموات والدعاء لهم.

وفي العموم، بعض الإحتفالات هذه مازالت مستمرة بمكة والمدينة منذ العهد الفاطمي والأيوبي والمملوكي، وكانت هناك محاولات من المماليك لإلغاء بعض الإحتفالات خاصة التي جاءت عن طريق الفاطميين، فقضوا على بعضها. في المسجد النبوي، وفي عهد آل سنان الحسينيين الشيعة الإماميين، ألغى المماليك احتفالات دينية كصلاة الرغائب في رجب، وصلاة النصف من شعبان، وغيرها من البدع التي أقاموها كالمبالغة في زينة المسجد، وكثرة الوقيد (المشاعل) وكثرة اختلاط النساء بالرجال في المناسبات الدينية، ومع ذلك لم يخل عهد المماليك من بعض البدع أيضاً.

الإحتفالات في العصر العثماني

احتفال مكي في حارة النقا عام 1916

العهد العثماني كان امتداداً للعهد المملوكي في مظاهر الإحتفالات، فقد رصدت إحدى الدراسات أبرز الإحتفالات التي قامت بمكة خلال القرن العاشر الهجري/ السادس عشر الميلادي، فذكرت أن بعض أهل مكة كانوا يحتفلون بأول سبت في شهر ذي القعدة، ويذهبون الى مسجد الخيف منذ يوم الجمعة، ويكثر في هذا اليوم الإختلاط بين الرجال والنساء، وقد أنكر عليهم هذه العادة السيئة بعض العلماء والفقهاء. كما كان هناك احتفال يقيمه بعض الناس في آخر شهر ذي القعدة بإقامة الصلاة والذكر بعد العشاء لإحياء تلك الليلة، فكانوا يكثرون من الأدعية، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. وتؤكد الدراسة أن تلك البدعة كانت قد انتقلت من مصر في العهد المملوكي. كما كان الناس يحتفلون في ليلة التاسع والعشرين من شهر الحج إذ يذهبون الى غار حراء، ويتعبدون فيه، ويبيتون حتى الصباح، ثم يذهبون الى التنعيم للإحرام، ثم ينطلقون لأداء العمرة.

أشار الرحالة سنوك الى بعض احتفالات أهل مكة التي كانت قائمة في القرن الثالث عشر الهجري/ التاسع عشر الميلادي (أي العهد العثماني) والتي شاهدها عن كثب: منها الإحتفال بذكرى السيدة ميمونة رضي الله عنها، وهي إحدى زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر أن بعض العامة كانوا يجتمعون في اليوم الثاني عشر من صفر عند قبر (ستنا ميمونة) ويحضرون معهم المأكولات ويلبسون العمامة بدلاً من الكوفية والعقال، وينصبون الخيام بجوار القبر، ويصطحبون معهم الآلات الموسيقية وأحياناً يسردون القصص والأغاني الشعبية. وبعد العودة من قبر السيدة ميمونة، ينطلق الناس لاحتفال آخر بالشهداء (أحد أحياء مكة) فيقيمون احتفالاً بقرب قبر الصحابي عبد الله بن عمر رضي الله عنه كما يعتقدون، ويستمر الحفل لمدة أسبوع، حيث يقوم أحد القراء بذكر سيرة هذا الصحابي بصوت جميل معدداً مناقبه ومزاياه.

وأشار سنوك أيضاً الى احتفالات غريبة كانت تقام عند قبر السيدة خديجة رضي الله عنها، وكذلك عند قبر السيدة آمنة أم النبي، حيث يأتي الناس في اليوم الحادي عشر من كل شهر لزيارة ضريح السيدة خديجة بمقبرة المعلاة، وفي اليوم التالي يخصص لزيارة قبر آمنة المزعوم. وقد كان الناس خاصة النساء يحضرون معهم البخور والشموع وينذرون النذور على قبريهما.

