جيش الإخوان الوهابي: بنى الدولة فتمّت تصفيته!

تبرير القتل للمعارضين بفتاوى مشايخ السوء

"خوارج" الوهّابيّة، أم مخرجاتها التكفيرية والعنفية؟!

الوهابية مطـيّة سياسيّة مجدداً

الأمير نايف منظّراً: خوارج اليوم امتداد لخوارج الأمس، واستقرار الأمة يعتمد على سلامة الفكر!

الأمير سلمان مدافعاً عن أيديولوجية الحكم: لا دعوة "وهابية" وأتحدى مَنْ يأتي بحرف يثبت مخالفة الشيخ للكتاب والسنّة!

عبد الوهاب فقي

فيما تتواصل عملية النقد والتجريح لمشايخ المؤسسة الدينية ولأسس تفكيرها والذي له علاقة بإمكانية تكفير الحكم السعودية وتبديعه، وبالتالي الخروج عليه.. وذلك في الإعلام المحلّي والمنتديات التي يرتبط أصحابها بصلات وثيقة من الأمراء.. لاتزال العائلة المالكة في حيرة من أمرها في كيفية التعاطي مع مشايخها ومع الفكر الوهابي عامّة. حيث تجد الفعل ونقيضه، كما تجد الرؤى المتناقضة بشأنها والدور الذي يمكن أن تؤديه: الدعم والإضعاف؛ المديح والذم (التسقيط)؛ الخوف من الوهابية ومشايخها من جهة، والرغبة في استثمار قوتها لصالح الحكم وشرعنته؛ ضربها والضرب بها الآخر؛ أسلمة المجتمع بالقوة الوهابية وإخراجها الناس من الدين عبر الضغط؛ توحيد المجتمع والدولة، وشقّه عبر إثاراتها الطائفية والعنفية؛ وهكذا.

على الدوام فإن للوهابية وجهان، ولكل وجه عَمَلَه ووظيفته في مرحلة من المراحل التاريخية، ما جعلها غير قادرة على التكيّف مع متطلبات نظام العائلة المالكة المتقلّب، وكذلك مع احتياجات الدولة.

ماذا تريد العائلة المالكة بالضبط من الوهابية؟

ليس هناك جواب حاسم لهذا الأمر.

الوهابية وبناء الدولة

في بداية عهدها، وجد عبدالعزيز أنه لا يستطيع أن يصنع له ملكاً بدون الوهابية، وكان العلماء الوهابيون يقولون ويلحّون عليه: (اجعلها دعوة، اجعلها دعوة) كما كانوا يفعلون مع أسلافه. فالملك يضيع بدون دعوة وهابية، كما حدث في الدولة الثانية؛ والملك الضائع يمكن استعادته بالدعوة، وليس بدونها.

حسنٌ.. قال له عبدالله بن جلوي، إن الوهابية/ الإخوانية كالنار تحرق ما حولها. كان ذلك عام 1914. لكن ابن سعود لم يستمع لابن عمه، فهو كان يبحث عن مطيّة لصناعة مُلك، وليس هناك مقاتلين متعصبين يكفرون العالم ويبررون احتلال الأراضي وسلب الناس أملاكهم باعتبارهم كفار غيرهم.

وهذا ما حدث.. صنعت الوهابية: مشايخ وجيش/ الإخوان المجد السعودي.

وعاد ابن سعود لتصفية الجيش المنتصر بعد أقلّ من سنتين من إعلان مملكته، مملكة الحجاز ونجد وملحقاتها، وبالتحديد بين عامي 1928 ـ 1930.

اكتشف الإخوان الذين تمت تصفية قيادتهم: فيصل الدويش، ابن بجاد، ابن لامي، ابن حثلين، وبعد الإعتداء غير الأخلاقي على نسائهم وأطفالهم وأملاكهم في مجازر متعددة، ساهم فيها البريطانيون كما يوضح ذلك بالتفصيل ديكسون، المعتمد السياسي البريطاني في الكويت، في كتابه (الكويت وجاراتها).. اكتشف هؤلاء الخدعة، وحسب تعبير ديكسون:

(فهم عامة الإخوان الآن ـ 1930 ـ أن ابن سعود أطلق صرخة الدين سنة 1914 لأغراضه الخاصة. لذلك شعروا بالألم والندم لأنهم استخدموا كمطية. لم تعد لديهم رغبة في الولاء أو في الإندفاع... كان المرء يجد حتى بين القبائل الموالية... شعوراً بخيبة أمل مريرة. الشعور السائد أن ابن سعود... لم يقف الى جانبهم كما كن مفروضاً ان يفعل. فهم على كل حال الذين رفعوه الى المكانة التي احتلها. [لقد] طلب مساعدة البريطانيين وبها تمكن من سحق رعاياه المسلمين. لم يعد البدو يطلقون على ابن سعود لقب الإمام.. وأصبح يعرف بعد ذلك بالوهابي، وخاصة بين أولئك الذين ثاروا ضده، كصفة للتحقير أكثر من أي شيء آخر.. وبرزت ظاهرة أخرى مهمة وهي أن الكوفية البيضاء التي كانت رمزاً "للأخ" الصالح لم تعد ترى إلا نادراً. ليس معنى ذلك أن مذهب الإخوان قد انقضى، فقد بقي في الوجود ولكن على شكل إحساس به. وفي 1931 كان مذهب الإخوان قد تخلى عن كل تعصباته غير المعقولة).

ويضيف: (لقد حصلت على هذه المعلومات من عدد من زعماء الأخوان، ومن ممثلين عن كل قبيلة. ولستُ أعتقد أن مذهب الإخوان سينتعش ويعود للحياة مرة أخرى، مع أنه من غير الحكمة التنبؤ في بلاد أعاد التاريخ فيها نفسه مرات ومرات). وفي عام 1934 بعد وفاة الدويش في السجن: (يمكن القول إن مذهب الإخوان الحماسي قد ولّى الى غير رجعة. وكان ابن سعود يعرف ذلك، فلم يكن يرغب في إشعال النار مرة أخرى. فمذهب الإخوان القائم على الدين والتعصب أخطر من أن يكون لعبة في يديه. لقد أخطأ مرة ولن يعيدها) (الكويت وجاراتها، ص 342-344).

