صراع الملك ووزير الداخلية

التعبير الثقافي عن الخلاف السياسي

الفعاليات الثقافية التي جرت على هامش معرض الكتاب الذي أقيم في الرياض في مارس الماضي لم تعكس إنقسامات إجتماعية وثقافية فحسب، وإنما دفعت الى السطح إنقساماً سياسياً أيضاً على مستوى المجتمع والسلطة على حد سواء.. هكذا أخبرت التجاذبات المصاحبة واللاحقة لتلك الفعاليات. قد تكون الاخيرة المنازلة الأكبر حتى الان لتصادم إتجاهات ثقافية وإجتماعية، كونها رفعت الستار جزئياً عن تمزّقات سياسية ممتدة الى الدوائر العليا في هرم السلطة، وقد تكون فعاليات معرض الكتاب مسرحاً لاستعراض القوة بين تيارات فكرية متنافرة تتصارع نيابة عن أجنحة الحكم، وهو ما زخم الحدث بقسط وافر من الجدل والاهمية.

نايف: يقود معركة ثقافية / سلفية ضد الملك

مثّل الحضور الكثيف والنوعي لأقطاب فكرية من التيارين المتصارعين الليبرالي والسلفي في الفعاليات الثقافية التي جرت على هامش معرض الكتاب بالرياض صورة الاصطفافات السياسية المرشّحة لأن تعكس توجهات متضّادة داخل السلطة، وإن كانت نقطة التصادم قابلة دائماً للزوال بفعل عامل الاجماع السائد بين أجنحة العائلة المالكة على وحدة السلطة، والاتفاق على مبدأ التسوية بين الأمراء الكبار.

على أية حال، حرّكت الندوات الثقافية الصاخبة المياه السياسية الراكدة، وألمحت الى طور في التجاذب غير مسبوق، يتنزل من أعلى الى أسفل، على خلفية افتراضية تضع الملك عبد الله في خانة الخط الليبرالي والامير نايف في الخط السلفي المتشدد.

لقد قيل بأن رواية المهندس الزراعي الشيخ محسن العواجي في القصيبي كواجهة مجازية للملك عبد الله قد حيكت بأصابع وزارة الداخلية، التي كانت ـ فيما يبدو ـ وراء إستغلال الحماسة المعهودة للعواجي في خوض المنازلات ضد خصوم أيديولوجيين وسياسيين، فقامت بإستنزاف حماسته في معركة أخرى تصيب بشررها رأس السلطة. لا ريب أن اللغة اللاهبة في مقالة العواجي بعثت دخاناً كثيفاً حول حرية الكلام التي منحت له كيما يطلق العنان لقلم مدجج بنصوص قرآنية فيما تتوشح نصائحه رداءً دينياً، ليعيد قذفها لاحقاً كتلاً من نار على كل من يختلف معه. لقد أثنى العواجي في رواية محبوكة بإتقان على دور الداخلية، وأخرجها من دائرة النقد، وقد أخبرت التطورات اللاحقة بأن من أبلغه عن إرتقاء القصيبي الى مستوى يفوق مكانة الأمراء، في عملية تذكير هابطة بالنظام المراتبي السلطوي، وكأنه يكتب بلسان المثلومين داخل العائلة المالكة، وتحديداً من أمراء الجناح السديري الذين أغضبهم تقريب الملك لأشخاص يقعون خارج دائرة الامتياز العائلي لآل سعود. إن مبدأ المفاضلة الذي لجأ اليه العواجي في مقالته أفشى سر الجهة التي تقف وراءه، ولا يمكن لمن يغيضه قرب القصيبي وغيره من الملك أن يعتمد المعيار ذاته في تثبيت حق أو نفيه، وكأنه أراد أن ينفي شيئاً لاثبات نقيضه فوقع في تناقض مكشوف. علاوة على ذلك، يخبر مبدأ المفاضلة في مقالة العواجي عن أنه مارس الدور ذاته الذي يعيب به على القصيبي، فقد وضع نفسه في موقع المناصر للداخلية التي أوكلت اليه مهمة كشف خبايا تنامي دور النخبة الليبرالية في السلطة، فأراد الاضطلاع بدور المحامي عن الجناح المتضرر، وهم مجموعة من الامراء في الجناح السديري وبخاصة الامير نايف ومن يليه.

