(١)

لماذا تقتل الرياض خاشقجي؟

حقاً..

اذا كان جمال خاشقجي «إبن النظام»، أي الشخص الذي كبر في حضن النظام، وخدم النظام، وبقي الى الرمق الأخير مدافعاً مخلصاً عنه (رغم نقده له).. وهذا ما اعترف به السفير السعودي في واشنطن، ابن الملك خالد بن سلمان..

واذا كان جمال خاشقجي، لا يعدّ نفسه معارضاً، بل لم يكن يقبل أن يوصف بأنه (منفيّ) كحقيقة حين خرج أول مرة قبل نحو عام هارباً من «جحيم المهلكة» السعودية..

 

واذا كان الرجل خاشقجي، لا يمثّل خطراً على النظام، كما يقول النظام نفسه..

فلماذا يستدرجه محمد بن سلمان عبر أخيه خالد بن سلمان الى القنصلية السعودية في إسطنبول، ويرسل اليه فريقاً ليقوم بتصفيته؟!

أمران، يحوم حولهما المحللون في سبب إعطاء ابن سلمان أوامره بقتل خاشقجي:

الأول ـ ويتعلق بحقيقة أن جمال خاشقجي هو «ابن النظام» وجاء من صلب الاستخبارات السعودية التي عمل معها دهراً، خاصة في الفترة الممتدة التي تولى فيها الأمير تركي الفيصل مسؤولية الجهاز. ثم لحق به ليعمل معه كمستشار حين اصبح تركي الفيصل سفيراً في لندن، ثم لحقه مرّة أخرى الى واشنطن حين تمّ تعيين الفيصل سفيراً لعائلته هناك.

ولأن جمال ـ يقول المحللون ـ وبسبب قربه من صنّاع القرار، وعمليات الاستخبارات، فإنه كان مطّلعاً على كثير من القضايا والأسرار؛ وعليه خشي محمد بن سلمان أن يفشي جمال ما لديه منها، فقرر التخلّص منه.

الثاني ـ وهو الأهم والأساس بنظري. فجمال خاشقجي كان له ميدانا عمل واسع، ولكن الدائرة الأساس التي كان يتحرك فيها إعلامياً، هي ذات الدائرة التي يعتمد عليها محمد بن سلمان نفسه في بقائه في الحكم، وفي دعم استمرار سياساته المحلية والإقليمية.

 
لماذا لم يدافع تركي الفيصل عن "ابن النظام"؟

بمعنى آخر: المعارضون لآل سعود لهم دوائر تأثير، في محيطهم المحلّي (المناطقي والطائفي والحقوقي وحتى الإعلامي والأكاديمي). لكن رسالتهم، وربما حتى خطابهم، لم يكن مقبولاً لدى صنّاع القرار في الغرب، ولا حتى كانوا مؤثرين كما ينبغي بين الأكاديميين (اذا أخذنا البروفيسورة مضاوي الرشيد مثالاً). والسبب ان خلفية المعارضين لآل سعود حدّت من قبول خطابهم، وبالتالي تأثيرهم، سواء في الدوائر الغربية الحاكمة، او حتى في الإعلام الغربي عامّة.

أما جمال، فكانت له علاقات واسعة، مع كل أطياف الإعلام، ومع حقوقيين، وسياسيين. لكن أثره الأكبر والمباشر والمزعج لإبن سلمان، هو في دائرة صنع القرار الأمريكي تحديداً.

احتُضن جمال خاشقجي في أمريكا. لأن الجميع هناك نظر اليه كواحد من النظام السعودي نفسه (وان اختلف معه قليلاً) وهم يريدون مختلفاً بهذا القدر القليل من الإختلاف والنقد، حتى وإن كان غير مقبول لدى ابن سلمان نفسه.

الغربيون لم يروا الخاشقجي معارضاً، وهو أكّد لهم ذلك.

ووجدوه معتدلاً.. وهم يريدون ناقداً حريصاً على بقاء النظام السعودي نفسه (بعكس المعارضين الآخرين).

ووجدوه دمث الخلق، ورجل علاقات من الطراز الأول، ولكثير منهم معرفة سابقة به كاعلاميين او أعضاء كونغرس وأكاديميين وغيرهم.

 

ورغم ان نقد جمال خاشقجي للنظام وبعض سياساته كان ناعماً، لم تجد فيه النخبة الأمريكية عامة ضرراً على آل سعود، ولا على ابن سلمان تحديداً، ولا على مصالحهم.. لذا أفسحوا له المجال بأن يكتب في صحيفة الواشنطن بوست في مقال اسبوعي. كان جمال يعرف الخطوط الحمراء للنظام، وكذلك خطوط الأمريكيين الحمراء.

هذا النقد الناعم، ولكن المستمر، كان مؤثراً في دائرة لم تستطع المعارضة الوصول اليها، او لم يُسمح لها بإسماع صوتها حتى. هذه الدائرة هي ذاتها دائرة النظام السعودي ومحمد بن سلمان، التي عمل على استمالتها اليه، والترويج لسياساته بينها (كما رأينا ذلك اثناء زيارته الأخيرة لأمريكا).

ومشكلة محمد بن سلمان، أنه وضع كل بيضه في سلّة أمريكا، ولم يكن يعبأ حتى بأوروبا (تحديداً بريطانيا وفرنسا)، فبنظره، ان نيل دعم واشنطن، يُغني عن أي دعمٍ آخر (سنرى ان هذا قد ارتدّ عليه أخيراً).

ولأن رهانه في أمريكا.. كان عمل الخاشقجي مؤثراً. فقد كان الأخير جالساً على ذات المائدة التي يأكل منها ابن سلمان. ووجد الأخير ان خاشقجي ينسف ـ ببطء ولكن بحكمة وذكاء ونعومة ـ الولاءات المركّبة في كثير منها على مصالح شخصية، والتي عقدها هو ـ أي ابن سلمان ـ بحيث أن الخاشقجي زاحمه في دائرة التأثير الأهم على مستقبله.

لهذا كان لا بدّ من قتله سعودياً!

حتى لو لم يكن معارضاً، وحتى لو كان حريصاً على بقاء النظام.. فما قام به خاشقجي من حيث التأثير أعظم أثراً من عمل كل المعارضين خلال العام الذي قضاه في المنفى.

ولذا لا يؤخذ قول المدافعين عن النظام: ان خطاب المعارضين أكثر خشونة ومع هذا لم يتم قتلهم!

الصحيح: ان خطاب الخاشقجي الناعم وقبوله من قبل افراد في دائرة الاستهداف والتأثير السعودي، هو أعظم تأثيراً وخطراً على ابن سلمان، من الخطاب العنيف المعارض.

الصفحة السابقة