وهكذا أدّت الوهابية غرضها في التكفير الذي على أساسه جاء الغزو والقتل والإحتلال للمناطق، فكان أن قامت الدولة السعودية بسيطرة نجدية وهابية، تمت بعدها تصفية الجناح العقائدي العسكري وبنفس الحجة التي كان الجيش وعبدالعزيز والمشايخ الوهابيين يستخدمونها ضد المذاهب الإسلامية الأخرى في مرحلة التوسع والإحتلال: (كفار) وأضافوا اليها نعت (الخوارج) على الجيش الوهابي الإخواني.

فهل انتهت مهمّة الوهابية، وبدأت مرحلة الدولة؟

مرحلة ما بعد الدولة

لم يتخلّى السعوديون عن الوهابية، بل عن جناحها العسكري الذي بدل أن يكفر المسلمين الآخرين، زاد الجرعة وكفّر الملك وبعض المشايخ المهادنين له. الوهابية صانعة الدولة، كانت شريكة في الحكم، وقد أُتيح لها التبشير بالمذهب الوهابي داخلياً، خاصة في الجنوب والحجاز، وتدمير سلطة الحجازيين الدينية ونقلها الى الرياض وبريدة في نجد، وهو ما تم فعلاً. الوهابية في مرحلة ما بعد إعلان الدولة كانت مطلوبة من الأمراء، ولكن ليس بجناحها العسكري، الذي تحوّلت بقاياه الى الجيش الأبيض ومن ثمّ الحرس الوطني، وقام الى جانبها نواة لجيش نظامي ورثه آل سعود من جيش الحجاز.

ـ فالوهابية كانت مطلوبة لشرعنة الحكم دينياً في المحيط النجدي الأقلوي، لأن المناطق الأخرى تعتبر كافرة حتى وإن تم احتلال أرضها، وبالتالي فالنخبة السياسية والمؤثرة في السياسة لاتزال يومها والى اليوم في محيط نجد.

ـ والوهابية كانت مطلوبة في مجتمع غارق في الأمية لتحتل برجالها مؤسسات الدولة الجديدة، خاصة الدينية والتعليمية والقضائية منها.

ـ والوهابية كانت مطلوبة لتخيف دول الجوار خاصة في العراق والأردن واليمن، حيث الهاشميين وحكم الإمامة الزيدي. وهي مطلوبة أيضاً لتشكل مظلّة دينية لحكم يسيطر على الأماكن المقدسة، كما أنها مطلوبة للتبشير داخلياً وبين الحجاج والمعتمرين من الخارج.

أما القرار السياسي الأساس، فكان بيد آل سعود، والوهابية التي بدت وكأنها شريك في الحكم، وصانعة له، صارت تحت السيطرة، وخاضعة لقرارات الملك.

بقي الأمر على هذا النحو طيلة ما تبقى من عهد ابن سعود (ت ـ 1953)، وعهد ابنه سعود (ت ـ 1968)، بالرغم من محاولات المفتي محمد بن ابراهيم آل الشيخ توسعة إطار تأثير الوهابية لتتمدد الى مؤسسات الدولة أكثر وأكثر. ولما بدا للملك فيصل أن الوهابية بفكرها ومشايخها تحدّ من انطلاقة بناء الدولة الذي تأخر، سعى الى ضبط المؤسسة الدينية، وأضعف تأثيرها أكثر، من خلال نظام مجلس هيئة كبار العلماء وتشريعات تعليم البنات وتأسيس التلفزيون وما أشبه، لهذا لا يكنّ الوهابيون بمشايخهم وجمهورهم للملك فيصل عاطفة الودّ الى أن قتل في مارس 1975.

قادة ثورة الإخوان: من اليمن بن حثلين، الدويش، بن لامي

شيطنة الوهابية من جديد

في عهد فهد استدعيت الوهابية للخدمة من جديد، ولكن بوجهها المتطرّف والمتشدد. ليس الغرض هذه المرة بناء الدولة، ولا شرعنتها، فهذان قد تمّ تحصيلهما ولم تكن هناك مشكلة (كبيرة) في هذا الشأن. وإنما الغرض متعدد الوجوه كما سنرى، بحيث تمّ إخراج مكنونات الوهابية بوجهها العنفي والتكفيري لخدمة أغراض السياسة وليتم الإنقلاب عليها مرّة أخرى مثلما فعل الأب من قبل.

بعد عام 1975 كان الحكم اسمياً للملك خالد، وأما الحاكم الفعلي فهو فهد الى أن أصبح ملكاً إسماً وفعلاً عام 1982 الى بضع سنوات ما قبل وفاته 2005. وقد تدهورت سيطرة الملك على الحكم بعد إصابته بالجلطة عام 1996.

فهد يعتبر الأكثر إجراماً بين أبناء الملك عبدالعزيز، وهو الأكثر تغرّباً وفساداً وانحلالاً. ولكنه ـ يا للعجب ـ أعظم من دعم الوهابية منذ نكبة جناحها العسكري على يد والده أواخر العشرينيات الميلادية من القرن العشرين، وأكثر ملوك آل سعود شعبية بين الوهابيين ومشايخهم حتى اليوم!

تحدّيان واجها فهد، وعجّلا باستخدام الوهابية في (المعارك الخارجية) وبالضروي كانت تلك المعارك لها علاقة بالوضع المحلّي وتلقي بتأثيراتها عليه. في عام 1979 انتصرت الثورة في إيران بوجه إسلامي، فكان ذلك بمثابة ضربة للنموذج السعودي الديني والسياسي، فضلاً عما تشكله من تحدّ سياسي وأمني في المحيط الإقليمي. وما هي إلا أشهر قلائل حتى قام جهيمان العتيبي ذي الأصول الإخوانية الوهابية المتشددة بانتفاضته (الغبيّة) ليسيطر على الحرم المكي الشريف تحقيقاً لنبوءة خروج المهدي والخسف الذي سيلحق بالجيش السعودي ومن ورائه حكم العائلة المالكة.