العهد العثماني بالعموم يعتبر عهد رخاء وهناءة عيش، فعاد المكيون الى التنعم والإسراف في الحفلات على ما كان عليه الأمر في عهد الأمويين. فكانوا يخرجون الى ضواحي مكة كوادي فاطمة ووادي فخ ووادي الشهداء لإقامة المناسبات والحفلات حيث تقدم فيها الأطعمة الشهية، وتقام فيها الحفلات الغنائية المؤنسة، فيأتي أصحاب الوتر والمطربون لإحياء تلك الليالي، ويكثر اللعب والترويح والإنبساط، خاصة عند العامة الذين يستكثرون من المناسبات ليحتفلوا بها في صخب ومرح. فقد كانوا يحتفلون بأول السنة الهجرية، وبآخر أربعاء في صفر، وبمولد النبي صلى الله عليه وسلم في ربيع الأول. كما كانوا يحتفلون بدخول رجب وخروج شعبان (الشعبانية)، وجميع ليالي رمضان وبخاصة أواخره. وفي شوال تدق طبولهم ويرقصون بالعصي الغليظة، كل حي يتحدى الآخر، فإذا أمعن الحماس، اشتبكت الأيدي وقرعت الرؤوس وتكسرت العظام.

وفي المدينة كان بعض العوام يقيمون مولداً في شهر صفر على قبر العريضي شقيق محمد ذي النفس الزكية، الذي يقع شرق المدينة. وذكر أحد الدارسين أن الذي ساعد على تعميق هذه الإحتفالات في انفس الناس خلال القرون المتأخرة هو دعم الدولة العثمانية لهذه الأماكن والمبالغة في الإهتمام بها. فعلى سبيل المثال، أمرت الدولة العثمانية ببناء قبة من حجر الشميسي على قبر السيدة خديجة رضي الله عنها، سنة 950م/ 1534م، كما كانت ترسل كسوة لضريحها.

الإحتفال بالمحمل

من احتفالات أهل مكة والمدينة التي ظهرت في العهدين المملوكي والعثماني: حفلة المحمل. فقد كانوا يحتفلون بالمحمل القادم للحج، وأشهرها: المحمل الشامي، والمصري، والعراقي، واليمني. والمحمل عبارة عن قافلة كبيرة محملة بالحجاج والأزواد والبضائع والخيرات والصدقات، يتقدمها جمل عظيم عليه المحمل، وهو كالهودج، مصنوع من الخشب ومزين بأحلى الزينة، ويقود هذا المحمل أمير أو قائد عسكري. قيل إن أول ظهور المحمل كان عام 645هـ/ 1248م، في بدايات العهد المملوكي. وهذا المحمل له تقاليد وأعراف، فإذا وصل قوبل بالإحتفالات وعزفت الموسيقى، ويزف الى أن يصل مكانه وينظم له حفل مماثل عند وداعه أيضاً. وكذلك كان الأمر بالمدينة. والمحمل كان يأخذ صفة رسمية، إذ كان يحمل معه المراسيم السلطانية التي تحمل تعيينات وأوامر جديدة في المناصب. لذا يستقبله شريف مكة وخواصه والقضاة والفقهاء والعلماء والأعيان وغيرهم، ويقومون بعرضة عظيمه أمامه، فيها خيول كثيرة، ويقومون بالمشي معه حتى مقر سكنه المعد، ثم يخلع على شريف مكة ومن بصحبته. كما كان يقام لهذا المحمل احتفال وداعي.

