(٤)

لماذا لم يكن خاشقجي حذراً؟

اذا كان جمال خاشقجي قد عمل ردحاً من الزمن في جهاز الإستخبارات السعودي، بمعيّة سيّده الأمير تركي الفيصل..

واذا كان خاشقجي يعرف الخطوط الحمراء السعودية، ويعرف إمكانيات الجهاز السعودي، فلماذا لم يدرك تبعات كتاباته ونشاطاته، وتالياً إمكانية استهدافه؟

 
لماذا لم يحذر جمال هذين المجرمين بما فيه الكفاية؟

كيف لشخص مثله، يُقاد بسهولة الى حيث قُتل؟!

هذه الأسئلة تُستحضَرْ لنفي تهمة قتل خاشقجي عن الرياض.

لا شك أن خاشقجي كان حذراً بقدر غير قليل. وكان حريصاً على ألا يكسر الخطوط الحمر، المتوهّمة في أكثرها.

هو ظنّ أنه يقوم بما يقوم به، ضمن (دائرة النقد) غير المقبولة من قبل ابن سلمان وأجهزته؛ ولكن عزاءه هو أنه (مخلص في نقده)، وأنه (ليس معارضاً) لأصل النظام ويؤمن بضرورة بقائه، وأنه يتفق مع النظام في أكثر سياساته، وأنه ما فتئ يؤكد ولاءه للنظام في تغريداته، بل ويهنّيء رؤوس النظام في المناسبات، بما فيها اليوم الوطني، بل ويشيد في أحايين غير قليلة بخطوات النظام في مجالات إيجابية (سواقة المرأة؛ الترفيه، وما أشبه).

لكن جمال خاشقجي.. رغم هذا كلّه، وفي حين أنه (دخل) السفارة السعودية في واشنطن، وحافظ على تواصله مع الشخصيات السعودية الكبيرة القديمة التي يعرفها، أو الجديدة المقربة من محمد بن سلمان (بما فيها سعود القحطاني).. الا انه لم يكن واهماً بشأن (العودة) الى بلاده، رغم توقه الى ذلك. وقد قال للبي بي سي، بأنه لا يفكّر في العودة، وذلك قبل ثلاثة أيام من مقتله.

ثم ان جمال كان يعلم بمدى التغيّر الذي طرأ على البلاد بمجيء ابن سلمان، ان من جهة شدّة القمع، أو من جهة خشونة وقذارة الخطاب. وقد عبّر عن ذلك مراراً بطرق مختلفة في تغريداته بتويتر.

وعليه فإن الزعم بأن جمال لم يكن حذراً لانه يدرك بأن آل سعود لا يقومون بهكذا جرائم قتل في وضح النهار، ليس صحيحاً.

كما ليس صحيحاً ما يقوله كتاب آل سعود بأن خاشقجي كان ينوي العودة الى بلاده (وزاد بعضهم بأنه جاء الى القنصلية لتسوية أوضاعه قبل العودة) وأن المخابرات التركية والقطرية هي التي قتلته لمنعه من العودة وفضح سياسة البلدين.. هذا القول، بل هذا الزعم، لم يأخذ به أحد على نحو جاد، اللهم الا من قبل الذباب الالكتروني السعودي، والى حين أيضاً.

إذن أين كان خطأ الخاشقجي؟

 

يرى صديقه ياسين أقطاي، نائب رئيس حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا، ومستشار الرئيس أردوغان، أن خطأ خاشقجي كان في ثقته بالآخرين؛ وتساءل: هل هذه جريمة؟.

خطأ خاشقجي الوحيد، بل هو خطؤنا كلّنا نحن المعارضين، هو أنه ونحن لم نقدّر بشكل دقيق حجم ومدى العنف الذي يمكن أن يصل اليه آل سعود وأجهزة مباحثهم ومخابراتهم.

خاشقجي، بعد خروجه من السعودية، ذُهل ـ كما توضح تغريداته ـ من تخبّط النظام، وحجم اعتقالاته، كما ذُهل من تنكّر زملاءه في مهنة الصحافة وموقفهم منه، وتشويههم لصورته، وطعنهم حتى في أصوله التركية.

وخاشقجي، وهو يشهد سيل الاعتقالات لأشخاص يعرفهم او لا يعرفهم، من أن النظام لم يعد يفرّق بين الموالي والمعارض، بين الناصح الأمين للنظام ـ مثله ـ وبين (الحاقد) على النظام ورموزه الذين يتمنون زواله وزوالهم.

لكن جمال، رحمه الله، وهو المطّلع على الجهاز، والذي يعلم كما يعلم العالم، انه يختطف معارضيه ـ سابقاً ولاحقاً كما الأمراء في أوروبا ـ لم يتوقع ان دموية محمد بن سلمان يمكن أن تصل الى هذا الحدّ الصارخ من الفجاجة والسادية، فيصبح هو ـ أي خاشقجي ـ ضحية الجهاز الذي عمل معه، وضحية النظام الذي يدافع عنه، وضحية الأصدقاء والزملاء الذين وثق بهم.

هذا خطؤه. بل هو خطؤنا جميعاً في تقدير مدى الدموية للنظام الجديد، ولجهاز الاستخبارات الذي تمّ تفعيل كامل قواه، واختراقه لكل الحدود والأعراف الاجتماعية، التي تُنشر على مواقع التواصل الاجتماعي؛ بما فيها ملاحقة النساء، والحكم باعدامهم، والقبض والتضييق على عوائل المعارضين، وامهاتهم، والاعتداء على اعراضهم.