التحديان فرضا على فهد منح سلطات وإمكانيات غير مسبوقة للوهابية لتلعبها في المحيط الداخلي والخارجي. جاءت ابتداء بمثابة استرضاء لها ولجمهورها، ولتأكيد شرعية العائلة المالكة، خاصة وان النموذج الإيراني خشي من تمدده الى الجانب السعودي وقد يغري بعض المشايخ الباحثين عن سلطات موسّعة للنسج على منواله (لاحظ أن غازي القصيبي في مقالاته التي وضعها في كتاب: حتى لا تكون فتنة، أنه أوضح بأن الشيخ سلمان العودة يدعو لولاية الفقيه مثل الخميني، وإن لم يذكرها بالإسم). وبدل ان ينتظر فهد مطالبة الوهابية بالمزيد من السلطات استرضاهم قبل السؤال، وكان الإسترضاء كبيراً. لكن هذا لم يكن كافياً، فالروح الإخوانية/ الوهابية القديمة التي وجهت لبناء دولة آل سعود ثم ضدّهم ظهرت من جديد بتأسيس أصولي على المعتقد والأفكار الوهابية، فكان لا بد من عزل تيار المعارضة للحكم، عبر استرضاء المشايخ الذين اعتادوا ان يكونوا في صف السلطان.

ومن حسن حظ فهد أن تلك الروح المتمردة على التغريب والعمالة والفساد والتي شهدتها سنوات الطفرة النفطية، وجدت لها متنفساً رائعاً بل نموذجياً حين احتل السوفيات افغانستان عام 1980. فكان الحدث بمثابة (هدية السماء) لآل سعود وللأمريكيين أيضاً. قذف فهد بالشحنات الوهابية الى خارج الحدود لتقاتل الشيوعية في أفغانستان بدلاً من أن تنفجر بوجهه على الطريقة الجهيمانية؛ وأرضى بذلك الأمريكيين في حربهم على الشيوعية عبر جعل أفغانستان محرقة للجنود السوفيات؛ فيما كان النظام والمشايخ يطمعون في تقديم نموذج ديني ثوري أفغاني ـ وليس نموذجاً سعودياً ـ يضاهي النموذج الإيراني الوليد.

وجهة أخرى أخذتها مؤسسات الدولة السعودية في تلك الفترة، خاصة بعد اندلاع الحرب العراقية الإيرانية بتحريض وتمويل سعودي خليجي غربي، بحيث تحوّلت مؤسسات الدولة السعودية السياسية والدينية وكل الجماعات التي تدعمها السعودية، وكل مؤسساتها في الخارج من مراكز اسلامية ومساجد ومؤسسات تعليمية لتعمل على جبهتين إثنتين: تلطيخ سمعة إيران والتشيّع من جهة؛ ودعم الجهاد الأفغاني على الجبهة الأخرى ورفده بالرجال والشيوخ والمال والسلاح.

وقد نجح السعوديون والأميركيون في كلتي الجبهتين، على الأقل الى حين! فقد خسر السوفيات حربهم في أفغانستان؛ وانتهت الحرب العراقية الإيرانية بخسارة مادية وسياسية فادحة لإيران.

اكتشف السعوديون الأفغان (كما كان يسمّون) أنهم ـ مثل الإخوان الأوائل ـ قد استخدموا كمطية للأمريكيين وآل سعود؛ وما أن بدأت ملامح التمرد من قبل العائدين، وحتى قبل عودتهم من أفغانستان، حتى بادر النظام الى اعتقالهم، واعتبر وجودهم في أفغانستان دليلاً على تآمرهم، وأنهم كانوا هناك يتعلمون السلاح لتنفيذ معارك ضد آل سعود!! ونسي هؤلاء الأخيرون أنهم هم الذين كانوا يحرضونهم على الجهاد ويعطونهم التذاكر والأموال، وأن الفتاوى صدرت بالمئات لتعزيز ذلك التوجه!

هؤلاء ـ السعوديون الأفغان ـ اعتبروا خوارج، كما جهيمان، كما أسلافه الإخوانيين بناة الدولة السعودية!

ومن رحم الحدث الأفغاني تولّدت (القاعدة) الوهابية؛ ومنها قامت تفجيرات نيويورك وواشنطن في 2001، وتفجيرات الرياض المتكررة منذ 1996 والى اليوم.

أي دور جديد للوهابية؟

لا يبدو أن الوهابيين استفادوا من أسلافهم، ولطالما بقوا مطايا سياسية لخدمة العائلة المالكة: تحالفات لتحقيق غرض العائلة المالكة السياسي، لا تلبث أن تتحول الى تصفية وعداء، حين لا يقبل الوهابي بدور المطيّة والشريك الأدنى. كما لا يبدو أن آل سعود استفادوا من دروس أبيهم، التي تحدث عنها ديكسون أعلاه، فالنار الوهابية أصعب من أن تحتوى، وقد ثبت أنه يمكن استخدام الوهابية ضد الآخر، لكنها سترتد على النظام السياسي، أو على النسيج الإجتماعي، وتتحول الى معوّق للدولة كما هي الآن فعلاً. أو تتحول الى حجر عثرة في تطبيع علاقات السعودية مع عدد من البلدان العربية والإسلامية.

بعد أحداث 11 سبتمبر، وفي خضم الدفع الأميركي لمحاربة الإرهاب والإصرار على أن يفك آل سعود تحالفهم مع الوهابية التي تفرّخ العنف والإرهاب ـ عاد آل سعود الى التفكير مجدداً: ماذا نفعل بالوهابية ورموزها ومؤسساتها؟

لم يكن آل سعود قادرين على الإنفكاك عن الوهابية ولا كانوا راغبين في ذلك، فعملية فصل التواءم التي يطبّل لها السعوديون في مستشفياتهم لا يمكن لها أن تنجح في فصل التوأمين الوهابي السعودي، فعلى الأقل سيقضى على أحدهما، إن لم يكن الإثنين. وكحلّ مؤقت، وانطلاقاً من سدّ أبواب الريح التي تعكّر صفو العلاقات مع الغرب، قامت السعودية بتدمير البنى التحتية لكل المؤسسات الخيرية التي لها نشاطات في الخارج والتي كانت ممولاً حقيقياً للقاعدة، فهذه المؤسسات هي وهابية وكانت والقاعدة يشتركان في معظم الأهداف الدينية والسياسية، إن لم يكن كلها في بعض الأحيان. القاعدة ليست نشازاً لا من حيث الفكر ولا الممارسة، بل هي التطبيق الأمين لأفكار الوهابية، ومفجرو نيويورك وواشنطن هم نماذج الصناعة الوهابية التي يجب اقتفاء أثرها.

أيضاً، اغلقت السعودية جميع مكاتبها الدينية في السفارات السعودية (ملاحق دينية) والتي كانت تتولى الرقابة على السعوديين في الخارج، وتروّج للوهابية بين المسلمين أينما وجدوا، والتي تمثل صلة الوصل بين النشاط الديني والإستثمار السياسي في بعده الخارجي.