الاحتفال بالمحمل في شوارع مكة المكرمة

صوّر ابراهيم رفعت، وهو أحد المشاركين في المحمل، لحظة خروج المحمل من جدة ووصوله للمدينة سنة 1318هـ/ 1901م، فذكر أن موظفي الحكومة الحجازية اصطفوا بأوسمتهم وملابسهم الرسمية، ثم أقبل الوالي، فتقدم أمير المحمل الشامي يقود زمام جمله وسلمه للوالي، فدار به خمس دورات ثم سلمه لأميره، بعد ذلك صدحت الموسيقى الشاهينية بسلام جلالة السلطان، وهتف العسكر والحضور بالدعاء له ثلاثاً، ثم تقدم أمير المحمل المصري، وفعل به كسالفه، ثم ألقيت خطبة دعي فيها لجلالة السلطان ودولتي الشريف والوالي وختمهما بالدعاء للجناب الخديوي، وعقب ذلك انصرف المحمل. وعندما يصل هذا المحمل الى المدينة كان يجرى له احتفال رسمي آخر، فيستقبله محافظ المدينة وشيخ الحرم والأعيان. فإذا أناخوا الجمل، وحط المحمل رحاله، دخلوا لزيارة المسجد، ثم تُقام الولائم. وأحياناً كانت تطلق المدافع 21 طلقة عند وصول المحمل.

الإحتفال بالركب

الركب المكي كان حتى عهد قريب يشكل تقليداً اجتماعياً مميزاً بين المدينتين المقدستين مكة والمدينة. يبدأ من مكة خلال شهري ربيع الأول ورجب، يتجه فيهما أفراد الركب، على ظهور الحمير الى المدينة المنورة بعد الإعداد للرحلة، يرافقهم المزهدون بأهزاجهم في مظهر احتفالي بهيج، حيث يتم تزيين الدواب بالقلائد والأقمشة الملونة.

يُحتفل في ليلة مغادرة الركب بالإنشاد والولائم بقيادة الركب إعداداً للمغادرة. وفي صبيحة اليوم التالي يأمر الشيخ بالرحيل، فيبادر الركب بالإنشاد في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم، أمام الجموع المودعة، متوجهين الى وادي فاطمة، فالقضيمة، ومنها الى المدينة، سالكين طريق الهجرة ما أمكن. وكانت الإحتفالات تقام على طول الطريق في المنازل التي يمر بها الركب حتى وصوله الى عروة، ومنها الى قباء حتى الدخول من باب العنبرية، ثم يستقبل أهالي المدينة الركب المكي عند باب السلام بالإنشاد والترحيب في احتفال مهيب.

ومن احتفالات أهل الحجاز خاصة بالمدينة، الإحتفال بقدوم الركب من الحج. والركب: عبارة عن مجموعة من أهل المدينة، يعزمون على الحج، ويقومون بالتخطيط لهذا الأمر وتوزيع الأدوار بينهم، ثم يؤدون الحج ويعودون الى المدينة، فيستقبلهم الناس، وقد كان الناس بالمدينة، فيستقبلهم الناس، وقد كان الناس بالمدينة يستقبلون الركب القادم من الحج، ويقيمون الإحتفالات لسلامتهم وقد ظهر هذا منذ زمن مبكر، واستمر الى القرن الرابع عشر الهجري/ العشرين الميلادي. كانوا يسمون القادم من الحج للمرة الأولى (صرارة) فيتم الإحتفال به على طريقة مميزة، حيث يركب الحاج على ناقة أو فرس مزينة، ويطاف به المدينة، وتقوم النساء برمي الحلوى عليه، ثم يصل منزله وتقام حفلة خاصة لهذه المناسبة، وأحياناً تعزف الموسيقى. وبالعموم، فقد كان أهل المدينة يستقبلون الركب القادم من الحج بفرح وبهجة وسرور، وتقام الإحتفالات الكبيرة بهذه المناسبة. ويرى بعض الباحثين أن حفلة الصرارة، أو السرارة، كانت تتم عادة للطفل القادم من الحج.