 
سلمّها تلفونه، وطلب منها الإبلاغ عن اختفائه ان لم يخرج!

جمال وهو يدخل القنصلية السعودية، كان لديه شك، فالاحتمال بالتحقيق معه موجود، وربما حتى إيذائه جسدياً واهانته مثلاً، ولذلك اصطحب معه خطيبته احتياطاً، وسلّمها جهاز هاتفه، ونصحها بالاتصال بأشخاص محددين اذا ما طال غيابه. لكن ان يُختطف أو يُقتل وتقطّع جثته، فهذا لم يدر بخلده، ولا بخلد المعارضين، سيئي النيّة في الأساس بالنظام السعودي.

احتياطاته، تفيد بأنه كان يتوقع السوء من النظام ومخابراته، ولكن تلك الإحتياطات لم تكن كافية لتمنع عملية قتله في وضح النهار وبدم بارد.

ومن هنا كانت المفاجأة له، كما نُقدّر، ومفاجأتنا معه!

غنيّ عن القول، بأن بعض ـ وربما كثير من المؤيدين للنظام من الكتاب والذباب الالكتروني والإعلاميين وحتى الإداريين، وأيضاً من أصدقاء النظام في الخارج ـ لم يصدقوا جميعاً، ان النظام السعودي، يمكن أن يُقدم على عملية أمنية دموية بشعة كهذه، حتى لو تمّ استحضار كل تاريخ النظام، وكل أفعاله القريبة، والتي تفيد بأنه يمكن أن يقدم على جريمته.

التساؤل الذي كان يقوله بعضهم: هل يعقل ان نظاماً مسالماً يمكن أن يقدم على قتل خاشقجي داخل قنصليته ويقطّع جثته إرباً إرباً؟

ويضيف بعضهم: هذا فعل تقوم به أنظمة أخرى، وليس النظام السعودي، وأنه ليس في تاريخ النظام وسلوكه ما يفيد بتوقع ذلك.

النظرة الخارجية الى السعودية وحكامها بقيت ذاتها منذ زمن بعيد، وهي تفيد بأن النظام السعودي رغم تخلفه.. ناعم، وإن كان قد صدر منه بعض التجاوزات (ناصر السعيد والأمراء المخطوفين)، ولكن هذا ليس سلوكاً ممنهجاً.

يغيب عن هؤلاء، ان السعودية التي يعرفونها قد تغيّرت بشكل شبه كلّي.

السنوات الأربع الماضية، أي منذ وصول سلمان وابنه للعرش، تفيد بأن السعودية القديمة قد ذهبت، وأننا بإزاء (سعودية جديدة) تختلف ملامحها وسياساتها وسلوكها مع خصومها الخارجيين والداخليين عما كانت عليه. يكفي ان السعودية الجديدة هي سعودية حرب اليمن، وسعودية المواجهة مع قطر، وسعودية التطبيع مع إسرائيل، وسعودية انقلابات القصر، وهي السعودية التي نفذت أكبر عملية اعدامات علنية في تاريخها دفعة ـ أو وجبة ـ واحدة، وهي السعودية التي اختطفت الحريري وأجبرته على الإستقالة من الرياض وعبر قناة العربية.

 
اختطف الحريري واحتجز (المدمن) ولي العهد ابن نايف!

وبالطبع، فإن جهاز المباحث، وجهاز الاستخبارات الخارجي، قد طوّر عنفه في هذه السعودية الجديدة، سعودية العهد السلماني، تماشياً مع سياسة سلمان وابنه (واللذين هما الأكثر عنفاً وتطرفاً لمن يعرفهما قبل وصولهما الى السلطة).

سلمان، اعتدى جنسياً على ابنة اخته، ثم قتلها بإغراقها في بركة سباحة؛ ثم اختطف أخاها الذي فضح سلمان وقد كان لاجئاً في فرنسا. وسلمان هو الرأس المدبّر لكل سلوك ابنه، بل ان ابنه نسخة منه (الولد سرّ أبيه).

ومحمد بن سلمان، وحسب الغربيين، يضع الرصاصة على الطاولة وهو يحدث منافسيه عن المال ـ وليس السلطة ـ وكان ذلك قبل وصوله اليها!

ابن سلمان الذي لا يعبأ بأحد، فيعتقل كل الأطياف، ويكسر كل المحرمات، وينهب أموال رجال الأعمال علناً، ويتهم ولي العهد السابق بأنه مدمن مخدرات، ووزير الحرس بأنه فاسد، كمبرر لإزاحتهما. ابن سلمان الذي يعاقب المغرد برأي لا يعجبه بسبع أو عشر سنوات سجناً، والذي يهدد رجال مباحثه المواطنين علناً على مواقع التواصل الاجتماعي بلا حياء: (إحذف التغريدة وإلاّ.. بعثنا تغريدتك الى الداخلية..).

أفلا يتوقع من هذا الشاب النزق والمغامر أن يمارس اجرامه بحق خاشقجي وغيره؟

مشكلة البعض أن تقييمه للسعودية وحكامها، هو تقييم قديم (وان كان غير صحيح)، ولا يريد هذا البعض ان يرى السعودية الجديدة على حقيقتها. وبالتالي، فهو يكاد لا يصدق ما يسمع، وما تراه عيناه، حتى لو كانت كل الدلائل تشير الى جريمة نكراء قد تم ارتكابها في قنصلية آل سعود في إسطنبول.

الصفحة السابقة