وبادرت بعض الدول الى إغلاق معاهد السعودية الدينية سواء في موريتانيا أو واشنطن أو غيرها، بعد أن ثبت أن الفكر الوهابي بنسخته الأصلية القاعدية يمثل خطراً، كما قامت بالتشدد تجاه الكتب التبشيرية الوهابية القادمة من السعودية كما حدث في المغرب وغيره.

لكن الغرب كان يطالب أكثر من هذا من آل سعود، تكفيراً عمّا فعله الـ 15 انتحارياً سعودياً!: يجب أن تندمج السعودية في مكافحة منتجات الوهابية التي صنعتها، وذلك تحت مسمّى (مكافحة الإرهاب).

كيف تستطيع السعودية أن تحارب أيديولوجيتها التي تستند عليها في الحكم؟!

هذا لا يمكن!

قال الأمراء: إذن نشذّب الوهابية ونعيد تأهيل مشايخها ودعاتها ومؤذنيها وخطبائها، وأرسلوا لأميركا بأنهم أهلوا عشرات الألوف!، وكل ذلك كذب محض، وكل ما فعلوه أنهم نصحوا مشايخهم بان هناك هجمة تستهدف الجميع النظام السياسي والوهابية (مذهب التوحيد الخالص!) وبالتالي لا بد من خفض الصوت وممارسة شيء من التقية، حتى تمرّ سحابة الضغط وتتآكل تدريجيا؛ تلك السحابة استمرت لنحو يقل عن أربعة أعوام (2001-2005).

لم يغيّر الوهابيون معتقداتهم، وأنّى يكون ذلك، وهل المعتقدات بهذه الهشاشة والسهولة التي يجري التخلّي عنها؟!

ولم يغير السعوديون شيئاً كثيراً في المناهج الدراسية التي طالبتهم واشنطن بتنقيتها من التكفير والتهجّم على الأديان وغير ذلك. وحاولوا ونقّوا بعضاً منها، ولكن نخل الوهابية يعني التخلّي عن أساسياتها وهذا غير ممكن. كما أن حذف بعض المسائل لا يعني إلغائها من دائرة الفقه والخطابة والتدريس.

قال مخالفو الوهابية في الداخل والخارج: إضبطوا فتاوى التكفير، ولكن هذا مستحيل كما هو واضح اليوم من تكاثر المكفراتية. إذ يصعب على المشايخ ـ أو معظمهم في الأقل ـ أن لا يجيبوا على أسئلة الجمهور ويفتوه بشأن العقائد أو بشأن السلوك. ومعظم الفتاوى الوهابية بمثابة متفجرات، يخالفهم فيها معظم المسلمين، واصابت تلك الفتاوى عشرات بل مئات المواطنين وبالإسم من كتاب وصحافيين وإعلاميين ومدرسين، إضافة الى تكفير أكثرية السعوديين من الشيعة في الشرق والصوفية الغالبة في الحجاز والإسماعيلية في الجنوب، فضلاً عن تكفير اتباع المذاهب الحنفية والمالكية والشافعية تحت مسميات أشاعرة أو غير ذلك.

ماذا تصنع العائلة المالكة التي ترى أن سيول الفتاوى قد وتّرت علاقاتها مع دول عديدة، والأهم أن فتاوى التكفير والقتل أصابت الغربيين والمسيحيين؟

حاول الأمراء أن يلملموا الوضع بحملة مقابلة تليّن ملمس الوهابية. فدعا الملك عبدالله الى حوار وطني، هو أقرب الى حوار مذاهب في مؤتمره الأول، رفض مشايخ الوهابية من الدرجة الأولى ـ هيئة كبار العلماء ـ حضوره أو امتداحه. وفشل مشروع الحوار الوطني الذي جاء ليلبي دعوات غربية وليوصل رسائل الى الخارج الأميركي بالتحديد.

ذهب الملك بها عريضة أكثر، فحاول أن ينافس الرئيس الإيراني السابق خاتمي، فصار داعية للحوار الديني على مستوى العالم، وتحدث عن لقاء الحضارات وهو الذي لا يجيد قراءة إسمه. ايضاً لم يشارك المشايخ الوهابيون في الدعاية الممجوجة تلك، عدا بضعة نفر من مشايخ الحكومة المقربين جداً.

وأخيراً ظهر لنا آل سعود بمشروع (المناصحة) للتوابين الوهابيين ممن مارسوا أعمال العنف؛ فزوجوهم بعد أن أطلقوا سراحهم، وأعادوا تثقيفهم كما يقال، وأعطوهم وظائف، وهو أمرٌ لم يفعلوه مع أحد من قبل. لكن النتيجة أن 35% منهم عادوا الى القاعدة، والباقي لا يعلم حجم تغيّره. وبين خريجي المناصحة أولئك الذين فروا الى اليمن وأسسوا تنظيماً قاعدياً للبلدين ـ اليمن والسعودية ـ تحت عنوان (تنظيم القاعدة في الجزيرة العربية) كان أحد أفراده مسؤولاً عن محاولة قتل ابن وزير الداخلية محمد بن نايف!

كل هذه المحاولات جاءت لترقيع ما فعله استثمار الملك فهد للوهابية وشيطنتها بعد حادثة جهيمان. ولكن هل من السهولة إعادة العفريت الى قمقمه؟ وهل من السهولة أن تتخلّى الوهابية ـ التي توسعت في تأثيراتها كل الحدود لتخنق المجتمع والدولة ـ عن امتيازاتها الأسطورية؟

ماذا تريد العائلة المالكة من الوهابية بالضبط؟ وأي هدف يراد لها أن تخدمه؟

ماذا تريد العائلة المالكة من الوهابية بالضبط؟ وأي هدف يراد لها أن تخدمه؟ أي كيف يمكن إعادة امتطاء الوهابية لتحقيق أغراض جديدة؟!

العائلة المالكة لا تريد، ولا تستطيع أن تقضي على الوهابية.

سلمان: الجمع بين الولاء لأمريكا وامتطاء الوهابية!

لا تستطيع: لأن المذاهب والأفكار والمعتقدات لا يمكن قتلها، ولكن يمكن إضعافها.