لقد قيل بأن رواية المهندس الزراعي الشيخ محسن العواجي في القصيبي كواجهة مجازية للملك عبد الله قد حيكت بأصابع وزارة الداخلية، التي كانت ـ فيما يبدو ـ وراء إستغلال الحماسة المعهودة للعواجي في خوض المنازلات ضد خصوم أيديولوجيين وسياسيين، فقامت بإستنزاف حماسته في معركة أخرى تصيب بشررها رأس السلطة. لا ريب أن اللغة اللاهبة في مقالة العواجي بعثت دخاناً كثيفاً حول حرية الكلام التي منحت له كيما يطلق العنان لقلم مدجج بنصوص قرآنية فيما تتوشح نصائحه رداءً دينياً، ليعيد قذفها لاحقاً كتلاً من نار على كل من يختلف معه. لقد أثنى العواجي في رواية محبوكة بإتقان على دور الداخلية، وأخرجها من دائرة النقد، وقد أخبرت التطورات اللاحقة بأن من أبلغه عن إرتقاء القصيبي الى مستوى يفوق مكانة الأمراء، في عملية تذكير هابطة بالنظام المراتبي السلطوي، وكأنه يكتب بلسان المثلومين داخل العائلة المالكة، وتحديداً من أمراء الجناح السديري الذين أغضبهم تقريب الملك لأشخاص يقعون خارج دائرة الامتياز العائلي لآل سعود. إن مبدأ المفاضلة الذي لجأ اليه العواجي في مقالته أفشى سر الجهة التي تقف وراءه، ولا يمكن لمن يغيضه قرب القصيبي وغيره من الملك أن يعتمد المعيار ذاته في تثبيت حق أو نفيه، وكأنه أراد أن ينفي شيئاً لاثبات نقيضه فوقع في تناقض مكشوف. علاوة على ذلك، يخبر مبدأ المفاضلة في مقالة العواجي عن أنه مارس الدور ذاته الذي يعيب به على القصيبي، فقد وضع نفسه في موقع المناصر للداخلية التي أوكلت اليه مهمة كشف خبايا تنامي دور النخبة الليبرالية في السلطة، فأراد الاضطلاع بدور المحامي عن الجناح المتضرر، وهم مجموعة من الامراء في الجناح السديري وبخاصة الامير نايف ومن يليه.

بعد يومين من اعتقال العواجي، حدث ما يلفت الانتباه، فقد صرّح ولأول مرة اللواء منصور التركي المتحدث بإسم وزارة الداخلية السعودية لوكالة رويترز في الثاني عشر عشر من مارس بأن الداخلية السعودية لا تملك أي معلومات عن الشيخ محسن العواجي، وأنه ليس في سجون وزارة الداخلية، في إشارة واضحة الى أن العواجي قد تم اعتقاله من قبل جهات مقرّبة من الملك عبد الله. وهذه المرة الاولى التي تنفي وزارة الداخلية بصورة علنية علاقتها بإعتقال شخص في إشارة غير مباشرة الى أن ثمة جهات أخرى مسؤولة عن ذلك. كما لم يسبق للاجهزة الامنية إعطاء تصريح لوسائل الاعلام بخصوص معتقلين سياسيين، حيث كان الامير نايف متمسكاً بتصريح ثابت (ليس لدينا معتقلون سياسيون). وقد سخر البعض من تصريح اللواء التركي كونه مصدراً واسع الاطلاع على ماجريات الوزارة الناطق بإسمها. إن تصريح اللواء التركي نيابة عن الامير نايف يستبطن إحراجاً غير مباشر للملك عبد الله بنفي مسؤولية الداخلية عن اعتقال العواجي، اضافة الى كونه ينطوي على ترضية للتيار السلفي القريب من وزارة الداخلية.

العواجي أفشى السرّ!