الإحتفال بمولد النبي

الإحتفال بالمولد النبوي في مكة والمدينة يعد أبرز الإحتفالات منذ العهد الفاطمي الى العهد العثماني، وكان يقام عادة في يوم 12 ربيع الأول، وتقام فيه الخطب والمواعظ، وتقدم فيه الأطعمة والحلوى. والمصادر المكية تسمي حفلة المولد بزفة المولد أحياناً. ومكان المولد يقصد به المكان الذي ولد به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقع حالياً في موضع مكتبة مكة المكرمة، وكان في يد عقيل بن أبي طالب ثم صار في يد ولده ثم باعوه الى محمد بن يوسف أخي الحجاج بن يوسف، ثم جعلته الخيزران أم هارون الرشيد مسجداً يصلى فيه بزقاق المولد. أما زفة المولد فيقصد بها حضور الناس الى مكان المولد بعد صلاة المغرب، يتقدمهم قاضي قضاة الشافعية، والقضاة الثلاثة وبعض الفقهاء وبعض الأعيان، وتقام خطبة في هذا المكان، ثم ينطلقون حاملين معهم الفوانيس والشموع، حتى يصلوا الى الحرم، ثم يقيموا صلاة العشاء ثم ينصرفوا.

كانت هناك صور عديدة لمظاهر الإحتفال بالمولد النبوي، خلال القرن العاشر الهجري/ السادس عشر الميلادي. فقد وصف العز بن فهد بعض احتفالات المولد في سنة 911هـ/ 1505م، وذكر أن السماط الذي فرش للناس وحضره القضاة وجمع من الفقهاء، كان يحتوي على أطعمة شهية كالمبشورات والضلوع المشوية، والرز العزيزي والمامونية الحموية. كما ذكر العز بن فهد نوع الحلوى التي قدمت في حفلة مولد سنة 915هـ/ 1509م، كالمشبك والفتوت، وقد كان أهل مكة يستغلون حفلة المولد في إقامة مناسبات أخرى تبركاً، مثل الختان وعقد النكاح والزواج.

ظاهرة الإحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم، كانت تأخذ طابعاً رسمياً، فقد كان شريف مكة يصدر أوامره لحاكم مكة بأن يأمر القضاة والفقهاء بإقامة احتفال المولد، ومحاسبة كل من لم يحضر أو يتخلف عنه، وكان بعض الفقهاء والعلماء والقضاة يخالفون أمر الشريف وينكرون ذلك الإحتفال، ويحذرون من زفة المولد ويعتبرونها بدعة.

صور سنوك طريقة احتفال أهل مكة بمولد النبي في سنة 1292هـ/ 1875م فقال: إنه في ظهر اليوم الحادي عشر من ربيع الأول، تطلق المدافع إعلاناً لهذه المناسبة، ويبدأ المدرسون بالحرم بقراءة قصة المولد بدلاً من إعطاء الدروس والمحاضرات. ومع صلاة المغرب من اليوم الثاني عشر يتجمع الناس بأعداد كبيرة، وتحضر النساء في أبهى زينة، معهن الحلي كأنهن في يوم العيد، ويلبس الأطفال الملابس الزاهية ويحضرون مع أمهاتهم، ويحدث صخب بالمسجد، وتمتلئ المحلات التجارية بالألعاب والحلوى، وبعد الإنتهاء من صلاة المغرب، تضاء المصابيح بأعداد كبيرة، ويبدأ الجمهور في تبادل التحايا بينهم. وفي الجهة الشمالية من الحرم يجلس الإمام على منصة خشبية وظهره الى الكعبة، مواجهاً الجمهور ليتلو قصة المولد، ويجلس في مكان الصدارة شريف مكة والوالي التركي مع حاشيتهما. ويبدو أن الناس كانوا لا يعون ما يقال بسبب الصخب، وبعد الإنتهاء من القراءة يحدث هرج كبير داخل المسجد، فالكل يريد أن يرى الشريف ورجال الحكومة الذين يحملون القناديل المضيئة ويمرون بها عبر أسواق القشاشية وسوق الليل الى بناية القبة في الشعب (شعب علي) حيث رأى الرسول الكريم النور لأول مرة. وأمام هذا الموكب كان يسير الريس وهو كبير المؤذنين، وفلكي المسجد الحرام، وتنشد الأناشيد في مدح الرسول الكريم، ويدخل هذا الحشد الى مكان المولد ويقرؤون شيئاً من سيرته العطرة، ثم تقام الصلاة جماعة، ويستغرق كل ذلك قرابة الساعتين من بعد الغروب، وخلال الليل تقام حفلات السمر، ويذهب الكثير من الناس الى المقاهي، في حين يقوم المتصوفة بتكوين حلقات يرددون فيها بصورة جماعية قصائد البردة والهمزية وأشعار المديح النبوي الأخرى.