ولا تريد: لأن السعوديين الأمراء أثبتوا في عدّة مواضع بعد عام 2001 انهم ليسوا في وارد الكف عن استخدام الوهابية لتحقيق أغراضهم. لقد استخدموها في دعم القتل والعنف والتفجير في العراق. واستخدموها عبر الأمير بندر في نهر البارد بلبنان (قصة فتح الإسلام). واستخدموها ضد حماس في غزة حين دعموا بالتعاون مع المخابرات المصرية جماعة وهابية للإنقلاب على حماس وتأسيس دولة اسلامية في رفح. وأخيراً استخدموها ولازالوا يستخدمونها في بلدين آخرين: بلوشستان الإيرانية؛ واليمن حيث الإستخدام الواسع للوهابية في الحرب على الحوثيين: عسكرياً وإعلامياً ودينياً. ولقد كانت الوهابية الأداة الأساس لنفوذ السعودية في اليمن وتمزيق نسيجه الإجتماعي عبر تأجيج الطائفية. السلاح الطائفي مطلوب للإستخدام في لبنان وإيران وحتى ضد سوريا. أي أن الوهابية أداة في السياسة الخارجية يراد لها أن تشكّل مصدّاً وبأية طريقة كانت لمنع تهاوي النفوذ السعودي، وجناح المعتدلين العرب. وهذا يعني أن الوهابية مطلوبة للخدمة، ولازالت مرغوبة بأن تقوم بهذا الدور ضد الفئات المعادية للسعودية، والتي هي في العمق معادية لأمريكا وإسرائيل.

والوهابية مرغوب في دورها في توفير بعض الشرعية للحكم السعودية، حتى وإن كانت تلك الشرعية مهلهلة متآكلة.

فهل تريد العائلة المالكة شيئاً آخر، وهل هناك حلّ لهذا غير طريقة الإستيعاب، أو إعادة استيعاب الوهابية لتكون المطيّة التي لا تطيح براكبها كما فعلت مراراً؟

استيعاب الوهابية يعني إعادة تكرار التجربة الماضية التي فعلها ابن سعود وبعده ابنه فهد. اي تقديم الدعم والإمكانات وتوسيع مجال عمل المؤسسات الدينية ومنحها صلاحيات متزايدة على تصرفات الناس وتضييق الحياة الإجتماعية. هذا ما فعله فهد بالضبط. وهذا له فائدة: تحصين العائلة المالكة تجاه أية ضغوط من أجل الإصلاح السياسي؛ وعبر الوهابية يمكن إخماد كل الأصوات الداعية للإصلاح والتغيير السياسي والإجتماعي على أساس مفاهيم الدولة والمواطنة.

وهناك سياسة الإضعاف للوهابية وتقليم أظافرها ليتم إخضاعها وتطويعها قسراً، عبر القرارات الحكومية، وعبر الإفساح المحسوب لنقدها ونقد أفكارها وفتاواها ومشايخها. وهذا له فائدة أيضاً: توسعة هامش الحريات الإجتماعية للجمهور، وإرضاء الأغلبية الساحقة للمواطنين الذين عيل صبرهم من تصرفات أتباعها. وبذا يكسب الحاكم ولاءً يرمم فيه قليلاً من شرعيته، وقد يفيد إذا ما تحقق في أن تكون الفسحة الإجتماعية بديلاً عن الإصلاح السياسي والحقوق السياسية والمدنية.

الوهابية مطيّة مجدداً في صراع الأجنحة

الإستيعاب عبر الترضية وتوسعة الدور؛ والإضعاف عبر تقليص الدور والتشويه الإعلامي، يسيران على خطّ واحد، منذ ست سنوات تقريباً. يستطيع المواطن أن يلاحظ السياستين تمارسان رسمياً جنباً الى جنب، في تلازم عجيب. وكأنها فعل الشيء ونقيضه، بل هو كذلك فعلاً.

سبب هذا التناقض هو أن العائلة المالكة لم تستقرّ بعد على رأي، بسبب الصراع بين الأمراء على الحكم حيث تستخدم فيه الوهابية ورجالها كأداة ومطيّة للوصول الى منافع سياسية، بحيث تقوّي فريقاً ضدّ الآخر. وأيضاً بسبب إغراء المنافع الذي تقدّمه الوهابية الجاهلة سياسياً، والموالية للنظام في جسدها المشائخي العام، مهما تغيّر وتبدّل وتجاوز.

واضحٌ اليوم أن الملك عبدالله يرى تقليص دور المؤسسة الدينية وعدم الإلتفات كثيراً الى آراء مفتيها؛ وهو ـ أي الملك ـ مذ كان ولياً للعهد لا يشعر بارتياح اليها لتشدّدها من جهة، والأهم، من جهة أخرى، أنها منذ زمن طويل باتت أداة بيد الجناح السديري المنافس له. لكن الجناح السديري لا يقبل بذلك مطلقاً، وهو يراهن عليها كما راهن من قبل فأعانته في إزاحة الملك سعود، وفي قمع المعارضين، وفي خنق الوضع الإجتماعي وحبس منافس التغيير.

هذا ـ صراع الأجنحة ـ هو ما يفسر التناقض الكبير في المواقف تجاه الوهابية.

لم نرَ يوماً أن الملك يصرح بأنه يدافع عن هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا قال يوماً أن دولتنا سلفية (اي وهابية)؛ ولم يشخط في صحافي علناً كما فعل نايف لأنه سأل عن صلاحيات هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتجاوزاتها؛ ولا ندد الملك عبدالله يوماً بمن يكتب منتقداً بعض مشايخ الوهابية كما فعل نايف علناً، أو حتى يطردهم من الوظيفة كما فعل هو وأخوه سلطان لرئيس تحرير الوطن الخاشقجي قبل أن يرضيا عنه مجدداً بوساطة الأمير تركي الفيصل.

حين كان الملك يصرّ على إبعاد تعليم البنات عن المشايخ، كانت السيارات الجديدة والميزانية المتزايدة تتضاعف لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بدعم من الجناح السديري. وحين تسعّر الصراع على الحكم، استدعى نايف بعض المشايخ طالباً منهم الردّ على من ينتقدهم وبينهم الملك، حتى صار إسم الملك يلاك بالسوء في مجالسهم.

