(٥)

لماذا كانت العملية الإجرامية ساذجة فاشلة؟

من التساؤلات المفضية الى التشكيك في دور الرياض في قتل جمال خاشقجي، هو أن العملية الأمنية الدموية مليئة بالثغرات. فهي عملية طفولية، غبيّة، فاشلة. وعليه لا يمكن ان يصدّق بعض الموالين ان تقوم أجهزة الاستخبارات السعودية بهكذا عملية، مفترضين أن السعودية قوية، وجهاز استخباراتها قوي، وأنها اذا ما أرادت قتله، فهي لن ترتكب هكذا أخطاء، وتنحصر في هكذا خيارات غبيّة.

إذن.. المشكلة بالنسبة لهؤلاء سببها هو أنهم وضعوا جهاز الاستخبارات السعودي في مقام عال، وهو أمرٌ لم يثبت سابقاً ولا لاحقاً. كما يفترض التشكيك أيضاً، أن الأمراء السعوديين، وعلى رأسهم محمد بن سلمان نفسه، لا يمكن لهم ان يسمحوا بالقيام بعملية فجّة خرقاء غير مدروسة جيداً هكذا! فابن سلمان ـ بنظرهم ـ ذكي عبقري لا يقع في هكذا أخطاء.

لنقل ابتداءً: أن تضع شخصاً او جهة ما في
 
البلطجة والغطرسة سبب الفضيحة!
 
دخل ولم يخرج.. سذاجة وأخطاء وغباء ودموية!
 
الواشنطن بوست، أسقطت نيكسون، فهل تُسقط ابن سلمان؟!
 
خطيبة خاشقجي: حضورها فضح الجريمة
 
منفذو الجريمة.. مقربون من الديوان وابن سلمان!
مقام أرفع، او تتصوره في مكان عال يستحقه، ثم لا تتوقع منه فعلاً معيّناً، يكشف عن خلل في التقدير. في تقدير الشخص، او تقدير قوة الجهة الاستخباراتية التي قامت بالعملية.

والحال.. أن كل أجهزة الإستخبارات تقع في أخطاء؛ وكل السياسيين يقعون في سوء التقدير.

ثم لم يُعهد عن جهاز استخبارات آل سعود أنه ناجح، او يُشار له بالبنان. هو ليس الموساد ولا السي آي أيه، وكلاهما أخطآ وفشلا مراراً وتكرارا.

المخابرات السعودية اختطفت المعارض ناصر السعيد في عملية عُدّت أنها (ناجحة) من وسط بيروت في ديسمبر ١٩٧٩، بمساعدة مخابرات فتح (أبو الزعيم)، وبأوامر من الملك فهد، وتنسيق من السفير السعودي في بيروت علي الشاعر.

ناصر السعيد اختفى، اختطف، قُتل بعد أن عُذّب. وهناك معلومات وصلت اكثر من شخصية معارضة او إصلاحية عن هذا الأمر، وكان فهد يعذّبه بنفسه، ويطفيء السجائر في عينيه وأنحاء جسده، قبل التخلّص منه.

لم يثر أحد مشكلة للسعودية في عملية الخطف، التي نفتها الرياض، ونفاها سلطان بن عبدالعزيز، وزير الدفاع الأسبق، وكذلك المقربون.

لا حكومة لبنان تكلمت، ولا الأمريكان ومخابرات الغرب جميعا اهتمت بالأمر.

وبهذا، صارت العملية ناجحة في ظرف سياسي وأمني مثالي للسعودية.

ونجحت الرياض في العهد السلماني القائم، حين اختطفت أكثر من أمير، لأن الدول التي اختطف منها تكتّمت على الأمر ولازالت، ولم يصبح اختطافهم قضية رأي عام.

واختطفت الرياض واحتجزت سعد الحريري في ٢٠١٧، وهو رئيس وزراء لبنان، ولكن عمليتها هذه المرة فشلت، لأن حكومة لبنان وبالذات (الرئيسان عون وبري إضافة الى السيد نصر الله) وقفوا بالمرصاد للملك سلمان وابنه، وتدخلت فرنسا فأنقذته. وكانت العملية فاشلة في كل أبعادها السياسية رغم اعلان الرياض براءتها منها!

ليس كل ما تقوم به المخابرات دقيقاً.

وليس كل ما يأمر به الأمراء، خاصة هذا الغرّ المغرور ابن سلمان، يتحقق بدون أخطاء.