لم يطل بقاء العواجي في التوقيف رغم قسوة النقد الذي أصاب الملك عبد الله بتصويره مجرد (أذن) أو كما وصفه مصدر في المعارضة السلفية والمقرّب من العواجي بأنه (طرطور وفاشل ويُتحكم فيه). لا ندري مالذي دفع رجل الدين والمحامي الشيخ عبد العزيز القاسم والمقرّب من الشيخ العواجي للتصريح بأن الاخير رهن الاعتقال لدى الشرطة السعودية، وأنه قد يظل رهن الاعتقال لعدة أسابيع. ولكن القاسم الذي يمثّل خطاً وسطياً حقيقياً ويميل الى صياغة خطاب ديني معتدل ويدعو الى إدخال اصلاحات سياسية وتعليمية وقضائية، أراد فيما يبدو تأكيد خبر اعتقاله من قبل الشرطة التابعة لوزارة الداخلية.

مهما يكن، فإن إعتقال العواجي لم يحيله الى رمز وطني، ولم يدخله في صفوف الاصلاحيين الذين خرجوا بهامات مرفوعة، ولم تكن جرأته في اختراق الخط الأحمر، عبر انتقاد الملك عبد الله، قد جعلته لاعباً يحطم الرقم القياسي السابق، فقد خسر قبل إعتقاله، حين تهكم بطريقة ساخرة على خصومه، ولم تقف نباله عند القصيبي وحده بل أصابت كل من يختلف معه، وخسر ثانية حين تكشّف الغرض المبيّت من مقالته النارية ضد القصيبي وصولاً الى الملك، وظهر كما لو أنه ناطق بلسان غيره، جمعه به الهدف المشترك الآني، وخسر أخيراً بعد الافراج عنه حين تم حجب موقعه (الوسطية) الفاقد لمعناها.

على أية حال، فإن المنازلة الثقافية في معرض الكتاب وتداعياتها بما فيها مقالة العواجي تدخل ضمن سياق مناكفات ناعمة تجري تحت السطح بين تيارين فكريين وتخفي تجاذباً متنامياً في أعلى السلطة، وقد تنتج المرحلة القادمة صوراً أخرى من التجاذب مع السباق المحموم بين اقطاب السلطة على ترسيخ نفوذهم داخل دوائر إجتماعية واسعة.

لقد بدا واضحاً أن مواقع دينية سلفية متشددة (الساحات) وخبرية (الوفاق) وغيرها من المواقع على شبكة الانترنت تحمل بصمة وزارة الداخلية. ففي موقع الساحات، على سبيل المثال، التي تستقطب تأييداً واسعاً من قبل السلفيين المتشددين وتنشر أفكاراً دينية تحرِّض على العنف والكراهية ضد الآخر غير السلفي، فإن الموقع ينشر مقالات وتعليقات تمجّد وزير الداخلية نايف ونائبه محمد وكذا رجال الامن، في مقابل مقالات يكتبها أناس يتخفّون خلف أسماء وهمية ينالون من الملك عبد الله والمقربين منه وكذا المثقفين الليبراليين.

كتب رئيس تحرير صحيفة الرياض تركي السديري مقالة في العشرين من مارس الماضي حول أولئك الذين يختبئون خلف أسماء مستعارة ليوجّهوا بحرية مطلقة إنتقادات لشخصيات سياسية وفكرية وأدبية معروفة مثل محمد عبده يماني وغازي القصيبي ومحمد آل زلفه وعبد الله الغذامي. وقد وجّه السديري من طرف غير مباشر تهمة الى تلك الاسماء الوهمية التي تنشر مقالات في الوسطية واخواتها والتي وصفها بأنها بمثابة دكاكين (أبو ريالين) (يتّجه لها كل صاحب محفظة دينية أو ثقافية خاوية)، كونها تقوم بعملية تحريض عنف آلي. وذكر السديري مثالاً من موقع الساحات التي نشرت ما وصفه (لغواً بذيئاً) بحقه حيث إتهمه أحدهم بالافطار والسكر في نهار أحد أيام رمضان.