وفي وقت نجح فيه الجناح السديري في تأجيج النقمة على الملك عبر المشايخ، طرد الملك رئيس مجلس القضاء صالح اللحيدان من منصبه، إلا أن الجناح السديري استرضاه وأمثاله. ومع أن نايف هو اليد القامعة للقاعدة ومتطرفي الوهابية الذين يكفرون الحكومة، إلا أنه يدعمهم في تكفير الآخرين من الحجازيين والشيعة، ويرى رأيهم في كثير من المسائل والطروحات العجيبة، حتى أن نايف صرح قبل أكثر من عقدين من الزمن بأن المرأة لن تقود السيارة مادام هو حيّاً!! كما أنه الشخصية الأكثر جاذبية للتيار السلفي الذي يتغنّى به كثيراً ويمجّده. فهذا الجلاد، يخفّ جرمه مادام ينفح الوهابية بالدعم السياسي والمالي اللازم؛ الى حد أن طلبات مشايخ الوهابية المتطرفة تتجه دائماً اليه. ومن آخر الأمثلة طلب الشيخ البراك في هذا الشهر (مايو) من نايف بأن يطرد الدكتور خالص جلبي من السعودية، وهو الذي أمضى أكثر عمره فيها، لمجرد انه لا يرى رأي الوهابية في بعض المسائل.

الجناح السديري مسيطر على المؤسسة الدينية، وهذه الأخيرة لا تخفي ولاءها له ولممثله المتصدّي وهو نايف، الذي لم يكفه ذلك بل أسس مركزاً للحديث وقامت مؤسسات عديدة حول مسابقة حفظ الحديث توزع فيها جائزة سموه في أكثر من مدينة وبلده! حتى صار الوهابيون يطلقون عليه (أسد الداخلية) و (حامي السنّة)!. بل أن المرء ليعجب بأن وزارة الداخلية تحوي العدد الأكبر من الوهابيين المتطرفين، وأن وزارة الدفاع تستثمر تطرفهم وتشددهم في أي وقت تريده، حتى في الحرب مع الحوثيين جاءت بهم الى الجبهة وهم يلبسون الملابس العسكرية، وحشدتهم للحرب ضد الحوثيين والشيعة عامة حتى داخل البلاد وبدون مناسبة، فظهرت خطابات العريفي التكفيرية منفتلة العقال وكذلك خطابات وتصريحات رموز التشدد والموالين البراك والنجيمي وغيرهم، كما ظهرت منتديات الوهابية المدعومة من الداخلية كمنتدى لجينيات وغيره لتعزز جناح السديريين. حتى المتطرف ناصر العمر وغيره، ممن اعتقلتهم وزارة الداخلية سابقاً، صاروا أقرب كثيراً الى وزير الداخلية وابنه من أي جهة حكومية أخرى. والأمراء السديريون لا يقصرون عن خدمة المشايخ، وكثيراً ما تظهر على النت صور شيكات بالملايين يقدمها سلطان وغيره لهذا الشيخ الوهابي أو ذاك!

ضمن سياق صراع الأجنحة، يمكن فهم خلفية تصريحات الأمير سلمان المدافعة عن الوهابية كأيديولوجية للحكم، وكأداة في المنافسة السياسية المحلية. فقد كتب للحياة رداً على ثلاثة مقالات لمجرد أنها استخدمت لفظة (الوهابية). واضح ان الرسالة المبتغاة من سلمان محلية، وموجهة للتيار السلفي الذي تضيق به العزلة الجماهيرية وحيث توجه له السهام من كل ناحية. في هذا الظرف، كأن سلمان أراد أن يقول للوهابيين من مشايخ وأتباع بأنه يقف معهم وأنه ضدّ تشويه صورة معتقدهم، التي يدعمها جناح الملك. بل يمكن ان يكون سلمان قد زايد على الأمير نايف نفسه في هذا الشأن لغرض تعزيز مواقعه في السلطة؛ فهو يبحث عن ولاية العهد، ويعتقد بأنه أحقّ بالمُلك من نايف نفسه.

ومعلوم ان لا أحد من أمراء آل سعود الماسكين بزمام السلطة اليوم ـ لا بين الكارهين ولا المنافحين عن الوهابية ـ عرف عنه التقوى والإلتزام بالحدود الدنيا كالصلاة والصيام،. وفي أقصى الحالات فإن الدفاع عن الوهابية، يتخذ طابع الدفاع عن الهوية الخاصة/ النجدية، وهذا الدفاع المتكرر من سلمان ونايف يحمل معه رسالة تقول بأن إضعاف الوهابية يعني إضعافاً للحكم (وهذا ما يؤكده مشايخ الوهابية صراحة وعلناً).. ولذا فإن ما قام به سلمان يمكن أن يقرأ أيضاً كمحاولة منه لإيقاف التراجع الحاد لمكانة الوهابية، والذي سيترافق معه تراجع أيضاً (وبنسبة مختلفة) لمكانة العائلة المالكة من جهة مشروعية حكمها.

سلمان ونايف: وسائل متعددة في الدفاع

اعتمد الأمراء في دفاعهم عن (الوهابية) التي تمثّل أيديولوجية الحكم، وسائل متعددة:

* منع النقد للوهابية والمشايخ الرسميين في الصحافة ووسائل الإعلام المختلفة بما فيها الإنترنت، وفصل الصحافيين وحتى رؤساء التحرير إن تعدّوا الخطوط الحمراء. هذه السياسة أصبحت قديمة نوعاً ما. ونقول قديمة بمعنى أن الزمن تجاوزها. فبالرغم من حقيقة أن العائلة المالكة اعتادت ولعقود على تشجيع الصراعات بين التيار الوهابي وغيره من التيارات الفكرية والمذهبية في السعودية، فإن النقاش كان في معظم الأحوال يجري وفق إيقاعات يقررها الأمراء أنفسهم، سواء من حيث مساحة النقاش، أو عمقه، أو زمنه، وفي أكثر الأحوال ينتهي بانتهاء المصلحة الملكية في تمرير سياسة أو أمر ما، أو معاقبة وإضعاف جهة أو شخص، وما أشبه.

النقاش في الغالب كان يدور حول موضوعات غير سياسية، وتحت مسميات الصراع مع الحداثيين، أو الليبراليين، أو العلمانيين أو ما أشبه، وغالباً ما تكون الصحف ميداناً للمعارك، قبل أن تظهر فورة الإنترنت وتساهم في النقاش وزيادة التصارع بين القوى المحلية وهابية كانت أو ليبرالية أو مذهبية ومناطقية. فورة الإنترنت أعاقت الضبط الرسمي لحدود النقاش وطبيعته ومدياته وزمانه، كما أن صراع أجنحة العائلة المالكة بين الملك والسديريين جعلت الجدل حول ممارسات الوهابيين في هيئة الأمر بالمعروف وفي القضاء وفي التعليم وفي الفتاوى وفي التكفير والعنف موضوعاً دائمياً تماشت معه الصحافة المحلية منذ أحداث سبتمبر وحتى الآن. فكلما أطفأ نايف الهجوم على التيار الوهابي المتشدد، جاء حدث جديد ليفجّر الموضوع، وليصطف بعض الكتاب ولو معنوياً وراء الملك (نتذكر هنا مثلاً، أن الملك عبدالله أعطى قلمه هدية للكاتب تركي الحمد الذي تمّ تكفيره، وتهديده بالقتل بتهمة الإرتداد).