يوم الكنيس

وهو من الإحتفالات التي كانت بالمدينة في العهد العثماني. فقد كان أهل المدينة يحتفلون بيوم الكنيس أو ليلة الكنيس أي كنس الحجرة النبوية. فقد وصف النابلسي في (رحلته) ما كان يحدث من احتفالات في ذلك اليوم، فذكر أنه في يوم 17/11/1105هـ، 10/7/1694م، أن بعض أهل المدينة في ليلة الكنيس كانوا يجمعون الحب من القمح ويضعونه في خرقة بيضاء، ويذهبون به الى الحجرة الشريفة، وكانوا يعتقدون أن هذا الأمر يقضي عنهم الدين ببركة هذا المكان. وفي صبيحة ذلك اليوم كان أعيان وأكابر وغالب أهل المدينة يجتمعون في الحرم النبوي الشريف بعد صلاة الصبح، ينتظرون الكنيس، فيخرج الطواشي (الأغوات) خدام الحجرة الشريفة وخدام الحرم الشريف وينقلون المصاحف من الروضة الشريفة الى الحجرة المطهرة، ويرفعون البسط المفروشة، ثم يصعد شيخ الحرم مع جماعة الطواشية وقاضي المدينة الى سطح الحرم الشريف، ثم يبدؤون في كنس السطح والقبة والحجرة، وكانت هذه المكانس مذهبة وجميلة تصنع لهذه المناسبة التي تقام في أول شهر ذي القعدة من كل عام. وبعد إتمام الكنس يبدأ الناس الصياح بأعلى أصواتهم: العادة يا سادة، ثم يرمى لهم الكعك والأقراص فيلتقطونه فرحين مسرورين. ويعتبر ذلك اليوم عند أهل المدينة كيوم العيد يلبسون فيه أحسن ملابسهم، ويهنئون بعضهم بعضاً، وكان من عادة أهل المدينة في هذا اليوم وبعد فراغهم من الكنس، أن يذهبوا الى الحدائق ويسرفوا في الأكل والمشارب، ويحصل لهم الإنشراح والإنبساط، ومعهم النساء والأطفال، ثم يخرج أصحاب الطرق الصوفية ويقومون بالذكر والتوحيد والمزاهر، ويجتمعون في مكان يقال له القرين وهو قريب من المدينة على نصف ساعة ثم يعودون في العشي.

غسل الكعبة

من الإحتفالات المكية عبر جل العصور، والتي لاتزال قائمة: غسيل الكعبة. حيث يكون هناك احتفال كبير يحضره الشريف والوالي وأعيان مكه. وصف البتنوني في رحلته حالة الغسل التي حضرها فذكر أن شريف مكة كان يدخل الكعبة ويصلي ركعتين ثم يؤتى له بجرادل الماء من عين زمزم، فيغسل أرضها بمقشات صغيرة من الخوص، ويسيل الماء من ثقب في عتبتها، ثم يغسلها بماء الورد، وبعد ذلك يضمخ أرضيتها وحوائطها بالخلوق وأنواع العطور والطيب كدهن الورد والمسك، وينتشر البخور بالند والعود. ثم يخرج الشريف ويقف على الباب، ويرمي بالمقشات الصغيرة التي كانت تستخدم في غسل الكعبة فيتزاحم عليه الناس ويتلقفونها وكأنها أثمن شيء في العالم، وكانوا يحتفظون بها على سبيل البركة.

الصفحة السابقة