في الأصل، ما كان يجب اختطاف الخاشقجي. لا مبرر لذلك مطلقاً، وكان بالإمكان اخماد صوته بطريقة مختلفة دون القتل، وعبر الإستيعاب.

واذا فهمنا لماذا اختيرت إسطنبول كخيار من الخيارات. فلماذا يكون قتله داخل القنصلية وليس خارجها؟!

هل الرياض ومخابراتها حمقى؟ هل محمد بن سلمان أحمق ليختار القنصلية مكاناً للإعدام؟ هل كانت هناك خيارات أفضل؟

صديق السعوديين، مدير السي آي أيه السابق، جون برينان، قال بأن الرياض مادام لم تقتل او تختطف الخاشقجي من مكان آخر خارج القنصلية، كأن يكون فندقاً أو نحوه، فإنها تصبح مسؤولة بشكل واضح عن مصيره!

تُرى، كيف حسبها ابن سلمان؟

واضح أن همّه كان منصبّاً على تنفيذ عملية (القتل)، ولم يكن يهتم بالطريقة ولا بالأدوات.

وبالطبع فإن جهاز المخابرات كان مهتماً بتنفيذ العملية حسب أوامر سيده ابن سلمان، وربما تعجّل رجال المخابرات فلم يحسبوا الأمور بشكل دقيق، أو ظهرت مستجدات لم يتوقعوها: (مثلاً وجود خطيبته معه)! فهل كانوا يعلمون بوجودها خارج القنصلية؟ واذا علموا لماذا لم يتوقعوا الأسوأ، او كانت أمامهم خيارات أخرى؟!

تزعم الحكومة رسميا بأن جمال خاشقجي مات بصورة عرضية غير مقصودة. بنظرهم كان المطلوب (تخديره لتسهيل عملية اختطافه)، وليس قتله.

لنفترض ان هذا الزعم كان صحيحاً: ما هو القرار الصائب في حال مات بين يدي المخبرين الجلادين؟ هل هو القتل والتقطيع مثلاً؟! ثم من اتخذ قرار التقطيع ـ ان كان مات بفعل المخدر او التعذيب؟! وماذا يُفعل بالجثّة؟ هل تُخفى وأين؟ أم تُلقى في الشارع وكيف؟ واذا كان القرار في الأصل اختطافاً، فلم لا يتم اختطاف الجثة الى السعودية كما كان مقرراً؟!

ثم لماذا كان عدد فريق الإعدام ١٥ شخصاً؟ ولماذا الاتصالات الهاتفية بين رئيس المجموعة مع مدير مكتب ابن سلمان، بدر العساكر، ولماذا صورها المستشار الغبي سعود القحطاني عبر سكايب؟ ولماذا تواصل القتلة المجرمون بمكتب ابن سلمان عبر هاتف القنصلية؟

هذه التساؤلات وغيرها تكشف عن ثغرات واضحة، لم يفكر فيها جهاز الاستخبارات السعودي (العبقري!). حتى في حال ان الأوامر كانت بالقتل الصريح، فإنه كان يجب على المجرمين المنفّذين أن يتقنوا مهمة القتل والتصفية التي جاؤوا من أجلها.

لم يكن فريق التصفية الجسدية لخاشقجي مهنياً، ولا من أدار عملية التصفية كان بمستوى المخابرات الأخرى.

 
القنصل محمد العتيبي.. أكّد الاتهامات بدل دفعها!

الطائرتان وسكن القتلة في فندقين، وأماكن حركتهما، والسيارات، والأكثر احتمالية اختراق المخابرات التركية للقنصلية (دعك من ساعة آي فون).. وسذاجة عرض القنصل محمد العتيبي، وغيرها.. كلها توحي بأن فريق التصفية مجرد بلطجية بلا عقل او فهم، وكأن من أدار العملية مبتدئ متسرّع للقتل بأكثر مما هو متسرّع لعدم ترك أي خيوط تكشفه وتدلّ عليه.

لكن كما قال كثيرون، فإن وجود خطيبة جمال خاشقجي خارج القنصلية بانتظاره، وعدم التفات القتلة الى ذلك، أو حتى عدم اهتمامهم بذلك، كان من أكبر الثغرات، فهي التي فضحت ما حدث، وهي التي تمتلك بيدها جوال المغدور خاشقجي، وهي التي اتصلت على السلطات التركية، وهي التي واجهت الإعلام.. وكل هذه الأمور لم تكن تدر بخلد من أعطى الأوامر بالقتل: محمد بن سلمان.

الصفحة السابقة