لا ننس هنا أيضاً حقيقة أن مجمل تيارات العائلة المالكة بمن فيهم التيار السديري الأقوى رأوا في السنوات الماضية بأن الوهابية بحاجة الى نقد محدود لتعديل سلوك وأفكار رجالها، خاصة فيما يتعلق بتكفير نظام الحكم ورجاله وفيما يتعلق بالتشدد المغالى فيه الجانب الإجتماعي، والتجاوزات الفاقعة على الناس وأعراضهم ودمائهم. لكنهم إنما أرادوا ذلك بمقاييس محددة: أن لا يضعف ذلك الوهابية الذي يعني إضعاف قاعدة الحكم ومشروعيته؛ وأن لا يؤدي الى خسران الوهابية كحليف تاريخي للبيت السعودي. لكن فات نايف وإخوته، أن الإنسداد السياسي والإجتماعي المصاحب للمشاكل الإقتصادية والضغوط الدولية والمنظمات الحقوقية، يدفع بالمواطنين لتوسيع خرم الإبرة بحيث لم يكن النقد في السنوات الأخيرة قابلاً للضبط وفق مقاييس المصلحة والإرادة للعائلة المالكة!

أيضاً لا ننس حقيقة أخرى، أن النقاش والصراع بين التيارين الوهابي والمتسمى بالليبرالي ساقهما الى المزايدة في إعلان الولاء للعائلة المالكة، أو جناح من أجنحتها. وفي حين يتوسّل الوهابيون في مديحهم ودعواتهم ومطالبهم بالأمير نايف وزير الداخلية بالذات، ويعلنون تترسهم خلفه، ويأتون بمقولاته التي تدافع عنهم.. فإن التيار الآخر، يقوم بالتترس بالملك عبدالله وفي بعض الأحيان ـ خوفاً من الداخلية ـ بوزيرها وابنه، واستخدام مقولات الملك وخطاباته في هذا الشأن لمحاربة الطرف الآخر. وعادة ما تجد الفريقين يقولان: نطالب وزير الداخلية بأن يفعل كذا، أو نطالب المسؤولين الإلتزام بما قاله الملك بهذا الشأن كذا وكذا!!

* اعتماد سياسة النفي في الخطاب السياسي الموجّه للخارج. إن خطاب الأمراء والمسؤولين عن الوهابية يعتمد سياسة النفي من أن الوهابية تكفيرية وعنفية، ويحمّل مخرجاتها القاعدية والزرقاوية مسؤولية عدم فهمهم لها وإساءة لاستخدام معانيها ومفرداتها ومعتقداتها. قال وزير التعليم العالي ذات مرة في أمريكا وذلك بعيد أحداث 9/11 بأن الوهابية ظلت لثلاثة قرون منذ تأسيسها دعوة سلمية لا تريد إلا الخير ونشره في كل العالم! والوزير غازي القصيبي تحدث هو الآخر مدافعاً عن الوهابية وقال بأن ابن لادن لا يمثل قيمها، رغم أن التيار الوهابي يعتبر القصيبي رمز العلمانية الأكبر في السعودية، وقد كفره ودخل في سجالات معه. ولكن دفاع القصيبي ووزير التعليم العالي عن الوهابية يمثل دفاعاً عن هويتهما الخاصة/ الفرعية، فالوهابية مكون أساس من مكونات الهوية النجدية، كما أنه يمثل دفاعاً عن أيديولوجية الحكم النجدي.

أما في الداخل، فإن هذا الخطاب لا يمكن أن ينجح. فالجميع يعلم بأن الوهابية (التقليدية) هي التي فرّخت الصحوات، ورجال العنف، والقاعدة. وهناك اتفاق بأن القاعدة بمبادئها وقيمها أكثر أمانة في الإلتزام بالمعتقد الوهابي، وأكثر التصاقاً به، وهي بالتالي ـ وبحق ـ الممثل الأمين للأفكار الوهابية. الوهابية هي مصدر العنف، وهي التي تفرخ الإرهاب، وأن مشايخها هم مشايخ الإرهاب، وأن العنف الذي ضرب المدن السعودية كان أحد منتجاتها. لم يقل أحد في الخارج هذا إلا بعد أن قاله كتاب الداخل وفي الصحافة السعودية الذين كتب أحدهم (د. سليمان الهتلان) ذات مرّة مندداً بالعنف وبذيوله الثقافية تحت عنوان: (أين تفجّر نفسك هذا المساء؟). هذا هو ما يكتب في الصحافة السعودية، ولكن لفظة (الوهابية) لا تذكر أبداً، بل يستخدم مكانها (السلفية التقليدية). ومن أهم من كتب في هذا المجال في عشرات المقالات التأسيسية والقراءات العميقة، هو محمد علي المحمود، والذي لازال يواصل كتاباته في جريدة الرياض.

* الفصل بين الوهابية ومخرجاتها. الأمراء السديريون اعتادوا القول بأن الوهابية تمثل (الإسلام الصحيح) و (العقيدة الصحيحة) و(التوحيد الصافي) من الشرك. لكن هذا المديح المتوقع لأيديولوجية الحكم لا يمكنه أن يغطّي مساوئها وأخطاءها، لذا عمدوا في الخطاب العام الى الدفاع عنها من جهة، وعدم تحميل المعتقد الوهابي ورجال المؤسسة الدينية الرسمية مسؤولية العنف والتكفير والتطرف. لا تخرج تصريحات نايف وسلمان المتكررة عن هذا الخط، بما فيها التصريحات الأخيرة لكليهما.