وفيما يبدو من ثنايا مقالة السديري، أن خلف الاشباح التي تقف وراء الموقع يقبع شخص أو جهة معروفة تشرف على هذا الموقع الذي لم يطله قرار الحجب، وقد أصاب هذا القرار عشرات لم تتجاوز حدود الادب واللياقة والتسامح في لغتها الحوارية. نقول ذلك، لأن السديري أنهى مقالته بتساؤل إستنكاري ينطوي على إشارة لجهة ما (هل صحيح مثلما ذكرت إحدى الصحف أن هناك باكستانياً ومغربياً يحرضان ويفتريان بأسماء مستعارة؟.. هما يقودان إلى ماذا.. وتفهم أن أكثر من جهاز مهم للغاية يستفيد من هذا التداخل الصاخب.. لكن هل يجوز أن يُترك لهم استباحة كل محظور؟..).

ما سبق يلفت الى أن التشققات السياسية على السطح الثقافي لا تشي، ضرورة، بولادة حلم التعددية الذي يدفن الواحدية معه، فالتشويه بات يصبغ كل أوجه حياة هذا البلد بدءا من التربية والثقافة ومروراً بالتنمية والبنى الفوقية أو الكبرى للمجتمع وصولاً الى البنية السياسية. إن إكراه الجميع على خوض المعارك بالنيابة لا يهدف سوى الى تعطيل طاقة البحث عن حلول حقيقية لمشكلات الدولة، حيث يتم إنضاب مجهود الجميع في هامش حياتهم لصالح مركز حياة غيرهم.

قد تبدو الصورة الظاهرة منقسمة بين خط الملك عبد الله المعضود من قبل القوى الليبرالية وخط الامير نايف المسنود من قبل القوى السلفية المتشددة.. أليس هكذا يتم إبلاغنا عن صورة الانقسام الداخلي؟ حسناً، ولكن هل ثمة ما يفرز الخطين بصورة حاسمة وقاطعة في هيئة سياسات وبرامج. أليس الملك هو راعي المسيرة الاصلاحية التي فقدت بقدرة قادر حتى المسمى، فأصبحت تطويراً. هل يومىء ذلك الى وجود انفراز فرقي؟، وأليس الملك هو الذي أقام الدنيا ولم يقعدها حول مبادرة للاصلاح عابرة للحدود، فأراد أن يمدّ ظلها الى جغرافية الجوار العربي كي ينعم بما حصل عليه من عبقرية إصلاحية كل ربوع الوطن الكبير من البحر الى البحر، فاختار بيروت منصّة لاطلاق مبادرته الاصلاحية ذات الطابع القومي والدولي.

بعيداً عن التفاصيل المريبة حول التصنيف الفرقي على خلفية سياسية متّصلة بقمة الهرم السلطوي، فإن المناخ الداخلي بات مؤاتياً لانبعاث التيارات الثقافية الخاملة والمهمّشة، وان كانت تقع ضمن المدرجين الثقافيين الكبريين: الحداثي الليبرالي والتقليدي السلفي. كيف يتمظهر كل تيار إجتماعياً وسياسياً يبقى رهن الظروف السياسية المحلية والاقليمية أيضاً، كما يبقى رهن المواضعات السائدة في الدائرة العليا للسلطة، وفي الاخير يبقى رهن إرادات الاطراف المشاركة في عمليات التجاذب الداخلية بأشكالها الثقافية والاجتماعية والسياسية.

وفيما يبدو، فإن النتوء الثقافي لتفاوتات سياسية مضمرة بين أجنحة الحكم يبقي الباب مفتوحاً على احتمالات جذب المزيد من الاطراف للمشاركة الى السطح السياسي عبر لافتات ثقافية، مع التذكير بتحفظات البعض حول الانخراط الكثيف في لعبة الكبار على مصالح خاصة تحرق طاقة الجميع، ولا تهدف سوى الى تعميق حالة الانقسام الاجتماعي وليس تعويد المتخالفين ثقافياً على قبول وممارسة مبدأ التعدد بما هو حالة ثقافية وحقوقية تقتضي إقراراً بحق الآخر في الوجود والتعبير عن ذاته بحرية تامة مكفولة قانونياً.


الصفحة السابقة