نايف، ومن تونس (واس، 17 مارس الماضي) حيث يجتمع وزراء الداخلية العرب، قرأ عليهم ورقة هاجم فيها عنفيي القاعدة حين وصفهم بالوصف المعتاد (خوارج) وقال إن: (خوارج اليوم هم امتداد لخوارج الأمس... جمعوا مع حداثة السن، سفاهة العقل وضحالة التفكير، وهو ما يؤكده فعل بعض من انحرف عن الجادة من أفراد مجتمعاتنا المسلمة والعربية، وخرجوا على إجماع أمتهم وولاة أمرهم، وكفروا المجتمعات المسلمة حكاما ومحكومين، واستحلوا الدماء والأموال المعصومة، وفتحوا جبهات على الأمة المسلمة تضعف قدراتها وتعين أعداءها عليها). وقدّم الأمير العلاج من التجربة السعودية: (الأمن الفكري) تشرف عليه المؤسسة الأمنية والتعليمية، وذلك من أجل الوقاية والتحصين ضد الفكر المنحرف، وقال بأن هذا الجهد أثمر في نتائجه على الصعيد السعودي.

طالما وصف آل سعود ومشايخهم معارضيهم من الوهابيين وغيرهم بأنهم خوارج، وهو وصف ينطبق على جميع معتقدي الوهابية، حسب معظم الكتابات القديمة لمشايخ وعلماء عارضوا الوهابية ومؤسسها ووصفوه بأنه خارجي. لكن السعوديين ومشايخهم أصبحوا يطلقون لفظة الخوارج على من عارض النظام، وإن كان قبل قليل يوصف بأنه مجاهد و(داعية توحيد وهابي) مثلما حدث مع قادة الجيش الإخواني الوهابي، ومثلما حدث مع جهيمان الذي توقع ان يوصم بأنه خارجي، ثم يفتى بقتله كما حدث من قبل. يقول في رسالة الإمارة والطاعة والبيعة:

(لم تستطع هذه الدولة ـ دولة آل سعود ـ أن تفعل ما تفعله من التلبيس والتدليس، إلا لأن رعيتها ومن هم في قبضة أيديها كأرانب، دفعت عليها الغنم لاصطيادها وقتلها.... وتجد حكمهم وسلطانهم ـ أي آل سعود ـ قائماً على ثلاث قواعد.. إن وافقتهم وسكت عن باطلهم قربوك واتخذوك حجة على من خالفهم؛ وإن سكت عنهم سكتوا عنك، وربما زادوك وأرسلوا لك الهدايا، وذكروا في حقك هذا الحديث "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده"، وهي كلمة حق أريد بها سكوت عن باطل.. وإن خالفتهم قتلوك بشبهة يسكتون بها الأرانب، فيقولون هو "خارجي"، مع ان أرنبهم لا تعرف معنى "الخارجي".. وأقرب مثال وأوضحه، مؤسس دولتهم والمشايخ الذين كانوا معه في سلطانه، وهم ما بين موافق له ومعزز له بما يشاء، وآخر ساكت عن باطله، وآخر التبس عليه الأمر.. وبعدما لقبهم عبد العزيز بالخوارج، حمل إخوانهم الذين لم يخرجوا معهم على قتالهم... فلما قتلهم وشتتهم، واستقر سلطانه الجبري، والى النصارى، وعطل الجهاد في سبيل الله، وفتح من الشر أبواباً مغلقة. ثم واصل السير على نهجه أبناؤه من بعده، حتى وصلت بلاد المسلمين إلى ما وصلت إليه اليوم من الشر والفساد.. فنقول الآن: أين الحكم بالكتاب والسنة الذي ادّعوا الحكم به أول ملكهم، ويدعيه كل من تجددت له بيعة منهم؟. [ما] حملنا على الكلام في تاريخ هذه الدولة مع أهل الحق الصادقين، وتلقيبهم "بالخوارج" تلبيساً على العوام الجهال، أنه لا يزال إلى اليوم من هو على هذه الضلالة من مشايخ الجهل والضلال، ويعتقدون أن الاخوان الماضين "خوارج"، ويسمون من يدعو إلى الحق الذي جاء في الكتابة والسنة اليوم "خوارج" ويفتون بقتله).

الأمير سلمان وفي نفس اليوم (17 مارس الماضي) وفي حفلة رفع أكبر علم للسعودية في الدرعية (التي انطلقت منها دعوة التحالف السعودي ـ الوهابي) دافع عن الوهابية باعتبارها دعوة سلفية صافية، وقال أنه لا توجد دعوة اسمها "الدعوة الوهابية ". وأضاف: (أتحدى أي شخص أن يأتي بحرف واحد في رسائل وكتب الشيخ محمد بن عبدالوهاب التي أصدرها في عصره يخالف كتاب الله وسنة رسوله). موضحاً أن (أعداء الدعوة الإسلامية ألبسوها هذا المسمى). وبعد نحو شهر كتب مقالة في جريدة الحياة رداً على استخدام ثلاثة من الكتاب لفظة (الوهابية) ذات (المبادئ الصحيحة) و (العقيدة الإسلامية الصافية) وقال أن اساس التسمية (انطلق ـ في الغالب ـ لأجل التشويه والإساءة)، ورفض ما ذكره أحد الكتاب بأن الوهابية تمثل مذهباً مستقلاً شأنها شأن المذاهب الأربعة، كما رفض اعتباره الوهابية وجهاً آخر للسلفية، وأيضاً رفض قوله بأن الوهابية بحاجة الى إصلاح مضامين وممارسات. وتساءل سلمان بذكاء أو غباء!: (كيف نطالب بإصلاح مضامين الدعوة وهي تلك المضامين التي نادى بها القرآن الكريم والسنة النبوية؟) أي أنه اعتبر الوهابية وجهاً متطابقاً وشارحاً أميناً للدين وممثلاً وحيداً صحيحاً عنه. وتحدّى سلمان أي شخص (أن يجد في كتابات الشيخ ورسائله أي خروج على الكتاب والسنة وأعمال السلف الصالح فعليه أن يبرزه ويواجهنا به). وأخيراً دعا الأمير سلمان الكُتّاب والباحثين (إلى عدم الانسياق وراء من ينادي بالوقوع في فخ مصطلح "الوهابية" وأنه مجرد مصطلح، بينما يتناسى هؤلاء الهدف الحقيقي من وراء نشر هذا المصطلح للإساءة إلى دعوة سلفية صحيحة ونقية) نجحت في (قيام دولة إسلامية تقوم على الدين أولاً وتحفظ حقوق الناس وتخدم الحرمين الشريفين وهي الدولة السعودية)! وهنا مربط الفرس!



الصفحة السابقة